كل شيء نقوم به الآن، تعلمناه في ظل علاقاتنا الاجتماعية التي أقمناها ونعيش في إطارها، إذن كل ما نحن عليه هو نتيجة لتربيتنا، ولما هو كائن وموجود في مجتمعاتنا. فاللباس وطريقة الحديث والتصرفات نتيجة لما هو سائد. لكن عندما نفكر يوما أن نكون نحن أنفسنا نتعرض للهجوم بدعوى أنه لا وجود لمن هو متميز في المحيط الذي نعيش فيه، فدائما ما يفرض المجتمع وبفعل أفكاره النمطية نوعين من التفكير لا ثالث لهما، إما أن نكون كما خطط لنا من قبل، زوجات وربات بيوت، أو خارجات عن العادات ومنحلات. فرغم وجود تطور في الأدوار، لكن ذلك لا يزيح هذا التقسيم المعياري والنمطي عن المرأة. فالمجتمع إذن، لا يمكنه أن يحكم على المرأة سوى بهذين المنظورين اللذين يكشفان عن واقع أنه بالفعل:
- ما يزال هناك تأخر في فهم وضعية المرأة ككائن له قدرات عقلية وأهليات اجتماعية تجعلها لا تختلف عن الرجل في الأدوار والمسؤوليات، التي بها تتساوى معه في المجتمع، وأيضا لها من القدرات الجسدية والخصوصيات البيولوجية التي لا يمكن القول عنها مثل الرجل، ولكن في وظيفتها كان لها الفضل في ولادة وتربية كل الأجيال رجالا كانوا أو نساء. بما معناه أن المرأة تعتبر نصف المجتمع ليس بذخا ولا ترفا.. بل نظرا للأدوار المهمة التي تلعبها وبالخصوص في دول العالم الثالث (الدول المسلمة) فنجدها أم وربة بيت وعاملة في الخارج ووو ... ثم زوجة تقوم بواجباتها تجاه الزوج. ما يطرح بشكل ملح مسألة ما تحتاجه المرأة حقا أهي المساواة أم العدل أم الإعتراف وعدم التبخيس.
- يرفض اكتشاف أو تقبل أفكار تضاهي ما هو عليه من حداثة رغم عيشه مظاهر التطور والتقدم.
- في المقابل أن محاولة انتقاد وفهم المرأة للوضع يفتح عليها نوافذ النقد والسخرية واللسان اللاذع، وغالبا ما توضع في خانة المنحرفين الخارجين عن القانون والقواعد والعادات. علمنا أن إمكانية النقد والتجديد من حقها وضعيا ودينيا.
- تشوه الأدوار الطبيعية للرجل والمرأة ورفض كل ما له علاقة بالفطرة من طرفهما كردة فعل للواقع المعيش، ما أعطى لنا ظواهر اجتماعية مسكوت عنها أو بالأحرى مثارة لكن بطريقة يسود فيها المنطق التهجمي عوض التشخيصي المؤدي للحلول.
إذن، فإثارة نقاش المرأة ووضعيتها في المجتمع دائما ما يجعل جل أطراف النقاش ينغمسون فيما أثاره الدين وأحكامه، وكأن هذا الكائن لم يوجد إلا بعد 5000 سنة أو 14 قرنا، علما أن ما آلت إليه المرأة التي أتحدث عنها اليوم يكمن في الغالب وراء الفهم المتحيز والتشدد لمستعملي الخطاب الديني في كليته، وهذه مسالة مسلم بها ولا يمكننا نفيها، في خلاف أنه في المرحلة بحق نحتاج لمن ينصف النص الديني ويميط عنه اللثام في الشق الذي يتحدث فيه عن المرأة هذا من جانب.
ومن جانب آخر، ظهور مد ليس بجديد أو قديم يدعو من خلال تصوره إلى الحرية المطلقة ومظاهر الإتجار في جسد المرأة بطريقة واضحة عند ذكر قضية الإتجار بالبشر، أو بطريقة أقل وضوحا عندما ننغمس في التجارة المتعلقة بالجمال والموضة.
نحن الآن نبحث عن متنورين ومتنورات في الدين، يحسمون ويحسمن هذه المسألة بطريقة تعيد الثقة في النص الديني، الذي كرمها وأسهم في بزوغ قداستها. ولا تجعله مصدر خوف واعتراض من الأطياف التي تدافع عن قضية إرجاع الحقوق المسلوبة من المرأة، باسم الخطاب الديني المتطرف.
وأيضا نحاول افتعال نهضة في مجال الحريات من خلال مكافحة مروجي الإيديولوجيات التي تسعى لتسليع المرأة وإدخالها إلى عالم التجارة والرأسمال باسم الحرية المطلقة والخروج عما هو فطري. وإظهار الفهم السليم لدور المرأة والرجل في المجتمع حفظا لمبدأ صناعة وبناء صرح مجتمعي يتسع للجميع، مع تقليص الصدامات الناتجة عن فكرة الأفضلية والسيادة، لمن؟ سأعود قليلا لمكانة المرأة وقداستها في النص الديني،
لكن السؤال الذي يجول دائما في خاطري هو: ما الفهم الصحيح الذي يخدم مكانتها في المجتمع؟ ربما لدي بعض من الإجابات الصريحة لذلك، لكن لن أطرحها الآن، كون الإجابة عنه ليست من اختصاصي، إذ لست عارفة بما يكفي بالدين ولا في علم الأديان.. وسأترك هذه المهمة لمن هم أدرى وأعلم بهذا الشأن وما يحمل من أسرار وقراءات. أنا هنا أقصد العلماء والمتخصصين الذين يدرسون هذا الموضوع إما بشكل تفحصي قصد إعطاء قراءات جديدة. أو متخصصي علم الأديان الذين يتسلحون بالحيادية، ليس لأنهم متدينين وينتمون لديانة ما، بل لأنهم يبحثون عن الحقيقة وراء كل شيء، يبحثون عن معرفة المعتقدات والسلوكيات والمؤسسات الدينية، بعيدا عن وجهات النظر الدينية نفسها.
وفي إشارتي هذه دعوة صريحة لفتح باب الاجتهاد في هذه القضية وإعطاءها حقها بعيدا عن عقلية التسلط ونظرية السيادة ومبدأ أن المرأة ناقصة عقل ودين ... دون تتمة القول ودون الرجوع للنصوص المناقضة لها؟
أيضا سأعرج على من يدعون لتحرر المرأة والمجتمع من كل ما هو قديم والدعوة لضرب سلسلة من الحقب التي فيها تطور الإنسان عرض الحائط، وتبني طروحات جديدة لا علاقة لها لا بالتطور البيولوجي ولا الثقافي، طروحات تدعو للميوعة ونشر أفكار تزيح المرأة عن طبيعتها وتجعلها سلعة لكل باحث عن اللهو، وأيضا تدافع عن حق الرجل في أن يكون مضطربا نفسيا مع تبني طرح الدفاع عن هذا الجانب حقوقيا عوض تبني مقاربات أخرى أكثر فعالية رغم طول مدة تحقيق أهدافها. أعلم أن قولي هذا فيه نوع من الرفض للعديد من المواقف المستوردة من طرف البعض، لكن أنا أكتب لأنني أرى أنه من حقي التعبير وطرح أفكاري ليس لممارسة الترف الثقافي ولا التباهي بمعرفتي الكتابة والجرأة فيها. لكن لدق ناقوس الخطر من خلال ملاحظاتي التي سجلتها عن طريق العديد من الانعراجات والإشارات الخطيرة التي عرفها المجتمع في علاقته بفهم مكانة المرأة لنفسها في المجتمع، وبفهم المجتمع ككل لدورها أيضا. وربط الدفاع عنها بالدفاع عن أمور تؤدي بها لطريق غامضة رفقة أطفالها طبعا وبه المجتمع أنا هنا، لست واضحة في طرح الأمور بمسمياتها الحقيقية ليس جبنا ولا انعداما للثقة ولا حتى للمعرفة، طبعا لا. لكن من باب الاحترام وعدم الدخول في حروب التجريح والأفضلية لمن في هذا الجانب أيضا.
في هذه المقالة لن أناقش المرأة انطلاقا مما كانت عليه، وأيضا الرجل في المجتمعات القديمة، في غالب الأحيان أحبذ تجاوزه لأن الخطاب الذي يتحدث عن انجازات كل على حدة، هو في الأصل خطاب يميل للتفرقة أكثر منه للتعريف بقدرات كل منهما ودورهما في المجتمع. فاستعماله في غير محله يخلق شكلا من الشنآن والتشنج بين هذين الطرفين، في خلاف أن الضرورة تفرض لم الشتات والتصالح بين الذوات.
إذن ما أبحث عنه اليوم هل هو كيفية سيادة الواحد على الآخر أم العيش في وئام لكل عليه ما عليه من واجبات وحقوق؟ لن أقول بالمقابل، يجب على المرأة أن تبقى ربة للبيت وأم فقط، ولن أقول كذلك على الرجل أن يبقى عاملا في الخارج، لأن الوضع قد تغير كثيرا.
أحدثت التحولات الاقتصادية التي عرفتها المجتمعات تقلبات كبيرة في أدوار المرأة أولها اقتحامها لحجرات الدرس بعد أن لعبت الحركات النسائية آنذاك دورا كبيرا في نشر وعي يثير جدل حق تعلم المرأة ليس كمظهر من مظاهر العصرنة أو تقليدا للثقافة الغربية ..
بل باعتبار التعلم أساس بناء وتطور المجتمعات وأساس بناء ثقافات متنوعة تهدف لبناء الإنسان والحفاظ على قيمه المبنية على العدل والتسامح وتقبل الاختلاف في حدوده الطبيعية، مع بناء وعي نقدي يساهم في عملية طرح أسئلة وجودية ومنطقية تساعد على بناء ثقافة تراعي خصوصية المجتمع المحلي، كل وفق خصوصياته الجغرافية والعرقية واللغوية. إذن مسألة التعليم للمرأة ومنطلق الدفاع عنها من طرف الحركات النسائية الأولى بمجتمعات شمال إفريقيا والشرق الأوسط كانت تعي أن مسألة التعلم لم تكن مرتبطة بترف أو عملية ترفيهية تقوم بها المرأة من أجل تحقيق هامش من الحرية المحرومة منها في المقابل هي من المسلمات التي يتمتع بها الرجل فقط، وامتياز منحه إياه الفكر الذكوري المتطرف. بل كان من عمق أنه حق به تخرج المرأة من ظلمات سيادة فهم ذكوري وثقافة متطرفة كانت تستند للطروحات المتطرفة.
فاطمة الزهراء مكلاوي، باحثة في علم النفس