السبت 9 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: الانتخابات، المال، القضاء.. والديموقراطية

عبد الحميد جماهري: الانتخابات، المال، القضاء.. والديموقراطية

طرحت قضية الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، على النقاش العمومي قضيتين أساسيتين في كل ديموقراطية، وهما قضية الانتخابات وتمويلها، وعلاقة القضاء بالسلطة السياسية والنقابية.

القضيتان طرحتا بإلحاح بعد أن تم اعتقال نيكولا ساركوزي في قضية تتعلق باتهام الرجل الأول في الدولة الفرنسية سابقا بـ «الرشوة النشطة»، وهو مصطلح يعني في الأدبيات الفرنسية "قيام شخص ما بتقديمه، بدون وجه حق، في لحظة ما، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عروضا، وعودا، هبات، هدايا أو امتيازات ما لشخص يملك السلطة العمومية، أو مكلف بمهمة في مرفق عمومي، أو صاحب انتداب انتخابي عمومي، سواء قدمت هذه العروض لفائدته أو لفائدة غيره".

وهو ما يحيل إلى الاتهام بتمويل الانتخابات من أموال ليبية، أو بوساطة فرنسية عرفت بقضية «بيتانكور» ومن معها. وقد انفجرت القضية ضمن ملفات عديدة يتابع فيها الرئيس الفرنسي السابق، سميت «بالقضايا» أو ليزافير، كمصطلح قدحي يعني الاشتباه الإجرامي في الاستعمال غير المشروع للمنصب السياسي لدعم الحزب الحاكم أو لدعم الفريق الرئاسي.

ومن حسن الحظ أن النقاش في فرنسا لا يتم بالزعيق، ولا بالنشرات المدفوعة الأجر، لهذا نتابع بدقة النقاش السياسي القانوني القضائي حول تمويل الانتخابات وعلاقتها بالديموقراطية وبمؤسساتها، وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات والمجلس الدستوري.

الرئيس، الذي كان يتحدث باسم الديموقراطية، أدركته الديموقراطية بالقضاء.

النقطة الكبرى التي أسقطته تتعلق بالعلاقة بين الانتخابات في بلاد ديموقراطية وبين تمويلها!

والرئيس الذي كان يتدخل في أدق تفاصيل الدولة، أصبح هو نفسه خاضعا لأدق التفتيشات والتحريات، باسم الديموقراطية.

المثير للانتباه أن أكثر المتحمسين له، لم يتشددوا في الدفاع عنه، بخصوص أموال الانتخابات. في حين أن قضية الانتخابات والعدالة أثارت انقساما حادا في الدولة الفرنسية وفي مجتمعها ورأيها العام.

فالمعسكر، الذي يدافع عن ساركوزي يتساءل (على غرار افتتاحية «الفيغارو» ليوم الجمعة الماضية) هل العدالة لا تمس؟

الهجوم على القضاء أو انتقاده، في تقدير الطبقة السياسية يمكن أن يمنع الحديث عن قضية ساركوزي في العمق، لكن أنصار الرئيس السابق يردون: هل سيكون من الممنوع في هذه المناسبة الحديث عن اشتغال القضاء وشروط وظروف ممارسة العدالة في فرنسا؟

ويعتبرون أن تلك، أيضا، أسئلة.. في العمق.

القضاء لا يتمتع بسمعة طيبة، والاستمارات واستطلاعات الرأي والتقارير، مثلا، تعطيه نسبة مصداقية عالية ..

وهو موضع استفهام، إن لم نقل استنكار دائم،.. حالات الفشل القضائي أو التقصير القضائي لا تعد ولا تحصى..

وقضية تنقيب القضاة أو تكاثفهم، ليس آخر نقط الاستغراب.. كما أن قضية الثقة بين السياسيين والقضاء، توجد في صلب الإشكال..

وبالرغم من أن الفضائح  تتكرر وتطبع باستمرار الحياة السياسية، في فرنسا في حالتنا هذه، فإن التفسير الجاهز والدائم الذي لجأ إليه من وجدوا يده في الحقيبة، كما يقال، هو.. المؤامرة!

وهو في الغالب ما يكشف ضعف الحجة في الدفاع والاحتقار الوراثي للمؤسسة القضائية.

لعل أصعب شيء يمكن أن يواجه الرجل السياسي هو أن يجد نفسه بدون أدنى سلطة على مصيره، وأن قدره لم يعد بيده!

لهذا يفقد السياسي، مثل ساركوزي، القدرة على التمييز بين ورطته الانتخابية وبين آليات التجييش السياسي للقضاء.

القضاء ممثلا «في سيدتين أرادتا تدميري»، يقول ساركوزي. والمقصود بهما قاضية التحقيق باتريسيا سيمون وكلير تيبو،

الأولى، يرتبط اسمها باستدعاء محامي الرئيس أولا، وتفتيش مقراته (في مارس الماضي)، كما أنها تشكل معلمة نفسية لا تعرف الخوف.

والأهم يأتي من أنها استعدت للدور وللوم، وهي تدرك بأن كل شيء في حياتها ومسارها المهني وعلاقاتها سيتم تسليط الضوء عليه، وسيكون محل تمحيص وتفتيش حتى.

والثانية، عضو في نقابة القضاة. استعدت بدورها لأيام عصيبة، عندما قبلت هذا الملف، وهي المرأة التي يطلق عليها لقب «القاضية الحمراء»  من طرف اليمين الذي طالب بإعفائها من الملف ..

ما سيحتفظ به الرأي العام من هجوم اليمين من أنصار ساركوزي على القضاة، هو أنهم يتحركون بحرية أكبر، وما كان لذلك أن يكون لولا... الاستقلالية عن «حارس الأختام»، أي وزارة العدل ولولا.. الحرية التي أصبحت تتمتع بها النيابة العامة منذ مجيء الوزيرة كريستيان طوبيرا!!

أي أن وزيرة العدل هي التي ساهمت في استقلالية أكبر للقضاة في التحقيق بعد أن تحرروا من قبضتها.. بمساعدتها!!

أي أن الوزيرة، في إصلاحها، هي التي "قطعت حبل السرة الذي كان ينزل من  الوزارة إلى.. أهل القضاء".
المبدأ الأساسي، استقلالية القضاء، كان هو الهدف، وهو السبب في انطلاق الاستماع إلى ساركوزي بعد اعتقاله!

لم يكن سرد هذه التفاصيل عفو الخاطر، بل لتزامن ذلك مع ما نحن بصدده في انتخاباتنا المغربية، والتي تطرح، هي أيضا، نقاش التمويل، القضاء، المجلس الدستوري، الانتخابات، الديموقراطية وحق الشعب في محاسبة الحاكمين الذين يدخلون غمار الاقتراع.