الخميس 25 إبريل 2024
فن وثقافة

حجيب: فئة قليلة من الباحثين ربطوا بين البحث الأكاديمي والبحث الميداني للنبش في فن العيطة المغربية

حجيب: فئة قليلة من الباحثين ربطوا بين البحث الأكاديمي والبحث الميداني للنبش في فن العيطة المغربية الفنان حجيب فرحان و الزميل أحمد فردوس

تستمر رحلة جريدة "أنفاس بريس" التراثية والفنية بعد الحلقتين السابقتين اللتين تناولنا فيهما علاقة ـ الطفل ـ حجيب فرحان بمجال منطقة الحوز عامة والرحامنة خاصة، أيام كان في صغره رفقة عائلته ذات الأصول الصحراوية، مداوما على الإقبال بفرح كبير لقضاء عطله الدراسية بالعالم القروي.

السفر الجميل والممتع من الرباط إلى الرحامنة، بالنسبة للطفل حجيب سواء في فصل الربيع الذي كان يرسم الجمال والبهاء على أراضي الحقول والمروج والبساتين ويحولها إلى زرابي تبهر الزائر بمختلف ألوانها الطبيعية، تحت أشعة الشمس الدافئة، لتستقبل "لَمَّةْ" الأهل والأحباب، أو خلال موسم فصل الصيف الذي كان يستنفر خلايا الأعمال الفلاحية وجمع المحاصيل الزراعية بـ "الْـﯕَاعَةْ"... أو أثناء المناسبات العائلية. فضلا عن لحظات إحياء المواسم الدينية والتراثية الفرجوية، كان الهدف ـ من السفر ـ إشباع رغبته الجامحة وإرواء ظمئه من ينبوع دروس الحياة التي كان يتلقاها بشكل طبيعي من مؤسسة تراث وفنون المحيط البدوي بتقاليده وعاداته وطقوسه، حيث كان حجيب يتتبع ذلك الأثر التاريخي والجغرافي العميق في علاقة حميمية مع المجال والإنسان والتي مازالت راسخة في ذهنه من خلال الكثير من المشاهد والصور التي يحكي تفاصيلها بألق .

في الحلقة الثالثة من سفرنا الثقافي والفني مع الفنان حجيب فرحان، نقدم للقراء وعشاق فن العيطة، القليل جدا من سيرة إنسان "تَوَلَّعَ" وعشق كل الأنماط الغنائية الشعبية ذات الصلة بمنطقة الحوز والرحامنة.

فكيف استطاع الشيخ حجيب أن يستثمر كل هذه الكنوز في مشواره الفني، ويحوله إلى موضوعات للحكي في جلساته مع ثلة من الباحثين والدارسين والمهتمين بالثقافة والفن الشعبي.. وكيف أستطاع الشيخ حجيب أن "يُفرِّق" ويأخذ مسافة محترمة بين البحث الأكاديمي الشّاق والمتعب في مجال الموسيقى التقليدية المغربية والذي له رجالاته، ويميز بينه وبين البحث الميداني الذي يتطلب التضحية والصّبر والمكابدة والمعاناة، على اعتبار أن هذا النوع من البحث الذي صقل مسار الروّاد من "شِيخَاتْ وَشْيُوخْ" تراث فن العيطة الذين قدموا الشيء الكثير للأبحاث والدراسات الأكاديمية ذات الصلة بتاريخه وسياقاته ونصوصه وأنماطه وآلاته وإيقاعاته؟

على مستوى البحوث والدراسات الأكاديمية التي عرفتها الموسيقى التقليدية المغربية منذ عقود خلت بعد أن تجند لها دكاترة مختصين وأساتذة جامعيين باحثين ومفكرين وإعلاميين ـ حسب قول الفنان الشيخ حجيب فرحان ـ حيث أكد على أن بعض أنماط فن العيطة المغربية لا خوف عليها اليوم بعد أن عملت الأيادي الآمنة في ميدان البحث العلمي على إعطائها ـ فن العيطة ـ المكانة التي تستحق كتراث موسيقي غنائي يعكس تنوع وغنى حضارة وتاريخ المغرب.

في هذا السياق اعتبر ضيف الجريدة على أن بعض الأنماط الغنائية في فن العيطة المغربية تم توثيقها وحماية نصوصها الشعرية من الإندثار، وتنقيحا من الشوائب، من خلال نوعين من البحوث والدراسات، لذلك فهو يؤكد على ضرورة التمييز بين البحث الأكاديمي والبحث الميداني. على اعتبار أن فئة قليلة من الباحثين المختصين هي التي جمعت بينهما (البحث الأكاديمي والبحث الميداني) لماذا؟

يقول حجيب في هذا المجال: "إن البحث الميداني يتطلب وقتا طويلا، و يستدعي النفس الطويل، ويحتم على الدارس والباحث أن ينزل من برجه العاجي ليجالس أهل الحرفة من شيخات وشيوخ فن العيطة، ويطلع على سلوكهم وعاداتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وقوانينهم التي يحتكمون إليها، وكيف يتبادلون أحاديثهم ونقاشاتهم ذات الصلة بفنهم الأصيل (الغوص)، وما هي مميزات شخصية الشيخ العارف بأصول فن العيطة، والشيخة الطباعة ومميزات شخصيتها الفنية، وأنواع آلاتهم الموسيقية والإيقاعية وكيفية وتاريخ صناعتها، ومختلف ألبستهم التقليدية وتفكيك رموزها في علاقة بمؤسسة الْمَشْيَخَةْ".

ويستطرد الشيخ حجيب قائلا: "لا يمكن للباحث أن يدرك تفاصيل ألغاز وخبايا طريقة التواصل داخل عالم الشيخات والشيوخ ويعرف طباعهم ومزاجهم، إلا إذا انخرط بكل أحاسيسه في جلساتهم، وخالطهم وتعرف عن قرب على حياتهم ومعيشتهم، وتقاسم معهم الطعام والشراب، واستمع لقصصهم المشوقة التي تروي حكايات البدايات والإنتماء لدائرة شيوخ الرْمَا، والتعلم والحفظ على طريقتهم وما إلى ذلك من سلوكات اجتماعية...".

من المعلوم أن البحث الميداني في مختلف الفنون الشعبية التراثية التي تتقاطع مع فن العيطة، يرتبط أساسا بالبحث والتنقيب عن المعلومات ذات القيمة الاجتماعية والفنية والإنسانية، وتدوينها وتوثيقها. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال اقتفاء أثر حْرَايْفِيَةْ فن النّظم وفن القول (الْحَبْحَابَةْ)، وشيوخ (الرْمَا)، وتتبع مسار "لَمْجَادِيبْ" و "الَحْلَايْقِيَةْ"، واقتفاء أثر الشّيخات والشّيوخ خلال الجلسات الفنية الخاصة والعمومية، وهذه العلاقة الوطيدة مع الممارسين (ات) هي التي تمنح الباحث الميداني وتُمكّنه من اكتساب أسلحة التحليل والتفكيك وفهم عالم الفنون الشعبية عامة و فن العيطة المغربية خاصة.

في هذا الإطار ألا يمكن اعتبار شيخات وشيوخ فن العيطة المغربية خزانات من الكتب المتنقلة، (شاهدة على العصر) تضم صفحاتها كنوزا قيمة وثمينة تستدعي جمعها وتوثيقها وتصنيفها وتحقيقها لغاية حفظ وصون ذاكرتنا الجماعية على مستوى الثقافة الشعبية قبل أن يختطفهم شبح الموت؟

بخصوص الفئة القليلة التي جمعت بين البحث الميداني والبحث الأكاديمي ذكر الشيخ حجيب فرحان كل من الأستاذ المرحوم الباحث بوحميد، والدكتور الباحث حسن نجمي، والكاتب والباحث علال الركوك وآخرين... تجشموا عناء البحث والتنقيب والنبش ميدانيا، وجالسوا دوي الاختصاص من الشيوخ والشيخات واستمعوا لرأيهم في مواضيع كثيرة ذات الصلة، وأخذوا عنهم بعض المرويات عن النصوص والأشعار الغنائية الشعبية، وطرق الغناء وأنواع الأصوات الساحرة التي أذهلت المتلقي، وتعرفوا عن قرب على حياة الفنانات والفنانين الشعبيين بمختلف المناطق والجهات. وكانت أعمالهم بحق ثمرة عمل شاق ومتعب تكلل بإصدارات تشهد على جودة أعمالهم التي تخلد أروع المؤلفات التراثية.

وفي سياق الحديث عن متاعب البحث الأكاديمي وصعوبة ربطه بالبحث الميداني يستدل الفنان الشيخ حجيب على ذلك بقوله: "لقد اقتصر البحث الأكاديمي على أنماط قليلة من فن العيطة ولم يطل كل الأنماط المعروفة وطنيا نظرا لصعوبة البحث الميداني". وهذا طبيعي حسب نفس المتحدث.

ويتطلع بأمل كبير ـ ضيف الجريدة ـ بأن تعمل كل الجهات على حماية موروثها الثقافي الفني الشعبي وتوثيقه في علاقة بالقطاعات والمؤسسات المختصة حيث قال: "أتمنى أن تنخرط كل منطقة من مناطق المغرب في ميدان البحث والنقيب والنبش في أنماطها الفنية وخصوصا أنماط فن العيطة التي أنتجتها عبر التاريخ، ونفض الغبار عن أعلامها من شيوخ وشيخات، والبحث عن نصوصها الغنائية (محكي وشفهي) من طرف مثقفيها والمتخصصين من أبنائها وتمنح لهم الوسائل الكفيلة بذلك، ومد يد العون لهم لرد الاعتبار لتراث بلادهم بتعدد روافده وخصوصياته".

وشدد الفنان الشيخ حجيب على أن هناك "أنماط أخرى من تراث فن العيطة مازالت تحتاج إلى البحث والتنقيب والكتابة والتوثيق على مستوى أشعارها ومتونها وأشياخها، وذاكرتها الفنية، عبر مجموع جهات تراب المملكة المغربية".

واعتبر أن "الوقت قد حان لإعطاء الكلمة للطلبة الجامعيين من أبناء تلك المناطق وتشجيعهم بكل الوسائل المتاحة محليا وإقليميا وجهويا، والعمل على جمع كل البحوث ذات الصلة وإصدارها لإغناء المكتبات والخزانة الوطنية بمثل هذه الأعمال التي تخلد للأثر الثقافي والفكري والمعرفي لحماية الذاكرة".

ولم يفت حجيب أن يشير إلى: "أن هناك أنماطا عَيْطِيَّةْ قد أخذت حقها في البحث الأكاديمي والبحث الميداني والتوثيق وطبع وإصدار مجموعة من الكتب النفيسة التي تبرز علو كعب أصحابها من باحثين ودارسين وإعلاميين". خلاف أنماط أخرى ظلت بعيدة عن هذا الحلم حيث قال: "بعض أنماط فن العيطة لم يبحر في أعماقها وبين أمواجها أهل الاختصاص، واكتفى الباحثون فيها بالنزر القليل وببعض الأعمال المتواضعة التي لم تتعمق بين أحراشها ولم تسبر أعماق محيطها البيئي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي وسياقات تاريخها...".

للأسف أن هناك من مازال يستهتر بعطاء وسخاء وكرم الشّيخ والشّيخة في ميدان فن العيطة المغربية يؤكد الشيخ حجيب فرحان حيث قال باستغراب: "هناك من يظن أن تلك الفنانة الشيخة الطباعة التي تقف أمام الجمهور منذ الزمن القديم، تنشد وترتجل غناء عشوائيا دون قيد أو ترتيب مسبق في علاقة مع حفظ جيد لمتون العيطة، والخضوع لقواعد الطرب والغناء، وحسابات فنية وشعرية وموسيقية وإيقاعية، بل هناك من يظن أن الشّيخة تقول أشياء تافهة سامحهم الله".

وبالعودة إلى حملة الأقلام من الباحثين والدارسين في الميدان أكد حجيب فرحان بأن هذه الفئة القليلة من المختصين قد أوضحوا بأعمالهم الخالدة للشعب المغربي "معنى ومبنى فن العيطة وسياقاته التاريخية وأنماطه الغنائية وأصوله وفصوله، وغيروا بكاتباتهم وترافعهم الفكري رؤية الناس وأفكارهم المسبقة عن فن العيطة، وعن شيخاتها وشيوخها من الرواد والرائدات..".

وشدد على أهمية وضرورة التوثيق حيث قال: "لكن التوثيق المأمول والمرجو، يجب أن يكون سمعي مرأي وكتابي لرد الاعتبار لتراثنا ومعرفة من نحن ومن نكون على مستوى ثقافتنا الشعبية وموروثنا التراثي الحضاري، ونربط في ذلك بين البحث الأكاديمي والبحث الميداني لتعزيز محتوى الخزانة الوطنية بمنتوجاتنا الثقافية والفكرية التي ستشكل لا محالة مرجعا أساسيا للأجيال اللاحقة".

 

يتبع