مولاي عبد العزيز الطاهري.. الفاتح بأمر الإبداع

مولاي عبد العزيز الطاهري.. الفاتح بأمر الإبداع الشاعر مولاي عبد العزيز الطاهري
أطرق‭ ‬عمق‭ ‬هذه‭ ‬الذاكرة‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬كلمة‭ ‬عن‭ ‬نغمة،‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬انساني‭ ‬يوقظ‭ ‬بداخلي‭ ‬لوعة‭ ‬السؤال:‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬ولمن‭ ‬كان؟‭ ‬كيف‭ ‬لهذه‭ ‬اللغة‭ ‬المتراقصة‭ ‬حروفها‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬مبدع‭ ‬ينحدر‭ ‬من‭ ‬سلالة‭ ‬بدأت‭ ‬تعلن‭ ‬انقراضها،‭ ‬عن‭ ‬شاعر‭ ‬ينتمي‭ ‬لجيل‭ ‬أتعب‭ ‬المسافات‭ ‬ولم‭ ‬يتعب،‭ ‬عن‭ ‬فنان‭ ‬ينتسب‭ ‬لعمالقة‭ ‬كوكبنا‭ ‬الفني‭ ‬التراثي،‭ ‬عن‭ ‬انسان‭ ‬يعي‭ ‬جيدا‭ ‬معنى‭ ‬الانتماء‭ ‬للإنسان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تفاصيله‭ ‬الغامضة‭ ‬المعقدة‭ ‬والشفافة‭. ‬فالتاريخ‭ ‬تاريخه‭ ‬لن‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭ ‬اطلاقا،‭ ‬هو‭ ‬المتفرد‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع،‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬الفرد‭ ‬الجماعي،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬الجماعة‭ ‬المنفردة‭ ‬والمتفردة،‭ ‬المتعدد‭ ‬الأوجه‭ ‬الفنية،‭ ‬الخصب‭ ‬المعطاء،‭ ‬وكما‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬الدفء‭ ‬ولا‭ ‬تنتظر‭ ‬من‭ ‬يتبرع‭ ‬لها‭ ‬بحضن‭ ‬دافء‭ ‬ساعة‭ ‬ارتطامها‭ ‬بالبحر‭ ‬وقت‭ ‬الغروب،‭ ‬ظل‭ ‬يمشي‭ ‬مع‭ ‬قلة‭ ‬من‭ ‬المشائين،‭ ‬يلتقط‭ ‬ومنذ‭ ‬نعومة‭ ‬وعيه‭ ‬الشقي‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬التفرد،‭ ‬كلمة‭ ‬لقصيدة‭ ‬أو‭ ‬نغمة‭ ‬لبوح‭ ‬غنائي،‭ ‬وقد‭ ‬يلتقط‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬تقاسيم‭ ‬وجوه‭ ‬أتعبتها‭ ‬الحياة،‭ ‬يستعيرها،‭ ‬ينصهر‭ ‬بتفاصيلها،‭ ‬فيحولها‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬فني‭ ‬إبداعي،‭ ‬وقد‭ ‬يعلمنا‭ ‬المشهد‭ ‬كيف‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬وكيف‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭. ‬

مولاي‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الطاهري،‭  ‬من‭ ‬«ساحة‭ ‬بن‭ ‬صالح»‭ ‬خرج‭ ‬إلينا،‭ ‬حاملا‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬لوعة‭ ‬من‭ ‬عاشوا‭ ‬«الدَقّة»‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬و«الدِقّة»‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة،‭ ‬مشى‭ ‬مسافات‭ ‬طويلة‭ ‬رفقة‭ ‬أترابه،‭ ‬يسمع،‭ ‬يلتقط‭ ‬و‭ ‬يصور‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬فصار‭ ‬رهين‭ ‬محبس‭ ‬جميل‭ ‬يدعى‭ ‬مجازا‭ ‬بجمالية‭ ‬التراث،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مولده‭ ‬في‭ ‬«عاشوراء»‭ ‬صدفة،‭ ‬بل‭ ‬قدرا‭ ‬سيلازمه‭ ‬طيلة‭ ‬مساره‭ ‬الحافل‭ ‬بالنجاح‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وبالتأثير‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الفنون‭ ‬التي‭ ‬ستأتي‭ ‬إليه‭ ‬عارية‭ ‬فيكسوها‭ ‬من‭ ‬سحر‭ ‬فنه‭ ‬ويغدق‭ ‬عليها‭ ‬العطاء‭ ‬العميم،‭ ‬كان‭ ‬بحق‭ ‬يعرف‭ ‬كيفية‭ ‬الإنصات‭ ‬لنفسه‭ ‬الأمّارة‭ ‬بالسحر‭ ‬الحلال،‭ ‬ينزوي‭ ‬اليها،‭ ‬يكلمها،‭ ‬يجادلها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬يسكنه،‭ ‬طفل‭ ‬بألف‭ ‬روح‭ ‬والعمر‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬الانتظار‭ ‬أو‭ ‬التردد،‭ ‬قلبه‭ ‬مشرع‭ ‬لاسقبال‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬به،‭ ‬دروب‭ ‬وأزقة‭ ‬مراكش،‭ ‬المدينة‭ ‬السمراء‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬تصدح‭ ‬بالحياة‭ ‬وإيقاعاتها‭ ‬المتنوعة‭ ‬تنوع‭ ‬وخصوبة‭ ‬تراثها‭ ‬الغني‭ ‬حد‭ ‬التفرد،‭ ‬كان‭ ‬طفلا‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬يمشي‭ ‬إليه،‭ ‬كلما‭ ‬استطاع‭ ‬للمشي‭ ‬الروحي‭ ‬سبيلا،‭ ‬والأسئلة‭ ‬الحارقة‭ ‬توقظ‭ ‬بداخله‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬ويتعلم‭ ‬ويُعَلِّم‭ ‬نفسه‭ ‬قبل‭ ‬غيره‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يلبس‭ ‬عباءة‭ ‬التميز،‭ ‬لا‭ ‬جلباب‭ ‬التبعية‭ ‬والاجترار،‭ ‬ارتوى‭ ‬وتشبع‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬لذ‭ ‬وطاب‭ ‬من‭ ‬أطباق‭ ‬تراثية‭  ‬أعلنت‭ ‬التنوع‭  ‬هويةً،‭ ‬ونصبت‭ ‬نفسها‭ ‬منهلا‭ ‬محددا‭ ‬يشع‭ ‬بالغنى،‭ ‬ويعطي‭ ‬مجالات‭ ‬أوسع‭ ‬وأرحب‭ ‬للتحليق‭ ‬والاستثمار‭ ‬الفني‭ ‬والإبداعي‭.  ‬

كان‭ ‬الطاهري‭ ‬سيد‭ ‬نفسه،‭ ‬يتأبط‭ ‬حلمه‭ ‬تارة،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬يمشي‭ ‬خلفه،‭ ‬وهو‭ ‬الحالم‭ ‬حد‭ ‬الشعر‭ ‬و‭ ‬الواقعي‭ ‬حد‭ ‬النقطة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬قصيدة،‭ ‬في‭ ‬«شبيبة‭ ‬الحمراء»‭ ‬كان‭ ‬الاحتراق‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬الموعد،‭ ‬كان‭ ‬المخاض‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬يتربص‭ ‬به،‭ ‬ينحت‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭ ‬تماثيل‭ ‬من‭ ‬عبروا‭ ‬ومن‭ ‬سيعبرون،‭ ‬يكتب‭ ‬يغني‭ ‬ويمثل،‭ ‬بركان‭ ‬من‭ ‬الابداع‭ ‬ينفجر‭ ‬جمالا،‭ ‬والتجسيد‭ ‬سيد‭ ‬المواجهة،‭ ‬والأسئلة‭ ‬الحارقة‭ ‬تلاحقه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬خطوة‭ ‬فوق‭ ‬الركح،‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬سيد‭ ‬الفنون:‭ ‬من‭ ‬أنا‭ ‬ومن‭ ‬أكون؟‭ ‬واللغة‭ ‬حبلى‭ ‬بالتأويلات‭ ‬والمتاهات،‭ ‬أكان‭ ‬لزاما‭ ‬أن‭ ‬أمشي‭ ‬خلفي؟‭ ‬وأن‭ ‬أطاوع‭ ‬هذه‭ ‬النار‭ ‬البركانية‭ ‬المشتعلة‭ ‬بداخلي‭ ‬ومن‭ ‬حولي؟‭ ‬أكان‭ ‬لزاما‭ ‬أن‭ ‬أعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬دقات‭ ‬قلبي‭ ‬على‭ ‬إيقاعات‭ ‬«المازنية»‭ ‬«الدقة»‭ ‬«الهواريات»‭ ‬«اللعابات»‭ ‬«كناوة»‭....‬؟‭ ‬أن‭ ‬أهب‭ ‬نفسي‭ ‬وكل‭ ‬حياتي‭ ‬لطقوس‭ ‬تلامس‭ ‬الروح‭ ‬قبل‭ ‬الأذن،‭ ‬وتستولي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مساحاتي‭ ‬النفسية‭ ‬والفكرية‭ ‬؟‭ ‬إنه‭ ‬المصير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه،‭ ‬إنه‭ ‬قدر‭ ‬الصرخة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬«عاشوراء»،‭ ‬سيكون‭ ‬الرفيق‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬وسيلاحقني‭ ‬أينما‭ ‬ذهبت‭ ‬وأينما‭ ‬تواجدت،‭ ‬كلا‭ ‬إننا‭ ‬نموت‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بألف‭ ‬عاهة،‭ ‬والبقية‭ ‬مشدوهة‭ ‬بفضاءات‭ ‬الحمق‭ ‬والجنون،‭ ‬وأنا‭ ‬اخترت‭ ‬أن‭ ‬اعانق‭ ‬جنونا‭ ‬غير‭ ‬الجنون،‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أتبعني‭ ‬في‭ ‬جنوني‭ ‬الآسر‭ ‬هذا،‭ ‬أن‭ ‬أحملني‭ ‬على‭ ‬كتفيا‭ ‬وأن‭ ‬أمضي‭ ‬بي‭ ‬حيث‭ ‬أجدني‭ ‬هناك،‭ ‬أجلس‭ ‬بجانبي،‭ ‬قد‭ ‬أعاتبني‭ ‬على‭ ‬سطر‭ ‬في‭ ‬قصيدة،‭ ‬أو‭ ‬انتقدني‭ ‬في‭ ‬اختياري‭ ‬لإيقاع‭ ‬دون‭ ‬غيره،‭ ‬إنه‭ ‬صلح‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬لابد‭ ‬منه،‭ ‬لكي‭ ‬أضمن‭ ‬لنفسي‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬نفسي،‭ ‬فالقادم‭ ‬من‭ ‬الاحتراقات‭ ‬يقتضي‭ ‬ذلك‭.‬

المرحوم‭ ‬«المسرح‭ ‬البلدي»‭ ‬«الحي‭ ‬المحمدي»،‭ ‬«السنتير»،‭ ‬والشَّعرُ‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬يأبى‭ ‬الانصياع‭ ‬للرتابة،‭ ‬وقد‭ ‬أعلن‭ ‬العصيان‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭  ‬المشط،‭ ‬الرافض‭ ‬للحال‭ ‬والمآل،‭ ‬كانوا‭ ‬خمسة‭ ‬وحب‭ ‬الشعب‭ ‬سادسهم،‭ ‬يرتلون‭ ‬الجرح‭ ‬ترتيلا،‭ ‬جرحنا‭ ‬وجرحهم،‭ ‬و‭ ‬جرح‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سقط‭ ‬سهوا‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬قصد‭ ‬في‭ ‬مستنقعات‭ ‬التجاهل‭ ‬والحرمان‭. ‬كان‭ ‬الطاهري‭ ‬هنا‭ ‬يؤسس‭ ‬رفقة‭ ‬خلانه،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لظاهرة‭ ‬غنائية‭ ‬أو‭ ‬موجة‭ ‬فنية‭ ‬شبابية،‭ ‬لكن‭ ‬كان‭ ‬يعيد‭ ‬هيكلة‭ ‬العقل‭ ‬المغربي،‭ ‬وزعزعة‭ ‬فهمه‭ ‬الساذج‭ ‬لتصور‭ ‬الوطن‭ ‬و‭ ‬مفهوم‭ ‬المواطنة،‭ ‬لقد‭ ‬أدرك‭ ‬الشباب‭ ‬الخمسة‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬شاق‭ ‬والدرب‭ ‬طويل،‭ ‬وأن‭ ‬التغيير‭ ‬الحقيقي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يبتدئ‭ ‬من‭ ‬تهذيب‭ ‬الذوق‭ ‬و‭ ‬عقد‭ ‬تصالح‭ ‬لا‭ ‬مشروط‭ ‬مع‭ ‬التراث،‭ ‬فالمغربي‭ ‬البسيط‭ ‬مسكون‭ ‬بإيقاعاته‭  ‬التراثية‭ ‬القديمة،‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬متنفسه‭ ‬الروحي،‭ ‬فقبل‭ ‬هذا‭ ‬التأسيس‭ ‬المنفرد‭ ‬والمتميز‭ ‬في‭ ‬شكله‭ ‬ورسالته‭ ‬الفنية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬كان‭ ‬المغربي‭ ‬البسيط،‭ ‬الفلاح‭ ‬والعامل‭ ‬يعيش‭ ‬المنفى‭ ‬الفني‭ ‬والاغتراب‭ ‬الجمالي،‭ ‬فجاءت‭ ‬«ناس‭ ‬الغيوان»‭ ‬ومعها‭ ‬مجموعات‭ ‬أخرى‭ ‬لكي‭ ‬تعيد‭ ‬للمغربي‭ ‬هويته‭ ‬الغنائية،‭ ‬لتمتزج‭ ‬الإيقاعات‭ ‬التراثية‭ ‬القديمة‭ ‬بالكلمات‭ ‬الهادفة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬خطابات،‭ ‬أقل‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عنها‭ ‬أنها‭ ‬خطابات‭ ‬توقظ‭ ‬الحجر‭ ‬من‭ ‬سباته،‭ ‬توقظ‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬هويته‭ ‬وإنسانيته‭ ‬كذلك،‭ ‬فأين‭ ‬الطاهري‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا؟‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬بحق‭ ‬أنشودة‭ ‬ندية‭ ‬منحت‭ ‬بسخاء‭ ‬حاتمي‭ ‬قطرات‭ ‬الغيث‭ ‬الأولى،‭ ‬كان‭ ‬اشراقة‭ ‬صبح،‭ ‬منحت‭ ‬الضوء‭ ‬والدفء‭ ‬للخطوة‭ ‬الأولى،‭ ‬كان‭ ‬المحور‭ ‬الدينامي‭ ‬الذي‭ ‬أدار‭ ‬العجلة‭ ‬ومعها‭ ‬المقود‭ ‬صوب‭ ‬الدهشة‭ ‬والجمال،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬رفقة‭ ‬«بوجمعة‭ ‬أحكور»‭ ‬و«العربي‭ ‬باطمة»‭ ‬السواعد‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬وتحملت‭ ‬عبء‭ ‬الظهور‭ ‬الأول،‭ ‬كتابة‭ ‬ولحنا‭ ‬وتصورا‭ ‬لفلسفة‭ ‬فنية‭ ‬وغنائية‭ ‬،ستكتسح‭ ‬العالم،‭ ‬تغنت‭ ‬بالسلم‭ ‬والسلام‭ ‬،تنبذ‭ ‬الظلم‭ ‬واستعباد‭ ‬الإنسان،‭ ‬وكان‭ ‬الطاهري‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مشواره‭ ‬هذا،‭ ‬يحفر‭ ‬عميقا‭ ‬فيما‭ ‬اختزنته‭ ‬ذاكرته‭ ‬من‭ ‬نوادر‭ ‬تراثية،‭ ‬يجعلها‭ ‬تطفو‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬يضيف‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬سحره،‭ ‬فتتحول‭ ‬بقدرة‭ ‬من‭ ‬زرع‭ ‬فيه‭ ‬الروح‭ ‬بعاشوراء،‭ ‬الى‭ ‬تحفة‭ ‬غنائية‭ ‬سيكتب‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تعمر‭ ‬بيننا‭ ‬طويلا،‭ ‬وأنها‭ ‬ستصبح‭ ‬دستورا‭ ‬إنسانيا،‭ ‬يقصده‭ ‬كل‭ ‬مظلوم‭ ‬ومنبوذ،‭ ‬كل‭ ‬عاشق‭ ‬للحياة‭ ‬وللإنسان‭ ‬في‭ ‬مفهومه‭ ‬الكوني،‭ ‬ويا‭ ‬لغرابة‭ ‬المشهد‭ ‬وسكوت‭ ‬الشهود‭ ‬وحياد‭ ‬المشاهدين‭ ‬،كيف‭ ‬لرجل‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬الملامح،‭ ‬الكتابة‭ ‬اللحن‭ ‬والتأسيس،‭ ‬ويقصى‭ ‬من‭ ‬المنحة‭ ‬أو‭ ‬الهبة‭ ‬الملكية‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬لكل‭ ‬الأعضاء‭ ‬المؤسسين‭ ‬للمجموعة،‭ ‬فمن‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬الإقصاء‭ ‬الممنهج‭ ‬فليتحمل‭ ‬مسئوليته‭ ‬التاريخية‭ ‬أمام‭ ‬لله‭ ‬وأمام‭ ‬التاريخ‭ ‬و‭ ‬أمام‭ ‬الضمير‭ ‬الجماعي‭. ‬

وبدون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار،‭ ‬أبى‭ ‬الطائر‭ ‬الحر‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬وكره‭ ‬بين‭ ‬جناحيه،‭ ‬ويمضي‭ ‬حيث‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬هناك‭ ‬،‭ ‬يرسم‭ ‬كوكبا‭ ‬آخر،‭ ‬يحلق‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬السماء،‭ ‬يغني‭ ‬وينشر‭ ‬البهجة‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬أقفاص‭ ‬أتعبتها‭ ‬القضبان،‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬رؤوس‭ ‬أطفال‭ ‬يمدون‭ ‬أيديهم‭ ‬للأمل‭ ‬عله‭ ‬يتبرع‭ ‬لهم‭ ‬بجرعة‭ ‬ابتسامة‭ ‬توقظ‭ ‬بداخلهم‭ ‬إشراقة‭ ‬الحياة،‭ ‬فوق‭ ‬سماء‭ ‬مدينة‭ ‬علمته‭ ‬في‭ ‬الحب‭ ‬والجمال‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعلم،‭ ‬ومضى‭ ‬الطاهري‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬تاريخ‭ ‬آخر،‭ ‬أعاد‭ ‬للملحون‭ ‬هيبته‭ ‬وحضوره‭ ‬المتوهجين،‭ ‬أعاد‭ ‬رسم‭ ‬خارطة‭ ‬طريق‭ ‬للفن‭ ‬في‭ ‬صورته‭ ‬الحديثة‭ ‬والحداثية،‭ ‬حيث‭ ‬تتداخل‭ ‬وتنصهر‭ ‬كل‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬واحد‭ ‬بديع،‭ ‬وهو‭ ‬المؤمن‭ ‬بالعرض‭ ‬الفني‭ ‬الشمولي،‭ ‬حيث‭ ‬لأبي‭ ‬الفنون‭ ‬«المسرح»‭ ‬حضوره،‭ ‬والصوت‭ ‬الغنائي‭ ‬والكلمة‭ ‬المزجالة‭ ‬حضورهما،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬بحق‭ ‬مشروعا‭ ‬يغري‭ ‬بالانطلاق‭ ‬والتحليق،‭ ‬إنه‭ ‬الرافض‭ ‬للصورة‭ ‬النمطية‭ ‬التي‭ ‬تجتر‭ ‬الأشكال‭ ‬وتراها‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للتحوير‭ ‬والتطوير‭ ‬والتجديد،‭ ‬وهو‭ ‬الفنان‭ ‬المبدع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬ولا‭ ‬متاريس‭ ‬لفنه،‭ ‬يركب‭ ‬صهوة‭ ‬الكلمة‭ ‬ويمضي‭ ‬حيث‭ ‬الفكر‭ ‬المجدد،‭ ‬حيث‭ ‬الإبداع‭ ‬هو‭ ‬المحدد،‭ ‬وهو‭ ‬الضمانة‭ ‬الوحيدة‭ ‬على‭ ‬الاستمرار،‭ ‬فما‭ ‬أعظم‭ ‬الرجال‭ ‬عندما‭ ‬تبني‭ ‬بالكلمة،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬الكلمة،‭ ‬قصورا‭ ‬بأعمدة‭ ‬من‭ ‬جمال،‭ ‬وما‭ ‬أعظم‭ ‬الرجال‭ ‬عندما‭ ‬تهمس‭ ‬في‭ ‬أذن‭ ‬المحال‭ ‬أن‭ ‬القلم‭ ‬على‭ ‬أهبة‭ ‬الاستعداد،‭ ‬محشو‭ ‬رصاصه‭ ‬لقصف‭ ‬البشاعة‭ ‬والميوعة‭ ‬ورداءة‭ ‬البصيرة‭ ‬وعتمة‭ ‬الأبصار‭.‬

كان‭ ‬الطاهري،‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬يمشي‭ ‬خلف‭ ‬حلمه،‭ ‬يتعقبه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬فتوحاته‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬غزواته‭ ‬الفنية،‭ ‬يحرر‭ ‬رقعة‭ ‬فنية‭ ‬من‭ ‬سطوة‭ ‬محتل‭ ‬فني‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بالحرية‭ ‬والتحرر‭ ‬الإبداعيين،‭ ‬شيد‭ ‬قلعة‭ ‬غيوانية‭ ‬هناك‭ ‬وحرر‭ ‬مدينة‭ ‬فنية‭ ‬لأهل‭ ‬جيلالة‭ ‬هنا،‭ ‬هو‭ ‬الفاتح‭ ‬بأمر‭ ‬الإبداع،‭ ‬له‭ ‬الحق‭ ‬أن‭ ‬يفخر‭ ‬بكل‭ ‬هاته‭ ‬البطولات،‭ ‬ولنا‭ ‬الحق‭ ‬أن‭ ‬نفخر‭ ‬أننا‭ ‬عشنا‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬بالنسبة‭ ‬لجيلي‭ ‬والأجيال‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تلت،‭ ‬مدرسة‭ ‬للفن‭ ‬الإنساني‭ ‬النبيل،‭ ‬ومدرسة‭ ‬للتراث‭ ‬والفن‭ ‬الأصيل،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬بحق‭ ‬فاتحا‭ ‬بأمر‭ ‬الابداع‭. ‬

ولايزال‭ ‬الطاهري‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬يمشي‭ ‬متكئا‭ ‬على‭ ‬حلمه‭ ‬القديم‭ ‬الجديد،‭ ‬وفيا‭ ‬لعينه‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬تترصد‭ ‬المشاهد،‭ ‬فتحولها‭ ‬إلى‭ ‬تحف‭ ‬جمالية،‭ ‬مازال‭ ‬يحرض‭ ‬القلم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكسر‭ ‬رتابة‭ ‬بياض‭ ‬الأوراق،‭ ‬يكتب‭ ‬بسخاء‭ ‬قلما‭ ‬تصادفه،‭ ‬يمارس‭ ‬عشقه‭ ‬الأزلي‭ ‬للكتابة‭ ‬بنفس‭ ‬الحب‭ ‬وبنفس‭ ‬الرغبة‭ ‬والعزيمة،‭ ‬فالكتابة‭ ‬عنده‭ ‬حياة،‭ ‬وحياة‭ ‬الطاهري‭ ‬كتاب‭ ‬يعشق‭ ‬ويتغنى‭ ‬بالحياة‭.‬

ما‭ ‬كتبته‭ ‬هنا،‭ ‬ليس‭ ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬مبدع‭ ‬كبير‭ ‬يدعى‭ ‬مولاي‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الطاهري،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬انبهار‭ ‬بالقيمة‭ ‬الفنية‭ ‬والإبداعية‭ ‬لشاعر‭ ‬فنان‭ ‬أعطى‭ ‬ولم‭ ‬يأخذ‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬سوى‭ ‬حب‭ ‬شعب‭ ‬بأكمله،‭ ‬وهذا‭ ‬لعمري‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المكافآت‭.‬