الثلاثاء 23 إبريل 2024
اقتصاد

السوسيولوجي عمر الإبوركي يقرأ ظاهرة غلاء الأسعار في علاقة مع التحولات المجتمعية

السوسيولوجي عمر الإبوركي يقرأ ظاهرة غلاء الأسعار في علاقة مع التحولات المجتمعية عمر الإبوركي

على هامش استفحال ظاهرة غلاء الأسعار التي طالت كل شيء وصعّبت الوصول إلى أساسيات الحياة عند الناس البسطاء على مستوى معيشتهم، وجهت جريدة "أنفاس بريس" سؤال الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية المعاصرة إلى الباحث في علم السوسيولوجيا الأستاذ عمر الإبوركي لقراءة واقع الحال سوسيولوجيا في علاقة مع مفهوم "السّيبة" بين الأمس واليوم، وانتشار الفساد و الغلاء والفقر، واقتصار الاحتجاجات على مواقع التواصل الاجتماعي.

ما هي تأثيرات الزيادة في أسعار المواد الأساسية وغلاء الأسعار على تصورات وتصرفات المواطنين؟ وكيف يمكن أن نفهم هذه الإحتجاجات؟ وكيف تحولت إلى احتجاجات كلامية على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي؟ وما هي الكلفة الاجتماعية والأمنية في علاقتها مع الأوضاع الاجتماعية إن طالت الأزمة الاقتصادية؟ وكيف نقرأ مفارقة استسلام الناس لهذه الأزمة، وهل يمكن اعتبارها ظاهرة سوسيولوجية غريبة في المجتمع المغربي؟ وهل أن مفهوم "السّيبة" هو عندما تخرج الأمور عن السيطرة في استتباب الأمن بين السلطة والمجتمع بفعل غياب الديموقراطية وانتشار الفساد والظلم وسيادة الغلاء ؟

هناك مجموعة من التساؤلات تطرح اليوم على المتتبعين للشأن الداخلي، والخبراء والفاعلين اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وأيضا على الباحثين، ولو أن الرؤية قذ تختلف وتتباعد في التفسير بين ما هو موقف ذاتي وآني يستعمل كسلاح يشهر في وجه فئة معينة محاولة للدفاع عن الفئات المتضرّرة، وبين ما هو موضوعي يكون التأويل فيه محاولة لفهم وتفسير هذه التحولات والمواقف الاجتماعية انطلاقا من معطيات تاريخية ومتغيرات اجتماعية وثقافية متجذرة في بنية المجتمع المغربي.

اذا كانت المجتمعات عامة، والمجتمع المغربي خاصة قد عرف أزمات من أوبئة ومجاعات تركت بصماتها على المجتمع والاقتصاد عبر قرون، فقد تحدث المؤرخون عن هذه الأوبئة والمجاعات، وكيف كانت لها آثار على المستوى الديموغرافي، والمجالي، لأنها تعيد تشكيل البنية الاجتماعية والقيمية، وكيف كان المغاربة يتعايشون مع المجاعات والأوبئة رغم ما تخلّفه من تفاقم عدد الموتى، والهجرة الجماعية، وتفكك الروابط الاجتماعية في إطار مجتمع الندرة، وغياب رعاية الدولة.      

إذا رجعنا إلى فترات تاريخية سابقة، فكل الكتابات تؤكد أن المغرب عرف عبر القرون مجاعات وأوبئة كانت تتكرر بفعل عوامل طبيعية مناخية، وأيضا بشرية، أو عوامل خارجية عندما يتم غزو واستعمار مناطقه وقطع شرايين التجارة التي كانت تنعش الاقتصاد المحلي على الرغم من ضعفه.

تزامنت المجاعات والأوبئة في المغرب مع استفحال الضغط الأوربي، وكانت هذه الأوبئة والمجاعات تقضي على ثروته البشرية والحيوانية، وتتعرض خيراته للتدمير فيختل الأمن. وقد ذكر المؤرخون أن المجتمع المغربي حافظ على بقائه أمام الأزمات الاقتصادية مثل الجفاف والمجاعات منذ القرن الـ12م، لأنه عرف مستوى من التنظيم والتلاحم، ويتجلى ذلك في الدور الذي كانت تلعبه الدولة في التخفيف من حدة هذه الأزمات.

قدمت الدراسات الاستعمارية صورة مجزأة عن المجتمع المغربي حينما ركزت على ثنائية "بلاد المخزن" و "بلاد السّيبة"، واعتبرت ظاهرة السّيبة هي محاولة لمقاومة كل سلطة خارجية عن التنظيم القبلي، وأن هذه الانتفاضات لم تنقطع إلا بفعل عملية التهدئة مع التدخل الاستعماري. بيد أن هذا التصنيف بعيد عن التنظيم الذي يجعل كل القبائل والمناطق خاضعة للسلطة المركزية التي يمثلها القائد القبلي.

 هذه الانتفاضات كانت تتكرر كلما حلت أزمة الجفاف والمجاعة التي تدفع القبائل إلى رفض الكلف والضرائب التي تثقل كاهلها. وهذه الانتفاضات الاجتماعية كثيرا ما كانت تحركها الفئات الغنية التي تتهدد مصالحها التجارية والمالية. اما الفئات الفقيرة فغالبا ما تلجأ إلى الهجرة في سنوات الجفاف والمجاعة، أو إلى اللصوصية التي تنتشر خلال هذه الأزمات الطبيعية. إن هذه الانتفاضات العفوية عبارة عن "جوقة" من الفقراء الذين تربطهم صلة التبعية والعشائرية بأغنياء تهدّدت مصالحهم. 

في مثل هذه الأزمات الطبيعية والاقتصادية والسياسية كانت الانتفاضات حالة طبيعية مما يعني أن مفهوم السّيبة تم إلصاقه بالقبائل الجبلية مقابل القبائل السّهلية الخاضعة، ولكنه يعني حالة غياب النظام "تاسيبت" في فترات القحط والمجاعة حيث يختل التوازن على مستوى الانتاج الجماعي، والترابط العرفي كأساس للتماسك الاجتماعي.

لكن كيف يمكن قراءة الأزمات المعاصرة بفعل التحولات التي عرفتها المجتمعات، ومن ضمنها المجتمع المغربي الذي انتقل من ثقافة الندرة الى ثقافة الوفرة. فبفعل الثورة الرقمية والتواصلية، سادت المجتمعات ثقافة جديدة، ترتبط أساسا بالنمط الاستهلاكي، وما لعبته وسائل الإعلام في توجيه أفكار واختيارات الأفراد والجماعات عن طريق الإشهار، والتسويق "الماركوتينغ". وتحولت كل فئات المجتمع إلى آليات استهلاكية تساير تجدد الحاجيات، وغابت بعض القيم الثقافية الإنسانية كالتضامن والاكتفاء بالحاجيات الضرورية، والقناعة، والإيثار...

عملت وسائل الاعلام على تأسيس طبائع ودوافع ذات سلطة على الناس، كما تحكمت  في تمثلاتهم لنمط الحياة وتحكمت في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين أفراد المجتمع. وعند الحديث عن المجتمع المغربي وما يعرفه من صراعات وتدافع، فإننا أمام مجموعة من التحولات الاجتماعية بدافع مجموعة من المتغيرات، تجلت في: هجمة الحداثة مع اللامساواة، والفقر بكل أنواعه، والانفتاح على الآخر بفعل العولمة الاقتصادية والثقافية، واكتساح مظاهر الحداثة من عقلنة تحاول إزاحة بعض الظواهر والسلوكات التقليدية. كل هذه العوامل أدت إلى تأزم الذاكرة الجماعية، وعدم القدرة على تلبية الحاجيات وإلى صعوبة مجاراة المجتمعات الحداثية بكل مظاهرها الاستهلاكية.

هذه الظاهرة لا تقتصر فقط على المجتمع المغربي بل هي ظاهرة برزت كتجلي للعولمة في بعدها الاقتصادي والإعلامي، بحيث انتقلنا من المجتمع  التقليدي البسيط إلى ما يسمى مجتمع المخاطرة الذي تغيب فيه أنماط الحياة المستقرة. لقد دمرت هذه التحولات العلاقة بين الإنسان وماضيه التكافلي مع الآخرين، واندثرت القيم الثقافية المستمدة من مبادئ الدين، وبرز نوع من الفردانية المدمرة. كل شخص يضع نصب أعينه إشباع رغباته وتحقيق مصالحه الفردية، بالتنافس مع الآخرين وتدميرهم.

هكذا تزاحمت الحاجيات وأصبح المواطن مشردا بين ما هو ضروري وما هو كمالي، إذا أضفنا إلى ذلك انفتاح المجتمعات اقتصاديا وسياسيا نتيجة العولمة، فإن التأثيرات الخارجية من نزاعات وحروب وأوبئة لها دورها في تأجيج أزمات الإنسان وتأزمه. وهنا يمكن أن تزداد حدة الفوارق الطبقية، بحيث تتأثر الفئات الفقيرة التي تصارع من أجل العيش، وتزداد فقرا، بينما تزداد الفئات الغنية غنى بفعل الاحتكار والربح المضاعف، وبفعل الوساطة مع الشركات الأجنبية الكبرى التي تسيطر على الأسواق العالمية.

وفي خضم هذا الوضع المتأزم فان المواطن البسيط لا يدرك الأسباب الحقيقية للأزمة ويكتفي بالاحتجاج عبر وسائل التواصل الاجتماعي كآلية للتعبير عن المواقف الفردية، والتخفيف من دوافع اللاشعور، وفي نفس الوقت تحمل رسائل للفاعلين الاقتصاديين والسياسيين، فيعملون على تقديم بعض الحلول التي تهدئ من هذه الاحتجاجات، بعد تراجع دور الأحزاب السياسية والنقابات المهنية في تأطير المواطنين والدفاع عن مصالحهم، وطرح البرامج وتحقيق الحكامة الجيدة في تدبير السياسة والاقتصاد.