الخميس 28 نوفمبر 2024
فن وثقافة

عبد الجبار الراشيدي: المساري كان رجل دولة مهووس بحب الوطن

عبد الجبار الراشيدي: المساري كان رجل دولة مهووس بحب الوطن عبد الجبار الراشيدي والراحل محمد العربي المساري
وصف عبد الجبار الراشيدي عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال إن محمد العربي المساري ( 1936- 2015 ) بالرجل الاستثنائي المتفرد بصيغة الجمع، وطني كبير، رجل دولة مهووسا بحب الوطن، دافع عن مغرب الديمقراطية والحرية والكرامة ، واعتبر أن حرية الرأي والتعبير والصحافة هي أم الحريات، وقدم إسهامات وازنة على مستوى قوانين الصحافة والنشر، وقوانين الاتصال السمعي البصري بالبلاد. 
وأوضح الراشيدى الذي كان يتحدث يوم الجمعة 7 يوليوز 2023 بالرباط خلال حفل توقيع اتفاقية تسليم خزانة كتب المساري إلى المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، بحضور عدد من الشخصيات السياسية والثقافية والإعلامية والنقابية والجمعوية، أن الصحافة كانت هي الرئة التي يستنشق منها المساري هواء الحرية، ومهنة الصحافي بالنسبة له  مصدر فخر واعتزاز وكشف في هذا الصدد، أن المرحوم حينما كان قيد حياته" وزيرا للاتصال يملئ استمارة السفر في المطار ويكتب عليها : المهنة صحافي. وحدث أن نبهه أحد موظفي المطار بأن صفته هي الوزير ، وكان جوابه، أن الوزير ليست مهنة بل مهمة فقط ، بينما الصحافة هي مهنته".

رجل النزاهة والكفاءة
وأضاف الإعلامي والباحث عبد الراشيدي الذي اشتغل إلى جانب المساري في الحزب و النقابة الوطنية للصحافة المغربية ووزارة الاتصال، أنه كان شاهدا على : " كيف اجتمعت في الرجل قيم النزاهة والكفاءة ونكران الذات، والجد والصرامة في العمل والمثابرة، وإعطاء عامل الوقت قيمة كبيرة ، ومتابعة أدق التفاصيل"، مشيرا إلى أنه رحمه الله كان " يدون كل شيئ، حتى أثناء حضوره لمناقشة الرسائل والاطروحات، كان يدون الملاحظات والأفكار المهمة. لم يجر يوما وراء المناصب، بل هي التي كانت تختاره ،ظل متعففا شامخا كالجبل، رجل جمع بين الأخلاق والعلم والتواضع. لكنه في نفس الوقت رجل دعابة إذ كان يتخلل أسلوبه الجدي فواصل من الدعابة والمرح".

 
وفي مايلى نص كلمة عبد الجبار الرشيدي:
" مرة أخرى يأبى المرحوم محمد العربي المساري إلا أن يجمعنا اليوم بمناسبة الذكرى الثامنة لوفاته، في هذا الحدث الثقافي المميز، وفي هذا الفضاء المهيب، وبحضور نخبة من رجالات الفكر والثقافة والسياسة ، والسفراء، والأساتذة الجامعيين ورجالات ونساء الإعلام، والمهتمين ، للاحتفاء بحدث تسليم مكتبته إلى المكتبة الوطنية. المساري الذي دأب على تقاسم المعلومات في حياته، يصر حتى بعد وفاته على تقاسم كم هائل من المعلومات والأفكار ، ويضعها رهن إشارة الجميع.
مكتبة محمد العربي المساري إضافة نوعية للرصيد الغني الذي تكتنزه هذه المكتبة العتيدة ، وهي نتاج ثروة حقيقية راكمها الرجل طيلة حياته وهي ثروة  القراءة والمعرفة والتوثيق والبحث والإنتاج والتأليف. وهي إضافة نوعية كذلك لأن صاحبها رجل لا يبحث إلا عن ذرر الكتب ونواذرها، ولا ينتقي من المكتبات إلا أجودها. فقد كان رحمه الله يسافر كثيرا إلى مختلف دول العالم، وكانت زيارة كبريات المكتبات في هذه الدول نقطة ثابتة في برنامج الرحلة، ولا يعود إلا وهو محملا كل مرة  برزمة من الكتب.
وتضم هذه المكتبة ما يناهز 3500 كتاب من مجالات وحقول معرفية مختلفة، تترجم الاهتمامات المتعددة لمحمد العربي المساري، من التاريخ والآداب والسياسة، والثقافة والفن، وبلغات متعددة كالعربية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية، والبرتغالية، كما ألف رحمه الله أكثر من 20 مؤلفا كان أخرها كتاب اسبانيا الأخرى، كان من تقديم الدكتور حسن أوريد، أن الكتاب يسائل  النخب في البلدين لتجاوز عقد التاريخ وعداواته، والتوجه إلى بناء المستقبل  المشترك، من خلال تجاوز الأفكار المسبقة والقطع مع بعض المواقف الاسبانية الماضوية  التي تعتبر المغرب عمقا استراتيجيا لاسبانيا، من منطلق أن من يسيطر على الضفة  الجنوبية للمتوسط، يهيمن أيضا على ضفته الشمالية.
  وفي الأيام الماضية تم تقديم النسخة الإسبانية من الكتاب في الدار العربية بمدريد . وهي من تقديم  ميكل انخيل موراتينس وزير الخارجية الإسباني الاسبق ، حيث يقول فيه "«لقد بحث دائما العربي المساري عن إسبانيا الأخرى، إسبانيا التي تعيد اكتشاف تاريخها المشترك مع المغرب، خصوصا إسبانيا المستعدة لبناء علاقة جديدة مع المغرب خلال القرن الواحد والعشرين. لقد تم نشر الترجمة الإسبانية في لحظات مهمة من العلاقات المغربية الإسبانية، فالصور النمطية ما زالت حاضرة في مجتمعاتنا، وبقلق كبير نتابع الظهور من جديد لعناصر تريد العودة بنا إلى إسبانيا القديمة. قراءة هذا العمل سيساعد الرأي العام الإسباني لفهم أفضل للأسباب والمشاعر العميقة للمجتمع المغربي اتجاه الإسبان".

 
انشغال بدول الجوار
 اهتم سي العربي رحمه الله بدراسة التاريخ والجغرافيا السياسية، لفهم الحقائق والوقائع التاريخية، والتي تسعف كثيرا في استيعاب الحاضر والمستقبل، و انشغل كثيرا بدول الجوار، وألف كتاب المغرب ومحيطه في جزئين، ودافع بشراسة عن قضية الصحراء المغربية في كتاباته وفي لقاءاته في المنتديات الوطنية والدولية، كما كرس مجهوداته لتفكيك و فهم طريقة تفكير النخب السياسية لدول الجوار وخلفياتها و محددات مواقفها من المغرب وقضاياه الاستراتيجية سواء كانت هذه النخب من الإطبلشمنت كما كان يسميها، عندما يتعلق الأمر بالجار الشرقي أو النخب ذات المنشأ الديمقراطي كما في حال الجار الشمالي.  
اهتم محمد العربي المساري كثيرا بدراسة  الصورة الذهنية للإسبان وتمثلاتهم الاجتماعية والسياسية حول المغرب والمغاربة، وكذا صورة اسبانيا لدى المغاربة، وكان يعتبر أن هناك العديد من مناطق العتمة التي ينبغي إضاءتها في تاريخ العلاقات بين المملكتين لفهم جيد للآخر ولمحو الصورة السلبية لكليهما عن الآخر، وقد اشتغل على هذا الأمر سواء عندما كان عضوا في لجنة ابن رشد المغربية الإسبانية،أو عندما كان عضو المجلس الإداري لمؤسسة الثقافات الثلاث للمتوسط، أو عندما كان كاتبا عاما لاتحاد كتاب المغرب، و للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، أو في أعماله البحثية، ولقاءاته مع النخب السياسية والمثقفين والصحافين الإسبان.
أما بالنسبة لصورة المغرب لدى الإطبلشمت الشرقي فقد أبدع في رسم صورتها من خلال كتاب المغرب الافتراضي في الصحافة الجزائرية، أو قصف الواد الناشف الصادر سنة 2000 ، ويرصد فيها الأكاذيب والأباطيل التي تروجها الآلة الإعلامية الجزائرية عن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المغربي، وهي نفس المكينة التي لا زالت تشتغل إلى اليوم بالرغم من الصدأ الذي اصابها.

 
مغرب الديمقراطية والكرامة
محمد العربي المساري رجل استثنائي متفرد بصيغة الجمع، وطني كبير، رجل دولة مهووسا بحب الوطن، دافع عن مغرب الديمقراطية والحرية والكرامة ، واعتبر أن حرية الرأي والتعبير والصحافة هي أم الحريات، وقدم إسهامات وازنة على مستوى قوانين الصحافة والنشر، وقوانين الاتصال السمعي البصري ببلادنا. كانت الصحافة هي الرئة التي يستنشق منها هواء الحرية، ومهنة الصحافي بالنسبة له  مصدر فخر واعتزاز، لذلك كان رحمه الله وهو وزيرا للاتصال يملئ استمارة السفر في المطار ويكتب عليها : المهنة صحافي. وحدث أن نبهه أحد موظفي المطار بأن صفته هي الوزير ، وكان جوابه، أن الوزير ليست مهنة بل مهمة فقط ، بينما الصحافة هي مهنته.
لقد كنت محظوظا عندما اشتغلت إلى جانب من محمد العربي المساري في الحزب و النقابة والوزارة، ورأيت كيف اجتمعت في الرجل قيم النزاهة والكفاءة ونكران الذات، والجد والصرامة في العمل والمثابرة، وإعطاء عامل الوقت قيمة كبيرة ، ومتابعة أدق التفاصيل، إذ كان رحمه الله يدون كل شيئ، حتى أثناء حضوره لمناقشة الرسائل والاطروحات، كان يدون الملاحظات والأفكار المهمة. لم يجر يوما وراء المناصب، بل هي التي كانت تختاره ،ظل متعففا شامخا كالجبل، رجل جمع بين الأخلاق والعلم والتواضع. لكنه في نفس الوقت رجل دعابة إذ كان يتخلل أسلوبه الجدي فواصل من الدعابة والمرح.
في النقابة الوطنية للصحافة المغربية، و أثناء مشاورات تشكيل الحكومة، سألناه ما إذا كان سيعين وزيرا للاتصال، فأجاب بالنفي، مؤكدا أن وزير الاتصال سيكون هو سي محمد اليازغي، وأنه سيستمر في أداء مهامه على رأس النقابة، إلا أننا فوجئنا بعد ذلك بأيام قليلة بتعيينه وزيرا للاتصال، وكان ذلك برغبة شخصية من قبل جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله. وعندما انتقل من النقابة إلى الوزارة حمل معه ملف إصلاح قطاع الإعلام، وبعد أيام قليلة استدعى أعضاء لجنة متابعة توصيات المناظرة الأولى للإعلام والاتصال لتشرع في تحيين العمل الذي كانت قد أنجزته من قبل.

 
وزير "إعلام الحقيقة"
كان تصور الإصلاح جاهزا منذ الأسابيع الأولى لتشكيل الحكومة، وحدث أن استدعى رؤساء التحرير في وسائل الإعلام العمومية ندوة داخلية بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بتاريخ21 مارس 1998، ومن بين ما قاله في كلمته التوجيهية : ولا شك أن نشرة الاخبار في الاذاعة والتلفزة في حاجة غلى مراجعة جذرية ومن اجل هذا نحن مجتمعون اليوم.. وأضاف: إن الشعار الذي يلخص برنامج الحكومة فيما يخص القطاع الذي ننتمي إليه هو   " إعلام الحقيقة" أي أن نكف عن التنويم والتعتيم ولسان الخشب. وكشف سي العربي عن الخط التحريري الجديد الذي كان يطمح من خلاله إلى إحداث التغيير العميق في الإعلام العمومي. وهو تصور ما زلنا في الحاجة إلى أجرأته على أرض الواقع . 
لقد تم التلاعب في محتوى كلمته التوجيهية وتم الترويج لأكاذيب مفادها أن وزير الاتصال يريد أن يفتتح الأخبار بالقنوات العمومية بمشكل جرادة و الهجرة السرية وقوارب الموت قبل تغطية الأنشطة الرسمية، وكان هذا من باب الافتراء على الرجل و المكر السيئ الذي روجته آنذاك بعض جيوب المقاومة، بهدف إحداث التوتر بينه وبين دوائر القرار.آمن المساري بشعار التغيير الآن، وكان يعول كثيرا على سياقات المرحلة السياسية آنذاك وتفاعلاتها المختلفة ، فواجه بقوة وأنفة كبيرة ، و لم يكن يريد أن يترك وحيدا. 
كان بينه وبين الرجل القوي آنذاك وزير الداخلية ادريس البصري صراعا قويا، ظهرت بوادره للعلن عندما حجز وزير الداخلية جريدة لوجورنال ، دون أن يكون وزير الاتصال على علم بذلك والذي كان في مهمة بمدينة العيون آنذاك،  وغضب المساري كثيرا ، وبعد أسابيع من هذا الحدث بادر إلى تقديم استقالته،. كما تكرر حادث تقديم استقالته مرتين أخرتين عندما أيقن أن مشروع الإصلاح الذي كان يحمله وصل إلى الباب المسدود. إلا أن الحزب كان له رأي آخر.
وأذكر ذات مرة وأنا اشتغل في ديوان سي العربي أنني زرت المرحوم خالد الجامعي رئيس تحرير جريدة لوينيون بمكتبه بشارع علال بنعبد الله، وهو العائد لتوه من الزيارة المشهورة التي رافق فيها ادريس البصري إلى الجزائر، فقال لي بالحرف أنه تحدث مع  وزير الداخلية في موضوع البلوكاج الذي يعرفه مشروع إصلاح الإعلام ، ورد عليه وزير الداخلية قائلا : قل لسي العربي يجي لعندي ويكون خير. لما نقلت هذه الرواية لسي العربي أجابني بكل حزم وتبرم : أنا عندي وزير أول واحد هو سي اليوسفي وليس شخصا آخر.

 
التغيير الآن
لقد كان رحمه الله متحمسا إلى التغيير الآن، لكن جيوب المقاومة كانت إرادتها أقوى . وعند أول محطة للتعديل الحكومي نزل المساري من القطار، وكان سعيدا جدا، كشخص استعاد أشياءه الثمينة التي كانت قد ضاعت منه. جرت مياه كثيرة بعد ذلك تحت الجسر، و لم ير مشروع إصلاح الإعلام كما كان يطمح إليه المساري النور إلا في عهد حكومة جطو عندما كان محمد نبيل بنعبد الله وزيرا للاتصال.
محمد العربي المساري من الأعمدة الفكرية والسياسية والإعلامية والثقافية الكبرى لحزب الاستقلال، استطاع أن يحظى بعطف وتقدير الزعيم علال الفاسي وهو ما زال صحافيا شابا، واستطاع بعصاميته وشخصيته المتقدة والتزامه ونضاله السياسي وعطائه الحزبي أن يحظى بثقة الاستقلاليين عندما انتخب لأاول مرة في اللجنة التنفيذية للحزب منذ 1974. كما كانت له إسهامات مميزة في مؤسسة علال الفاسي. 
كان مناضلا شرسا لا يتوانى في الدفاع عن مبادئ الحزب وأطروحاته ومواقفه، ترافع بقوة عن قضايا الشعب وفئاته المقهورة داخل البرلمان خصوصا سواء عندما كان رئيسا للفريق الاستقلالي بمجلس النواب، أو خلال عمله الصحافي وإدارته لجريدة العلم، قبل أن يعينه الراحل الحسن الثاني سفيرا للمملكة بالبرازيل. ومن الطرائف التي حكاها أحد معاونيه في السفارة أنه في أحد أعياد الأضحى وبعد نحر الأضاحي قال لمعاونيه لنذهب نحن للاشتغال قليلا في السفارة، ولنترك زوجاتنا يعدون بولفاف ثم بعد ذلك نعود لاستكمال طقوس العيد.
سي العربي كان شخصية منفتحة على جميع تيارات الرأي والتعبير، لذلك فقد كان لا يتردد في الاستجابة للدعوات التي كانت توجه له للمشاركة في الندوات والتظاهرات السياسية والفكرية والثقافية، حظي بتقدير الجميع من اليمين إلى اليسار، وكان يدافع عن أفكاره ومبادئه بأسلوب مميز يجعل من الارقام والمعطيات الإحصائية، والاستدلالات التوثيقية، حجته في الإقناع، مع إيلاء الاحترام الكامل للرأي الآخر. رجل ينساب إلى قلوب الناس بكل معاني المحبة" .