أطرق عمق هذه الذاكرة باحثا عن كلمة عن نغمة، عن موقف انساني يوقظ بداخلي لوعة السؤال: من كان ولمن كان؟ كيف لهذه اللغة المتراقصة حروفها أن تكتب عن مبدع ينحدر من سلالة بدأت تعلن انقراضها، عن شاعر ينتمي لجيل أتعب المسافات ولم يتعب، عن فنان ينتسب لعمالقة كوكبنا الفني التراثي، عن انسان يعي جيدا معنى الانتماء للإنسان في كل تفاصيله الغامضة المعقدة والشفافة. فالتاريخ تاريخه لن يعيد نفسه اطلاقا، هو المتفرد بصيغة الجمع، أو ذلك الفرد الجماعي، أو تلك الجماعة المنفردة والمتفردة، المتعدد الأوجه الفنية، الخصب المعطاء، وكما الشمس التي تمنح الدفء ولا تنتظر من يتبرع لها بحضن دافء ساعة ارتطامها بالبحر وقت الغروب، ظل يمشي مع قلة من المشائين، يلتقط ومنذ نعومة وعيه الشقي الباحث عن التفرد، كلمة لقصيدة أو نغمة لبوح غنائي، وقد يلتقط مع كل هذا وذاك تقاسيم وجوه أتعبتها الحياة، يستعيرها، ينصهر بتفاصيلها، فيحولها إلى مشهد فني إبداعي، وقد يعلمنا المشهد كيف هو الإنسان وكيف ينبغي أن يكون.
مولاي عبد العزيز الطاهري، من «ساحة بن صالح» خرج إلينا، حاملا في قلبه لوعة من عاشوا «الدَقّة» في الحياة و«الدِقّة» في اختيار تفاصيل الحياة، مشى مسافات طويلة رفقة أترابه، يسمع، يلتقط و يصور أجمل ما في الحياة، فصار رهين محبس جميل يدعى مجازا بجمالية التراث، لم يكن مولده في «عاشوراء» صدفة، بل قدرا سيلازمه طيلة مساره الحافل بالنجاح من جهة وبالتأثير على كل الفنون التي ستأتي إليه عارية فيكسوها من سحر فنه ويغدق عليها العطاء العميم، كان بحق يعرف كيفية الإنصات لنفسه الأمّارة بالسحر الحلال، ينزوي اليها، يكلمها، يجادلها في ذلك الطفل الذي يسكنه، طفل بألف روح والعمر واحد لا يقبل الانتظار أو التردد، قلبه مشرع لاسقبال كل هذا الجمال الذي يحيط به، دروب وأزقة مراكش، المدينة السمراء الجميلة التي تصدح بالحياة وإيقاعاتها المتنوعة تنوع وخصوبة تراثها الغني حد التفرد، كان طفلا ولا يزال، يمشي إليه، كلما استطاع للمشي الروحي سبيلا، والأسئلة الحارقة توقظ بداخله الرغبة في أن يعلم ويتعلم ويُعَلِّم نفسه قبل غيره معنى أن يلبس عباءة التميز، لا جلباب التبعية والاجترار، ارتوى وتشبع بكل ما لذ وطاب من أطباق تراثية أعلنت التنوع هويةً، ونصبت نفسها منهلا محددا يشع بالغنى، ويعطي مجالات أوسع وأرحب للتحليق والاستثمار الفني والإبداعي.
كان الطاهري سيد نفسه، يتأبط حلمه تارة، وتارة أخرى يمشي خلفه، وهو الحالم حد الشعر و الواقعي حد النقطة الأخيرة في خاتمة قصيدة، في «شبيبة الحمراء» كان الاحتراق الأول في الموعد، كان المخاض في بدايته يتربص به، ينحت على خشبة المسرح تماثيل من عبروا ومن سيعبرون، يكتب يغني ويمثل، بركان من الابداع ينفجر جمالا، والتجسيد سيد المواجهة، والأسئلة الحارقة تلاحقه في كل كلمة في كل خطوة فوق الركح، إنه في حضرة سيد الفنون: من أنا ومن أكون؟ واللغة حبلى بالتأويلات والمتاهات، أكان لزاما أن أمشي خلفي؟ وأن أطاوع هذه النار البركانية المشتعلة بداخلي ومن حولي؟ أكان لزاما أن أعيد ترتيب دقات قلبي على إيقاعات «المازنية» «الدقة» «الهواريات» «اللعابات» «كناوة»....؟ أن أهب نفسي وكل حياتي لطقوس تلامس الروح قبل الأذن، وتستولي على كل مساحاتي النفسية والفكرية ؟ إنه المصير الذي لا مفر منه، إنه قدر الصرخة الأولى في يوم «عاشوراء»، سيكون الرفيق في الطريق وسيلاحقني أينما ذهبت وأينما تواجدت، كلا إننا نموت كل يوم بألف عاهة، والبقية مشدوهة بفضاءات الحمق والجنون، وأنا اخترت أن اعانق جنونا غير الجنون، قررت أن أتبعني في جنوني الآسر هذا، أن أحملني على كتفيا وأن أمضي بي حيث أجدني هناك، أجلس بجانبي، قد أعاتبني على سطر في قصيدة، أو انتقدني في اختياري لإيقاع دون غيره، إنه صلح مع الذات لابد منه، لكي أضمن لنفسي التعايش مع نفسي، فالقادم من الاحتراقات يقتضي ذلك.
المرحوم «المسرح البلدي» «الحي المحمدي»، «السنتير»، والشَّعرُ الطويل الذي يأبى الانصياع للرتابة، وقد أعلن العصيان في وجه كل أنواع المشط، الرافض للحال والمآل، كانوا خمسة وحب الشعب سادسهم، يرتلون الجرح ترتيلا، جرحنا وجرحهم، و جرح كل من سقط سهوا أو عن قصد في مستنقعات التجاهل والحرمان. كان الطاهري هنا يؤسس رفقة خلانه، ليس فقط لظاهرة غنائية أو موجة فنية شبابية، لكن كان يعيد هيكلة العقل المغربي، وزعزعة فهمه الساذج لتصور الوطن و مفهوم المواطنة، لقد أدرك الشباب الخمسة أن الطريق شاق والدرب طويل، وأن التغيير الحقيقي يمكن أن يبتدئ من تهذيب الذوق و عقد تصالح لا مشروط مع التراث، فالمغربي البسيط مسكون بإيقاعاته التراثية القديمة، يجد فيها متنفسه الروحي، فقبل هذا التأسيس المنفرد والمتميز في شكله ورسالته الفنية والإنسانية، كان المغربي البسيط، الفلاح والعامل يعيش المنفى الفني والاغتراب الجمالي، فجاءت «ناس الغيوان» ومعها مجموعات أخرى لكي تعيد للمغربي هويته الغنائية، لتمتزج الإيقاعات التراثية القديمة بالكلمات الهادفة التي تحمل خطابات، أقل ما يقال عنها أنها خطابات توقظ الحجر من سباته، توقظ في الإنسان هويته وإنسانيته كذلك، فأين الطاهري من كل هذا؟ لقد كان بحق أنشودة ندية منحت بسخاء حاتمي قطرات الغيث الأولى، كان اشراقة صبح، منحت الضوء والدفء للخطوة الأولى، كان المحور الدينامي الذي أدار العجلة ومعها المقود صوب الدهشة والجمال، لقد كان رفقة «بوجمعة أحكور» و«العربي باطمة» السواعد التي حملت وتحملت عبء الظهور الأول، كتابة ولحنا وتصورا لفلسفة فنية وغنائية ،ستكتسح العالم، تغنت بالسلم والسلام ،تنبذ الظلم واستعباد الإنسان، وكان الطاهري في مرحلة مشواره هذا، يحفر عميقا فيما اختزنته ذاكرته من نوادر تراثية، يجعلها تطفو على السطح، يضيف إليها من سحره، فتتحول بقدرة من زرع فيه الروح بعاشوراء، الى تحفة غنائية سيكتب لها أن تعمر بيننا طويلا، وأنها ستصبح دستورا إنسانيا، يقصده كل مظلوم ومنبوذ، كل عاشق للحياة وللإنسان في مفهومه الكوني، ويا لغرابة المشهد وسكوت الشهود وحياد المشاهدين ،كيف لرجل بكل هذه الملامح، الكتابة اللحن والتأسيس، ويقصى من المنحة أو الهبة الملكية التي تمنح لكل الأعضاء المؤسسين للمجموعة، فمن كان وراء هذا الإقصاء الممنهج فليتحمل مسئوليته التاريخية أمام لله وأمام التاريخ و أمام الضمير الجماعي.
وبدون سابق إنذار، أبى الطائر الحر إلا أن يحمل وكره بين جناحيه، ويمضي حيث يجد نفسه هناك ، يرسم كوكبا آخر، يحلق في سماء أخرى غير السماء، يغني وينشر البهجة من فوق أقفاص أتعبتها القضبان، من فوق رؤوس أطفال يمدون أيديهم للأمل عله يتبرع لهم بجرعة ابتسامة توقظ بداخلهم إشراقة الحياة، فوق سماء مدينة علمته في الحب والجمال ما لم يكن يعلم، ومضى الطاهري في كتابة تاريخ آخر، أعاد للملحون هيبته وحضوره المتوهجين، أعاد رسم خارطة طريق للفن في صورته الحديثة والحداثية، حيث تتداخل وتنصهر كل الفنون في مشهد واحد بديع، وهو المؤمن بالعرض الفني الشمولي، حيث لأبي الفنون «المسرح» حضوره، والصوت الغنائي والكلمة المزجالة حضورهما، لقد كان بحق مشروعا يغري بالانطلاق والتحليق، إنه الرافض للصورة النمطية التي تجتر الأشكال وتراها غير قابلة للتحوير والتطوير والتجديد، وهو الفنان المبدع الذي لا حدود ولا متاريس لفنه، يركب صهوة الكلمة ويمضي حيث الفكر المجدد، حيث الإبداع هو المحدد، وهو الضمانة الوحيدة على الاستمرار، فما أعظم الرجال عندما تبني بالكلمة، ولا شيء غير الكلمة، قصورا بأعمدة من جمال، وما أعظم الرجال عندما تهمس في أذن المحال أن القلم على أهبة الاستعداد، محشو رصاصه لقصف البشاعة والميوعة ورداءة البصيرة وعتمة الأبصار.
كان الطاهري، ولا يزال، يمشي خلف حلمه، يتعقبه في كل فتوحاته الإبداعية في كل غزواته الفنية، يحرر رقعة فنية من سطوة محتل فني لا يؤمن بالحرية والتحرر الإبداعيين، شيد قلعة غيوانية هناك وحرر مدينة فنية لأهل جيلالة هنا، هو الفاتح بأمر الإبداع، له الحق أن يفخر بكل هاته البطولات، ولنا الحق أن نفخر أننا عشنا في عصره، وأنه كان بالنسبة لجيلي والأجيال الأخرى التي تلت، مدرسة للفن الإنساني النبيل، ومدرسة للتراث والفن الأصيل، لقد كان بحق فاتحا بأمر الابداع.
ولايزال الطاهري إلى يومنا هذا يمشي متكئا على حلمه القديم الجديد، وفيا لعينه الثالثة التي تترصد المشاهد، فتحولها إلى تحف جمالية، مازال يحرض القلم على أن يكسر رتابة بياض الأوراق، يكتب بسخاء قلما تصادفه، يمارس عشقه الأزلي للكتابة بنفس الحب وبنفس الرغبة والعزيمة، فالكتابة عنده حياة، وحياة الطاهري كتاب يعشق ويتغنى بالحياة.
ما كتبته هنا، ليس قراءة في مسار مبدع كبير يدعى مولاي عبد العزيز الطاهري، وإنما هو انبهار بالقيمة الفنية والإبداعية لشاعر فنان أعطى ولم يأخذ في المقابل سوى حب شعب بأكمله، وهذا لعمري أعظم من كل المكافآت.