الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

"الشاشة و الورق": عمل جديد لعبد الصمد الكباص يعزز الدرس الميديولوجي بالمغرب

"الشاشة و الورق": عمل جديد لعبد الصمد الكباص يعزز الدرس الميديولوجي بالمغرب الدكتور عبد الصمد الكباص ومؤلفه الجديد
عتبة جديدة للدرس الميديولوجي دشنها الباحث و الإعلامي المغربي الدكتور عبد الصمد الكباص من خلال كتابه الذي صدر في الأيام القليلة الماضية عن دار إفريقيا الشرق بالدار البيضاء بعنوان:" الشاشة و الورق، ميديولوجيا الصورة والنص في الصحافة المغربية زمن الانتقال الرقمي" الذي أخضع فيه التغير في طبيعة الحامل من الورق إلى الناظم الشبكي للرؤية الميديولوجية مشخصا مصير الخطاب الصحافي في ظل الطفرات التكنولوجية. 
 
وينطلق الدكتور عبد الصمد الكباص في عمله المذكور من فرضية جورج زيمل التي تذهب إلى أن " إنتاج العام"  يحتاج  إلى ثرثرة منظمة، مُسندة مهمة تنظيم هذه الثرثرة bavardage للصحافة التي من خلال أدائها النسقي في تصنيع الواقع عبر الصورة والنص، تحول الأحداث التي كان من نصيبها أن تكون عابرة وخاصة إلى وقائع قابلة للاستهلاك العمومي تحظى بتثبيت نسبي يمكنها من إثارة الانتباه العمومي، وبالتالي تصبح ذات ثقل اجتماعي يمارس ضغطا على المجتمع. فيغدو الفرد بسبب ذلك مكتسحا باقتناع راسخ أن هذه الوقائع مهما بلغت درجة تفاهتها، لا تهمه لوحده وإنما تهم العموم، ومن ثمة يستسلم لأهميتها المزعومة.
  
ويؤكد صاحب العمل أن المهمة المنسوبة للصحافة والمتمثلة في نقل الأخبار، لا تدل إلا على جزء سطحي من مهمتها الجوهرية، فهي لا تكتفي بصنع الأخبار، وإنما تخلق "الشيء الاجتماعي" وتستديم وجوده. إنها حقل لإنتاج العام، عبر آليات خاصة تتحمل فيها الصورة والنص بالدرجة الأولى القسط الأوفر من هذه العملية المعقدة. وهذا يعني ـ كما يؤكد ـ  أن الواقع يشرع في العمل باعتباره وظيفة، انطلاقا من ممارسات الصورة والنص التي توفرها الصحافة والإعلام و التي تجعل " الكلام العمومي" (la parole publique) ينطوي على ارتباط حميم بالنظرة المعممة التي تفرضها ممارسات الصورة، والتي لا يكون الواقع المدرك على أنه كذلك، إلا اشتقاقا منها. 
 
ويعتبر الباحث عبد الصمد الكباص في كتابه أن هذه الممارسات المتعلقة بالنص والصورة، التي من خلالها يصبح الواقع قابلا للاستهلاك، ويحظى بوضعه ككيان معرف، بواسطة التثبيت النسبي الذي تفرضه هذه الممارسات التي تنقل الوقائع من أحداث زائلة و غفل، إلى وقائع مشتركة بعد انتزاعها من مجرى الزمن وتخزينها في اللغة والصورة، لا تتعلق بالقدرات الخاصة لكل من الصورة والنص في حد ذاتهما، ولكن تترتب بشكل وثيق عما يتيحه الحامل المادي (ورق، جهاز إلكتروني..) من إمكانات لإطلاق طاقات مفاجئة و مؤثرة لكل منهما.  لذلك كان الانتقال من زمن ينتظم حول حامل مهيمن إلى زمن ينتظم حول حامل آخر، انتقالا من حضارة إلى أخرى. لأن الحامل أو الوسيلة المادية  لتخزين الأثر وتوزيعه، لا يكتفي بدور الوسيط، وإنما يعين الوسط ( بمعناه الإيكولوجي) الذي يحدد مسبقا إمكانيات قيام مبادلات رمزية    échanges symboliques مثلما يحدد مفعولها. فكل حامل (اي الوسيلة المادية المعتمدة في تخزين الأثر وتوزيعه) يأتي محملا بقطائع حاسمة تمس طرق التفكير والتواصل وإمكانات الفعل.
 
ويلاحظ صاحب العمل أنه من المؤكد كما تُظهر ذلك التجربة المباشرة، أن الانتقال من الورق إلى الفضاء الرقمي، هو انتقال في المنطق الحضاري لتشغيل النص والصورة، لكنه يتجاوز ذلك. فهو إذ يعين انتقالا في طرز بناء الذاكرة وتسجيل الأثر، يحدد أيضا إمكانات الحقيقة وما يُفترض الخضوع له باعتباره حقيقة. ويقول في هذا الصدد" صار ت إمكانات التكنولوجيا الرقمية و هي تستحوذ على وظيفة تخزين الأثر، أي إنتاج الذاكرة، تعين طرقا جديدة لتولد الذات التي أضحت تتعرف على نفسها من خلال تموقعها الرقمي في الفضاء الإلكتروني مستنتجة حضورها الفعلي في العالم ومشاركتها فيه، من خلال الحصيلة الكمية من علامات الإعجاب التي تحصل عليها في حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي. مثلما صارت قناعتها تُبنى من خلال حجم المشاركة (partager) الذي توفره هذه التطبيقات على التجهيزات الذكية. بمعنى أن إمكانات الذات صارت محددة بما تتيحه تطبيقات التكنولوجيا الذكية التي توجد في متناول اليد. إذ غدا هذا المسلسل السريع لمضاعفة الذات في بديل رقمي، تعميقا لذلك التصور الذي أضحت معه الذات تطبيقا معلوماتيا، حسب الصياغة التي قدمها لوشيانو فلوريدي، والذي يعزز طبيعتها المعلوماتية انطلاقا من مبدأ جون أرشيبالد ويلر John Archibald Wheeler " الشيء من البيت"(it from bit) والذي يعني أن كل الأشياء المادية هي نظريا معلومات في الأصل." 
 
وانطلاقا من الرؤية الميديولوجية المذكورة يحاول الكتاب الإجابة عن مجموعة  من الأسئلة منها: كيف تدبر هذه العلاقة بين كيانين مختلفين هما الصورة والنص، أحدهما معد للقراءة والثاني للنظر، الأول يستكشف من خلال توسطات اللغة وتعاقدات الكتابة ودوائر التمثيل المتربة عنها، و الثاني يفيض من خلال مباشرة حسية، ويحقق أفقه الدلالي عبر كيانات الألوان والأشكال وتدرج الضوء وزوايا ضبط الإطار وغيرها؟ كيف تتحقق هذه العلاقة من خلال الحامل الورقي في الصحافة؟ وما الحدود التي تمليها الصفحة الورقية من حيث كونها مكانا نصيا، على هذه العلاقة، وأية طاقة تأويلية متبادلة تحررها بينهما، أي الصورة والنص؟ ما الذي يتغير في هذه الأبنية عندما تنتقل إلى الشاشة الإلكترونية، وتدرج في بنية الاستعجال التي تحكم منطق الشبكة؟ ما الآثار المترتبة عن إمكانيات الربط السريع بين النص والصورة والصوت التي توفرها الشبكة، على هذه الأبنية؟ وما التحولات التي تطرأ عليها عندما تصير الشبكة بيئة معلوماتية لعملية لإخبار(l’acte d’informer)، محددة  بتحفيزات الأجهزة الذكية وتزايد تأثير الشبكات الاجتماعية بوصفها مجالا لتحقق ظاهرة الاستقطاب الإلكتروني للعمليات الإخبار، أي لعمليات بناء النص والصورة بغاية إخبارية؟ ما الذي يتغير في هذه الأبنية عندما يتدخل الفيديو(vidéo)، في عمليات ربط سريع مع النص؟ و ما تأثير هذه العوامل الجديدة التي تتيحها الأجهزة، في أبنية الصورة والنص، من مثل خيارات المشاركة (partager ( والنقل (copier) والإلصاق (coller)  والحذف (supprimer)؟.
 
ويشدد صاحب العمل على أن استدعاء الرؤية الميديولوجية كخلفية للتفكير في العمليات المعقدة لإنتاج العام من خلال الصورة والنص عبر متغير الحامل الذي يمثل وسما لعتبة انتقال عميقة، يأتي ردا على جوانب القصور التي تظهرها المعالجات السائدة للصحافة بشكل عام.   إذ أن الصحافة الإكترونية ما زالت تُأخذ على أنها ظاهرة جديدة، و النص يُنظر إليه على أنه بناء مستقل عن الحامل، والاهتمام بالصحافة بشكل عام ينصب بالدرجة الأولى على أنها ممارسة نصية تقوم فيها الصورة بدور هامشي، رغم تضخم الحديث عن قوة و نفوذ و سلطة الصورة. كما أن الممارسات الإخبارية المنجزة من قبل مستخدمي الإنترنيت، في شكل تدفقات هائلة من النصوص و الصور عبر الفايسبوك (facebook) والتويتر   (twitter) و الإنستغرام (instagram) و اليوتوب(youtube) و الواتساب (whatsapp)، والتي تدخل عموما في نظام الشبكات الاجتماعية، لم تدمج لدينا (في الفضاء العربي) بجدية ضمن الاهتمام العلمي، ما عدا بعض الدراسات المنجزة من زاوية تأثيرها السياسي.

ويقول عبد الصمد الكباص "إن هذا الاحتواء الرقمي للذات و العالم، عندما نضعه ضمن سؤال الحامل الذي يعنينا فيما يخص ممارسات الصورة و النص، يجعلنا في مواجهة مباشرة مع انشقاق للكائن، يفصل ما بين كائن الورق وكائن الشاشة الملساء الحساسة التي تتجمع فيها كل معاني التفاعل و الحضور (la présence ) والاستحضار (apprésentation) و التي تحول العالم بكامله إلى ما يتركز وجودها فيه.  فهذا الانشقاق لا يهم فقط الفجوة التي تفجرت في عمق كائن ارتبط بالورق كمكان لحيازة العالم في سردية موثقة في النسق التعاقبي للكتابة، وغدا فجأة مستوعبا بكامله في النسق الفوري للارتباط الشبكي (connectique)،  وإنما يتعلق بشكل جوهري بهذا التحول العميق الذي أصبح يشرط هذا الكائن في تاريخيته و في الزمن الذي أنتجه. إذ أن التوسط الكلي صار مبتلعا بكامله في التزامن الفوري، مثلما صارت الشاشة التعبير المباشر عن وحدة الذات و العالم، المستنتجة باعتبارها الإمكان الفوري للناظم الآلي للمعلومات. فإذا كانت صفحة الورق، تشكل في عمقها نظاما ثقافيا لكائن تظهر تاريخيته في الفسحة الزمنية بين الحدث و بين فرص تمثيله، فإن الشاشة الإلكترونية، عدلتها بأن جعلت التزامن الحي المتاح من خلال الارتباط الكلي الذي تتيحه الدرجة الفائقة للسرعة التي تشحن التجهيزات الذكية ، مجالا للاستغناء عن تاريخية هذا الكائن."
 
وعن دوافع إنجاز هذا العمل يقول الكباص في مقدمة الكتاب "ّ لقد امتهنت الصحافة منذ أزيد من عقدين، عايشت من خلالها النتائج الملموسة لهذا التحول الذي لم يكن وليد اليوم، ولم يكتمل بعد. عاينت فيه، من موقع المتورط في إنتاج نمط من الخطاب مهمته تصنيع الواقع، وتحويله إلى شكل ناجز قابل للاستهلاك استنادا إلى تدفق الأحداث، مقطعا من زمن نفوذ الصحافة الورقية، وقوة انتشارها، مثلما عايشت بداية انحسارها و تراجعها مقابل توغل الصحافة الإلكترونية بما رافقها من مظاهر بدت استثنائية وغريبة عن تقاليد الصحافة الورقية. وهي المظاهر التي لم يكتف تأثيرها على أنماط التوزيع والتلقي للخطاب الصحافي، وإنما تجاوزها إلى التأثير على ممارسات الصحافة الورقية، حيث غدت مجبرة على مراجعة تقاليدها في التحرير، تحت ضغط الممارسات الجديدة التي رافقت الحامل الإلكتروني."

وتحفل معالجة الكتاب للموضوع الذي جعل مجاله الاختباري الصحافة المغربية، بحزمة من المفاهيم كالتموقع الشبكي، والاستقطاب الإلكتروني للأخبار، و النظام الورقي ودرومولوجيا النص المبتلع في الصورة، وتزامنية اللامتزامن، والتفاعل السردي، وسلطة الفيديو وعودة الشفهي، بنية الاستعجال والمشاركة... التي يعمل من خلالها على ضبط مجال تحليله.