الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: رحلتي إلى برشلونة.. شاطئ مختلف

عبد الصمد الشنتوف: رحلتي إلى برشلونة.. شاطئ مختلف عبد الصمد الشنتوف
كما كان مقدرا، وصلنا بلاصا كاتالونيا على الساعة الحادية عشر صباحا. الجو قائظ. الساحة شبه خالية من السياح. وجدنا ياسين ينتظرنا بجانب نافورة ساحرة، تنبعث منها مياه راقصة. الحمام يحوم حولها، ولا يتورع من القفز فوق رؤوس ثلة من الزوار، في مرح وحبور، وكأنه في موعد مع الفرح.
سلكنا طريقنا تجاه البحر عبر أزقة ضيقة وسط الحي القوطي القديم. تقمص عبد الحق دور دليلنا السياحي بحماس، ذلك أنه يعرف دروب برشلونة جيدا، وملم بمعالمها ومواقعها الباذخة. أحسست وكأني سافرت في زمن غابر. خلت نفسي أغوص في قطعة من زمن العصور الوسطى. إحساس جذاب لا يقاوم. يقول عبد الحق إن هذا الحي التاريخي نشأ على أنقاض هياكل بناها الرومان منذ ألفي عام، وتم إعادة بنائه وتوسعته خلال القرون الوسطى. مشينا بين مبان وجدران سميكة مرتفعة فوق رؤوسنا، تحجب أشعة الشمس، وتكاد تغطي السماء، مما يؤدي إلى انخفاض درجة الحرارة حتى تبدو الأزقة شبه قاتمة. تسللت إلى جسدي انتعاشة باردة. نسيم هواء رطب يداعب وجهي.
بعد وهلة قصيرة، مررنا بجانب كاتيدرائية عملاقة تضم ثمانية أبراج شامخة، تعلوها أجراس ضخمة تقرع بين الفينة والأخرى.
سمعنا صوتا شجيا يأتي من إحدى جنبات المبنى. انعطفنا يمينا، لنجد رجلا هرما يقف على أعتاب درج الكاتدرائية، خلفه باب خشبي عريض، يلقبونه بالفنان خوصيه، وينحدر من جزيرة مايوركا. كان يمسك بجهاز كاريوكي مرتديا لباس"السوبرانو"، لا يمل من تعديل ربطة فراشة سوداء تزين عنقه. بمجرد ما يطلق العنان لحنجرته الذهبية حتى يلوذ الجميع بالصمت، فيشرع في أداء أغان وموشحات الأوربرا بصوت جهوري عذب. عمره ستون ونيف، شكله بدين، وشعره أشيب. تخيلته يشبه الفنان العالمي بافاروتي من دون لحية. التفت إلى ياسين قائلا: إنه فنان ضائع في شوارع برشلونة، كان بوده أن يصعد منصة مسرح لوسيو، فهو يمتلك طبقة صوتية قوية وطويلة النفس. وقفنا مشدوهين نستمتع بصوته الصادح. حينما يتوقف، تعلو تصفيقات وصيحات الرواد مرددين برافو، برافو!
بعدئذ، يمسك خوصيه بقبعة إيطالية ليتجول بها بين الجمهور وكأنه يستجدي بعض اليوروهات.
 
أبهرني الحي القوطي إلى حد الإفتتان. مشاهد أعادتني عدة قرون إلى الوراء. تزاحمت أسئلة في رأسي عن كيفية تشييد هذه الصروح الصامدة منذ عهد الرومان، معالم عنيدة تتحدى الزمن وتسخر من علوم عصرنا المتطور. أسوار غارقة في القدم، وأحجار يفوح منها عبق التاريخ.
قادتنا خطواتنا إلى متحف فريدريك ماريس الشهير. وقفنا أمام فناء تتوسطه نافورة رخامية عتيقة. تراءى أمامي مشهد من عصور النهضة: خوان دي هيريرا، فرانشيسكو ميلزي، وجان فوكيه ملتفون حول ليونارد دافينشي، فيما الأخير يؤدي شروحات دقيقة، مرتديا قميصا أبيض نصفه أحمر، بشعر طويل ولحية متلاشية. كان الفنان دافينشي يمسك بقلم خشبي طويل، وقد بدا ظهره مقوسا منحنيا نحو الأرض، منكبا على رسم لوحة فنية. تجمدت في مكاني محدقا، وقد استهواني المشهد كثيرا. سرعان ما استدار ليوناردو لتقع عيناه بعيني متبسما في وجهي. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وابتسمت. لم أملك سوى أن رفعت يدي اليمنى لأحييه في خشوع. تنفست بعمق ثم انصرفت.
 تابعنا سيرنا في شارع طويل أفضى بنا إلى ساحة البحر. ألفينا حانات، مقاه، ومطاعم ممتلئة عن آخرها تنتشر في كل الزوايا. فضاء بهيج يدب بحركة السياح والزائرين.
قبل أن نعرج على شاطئ برشلونيتا الخلاب، جلسنا لنرتشف فناجين قهوة كولومبية، ولنستريح قليلا في مقهى بالوما. رغم حلول شهر أكتوبر إلا أن الجو كان صحوا ومشمسا. جلست بمحاذاة صديقي ياسين نصيخ السمع لحديث عبد الحق يقدم لنا شذرات من تاريخ الحي القوطي المدهش. يقيم عبد الحق هنا منذ أكثر من خمس عشر سنة. يقول إن الحياة رائعة في عاصمة كاتالونيا، ولا تضاهيها مدينة أخرى. طقس جميل، رائحة البحر، شاطئ أزرق هادئ، سمك طازج، وتجوال بين أبنية ومعالم ساحرة. يثني كثيرا على تسامح شعب كاتالونيا الناضح بالحيوية، كما يشيد بالجالية المغربية المترعة بالحركة.
بعدما أمضى سنتين في إحدى جامعات قاديس قدم إلى برشلونة ليتسكع قليلا، وإذا به يجد نفسه منجذبا بقوة إلى دهاليزها، منغمسا بين ثناياها، وقد احتضنته في دفء، فاتحة له ذراعيها. لا يتصور الحياة في مكان آخر عدا برشلونة. صارت وطنه الثاني، هكذا يردد بفخر وثقة.
 
بارحنا مكاننا، وانطلقنا نسير على مهل في ممشى شاطئ طويل يغص بالمصطافين. عندما تنظر يسارا، يخطف بصرك بحر خامل يبدو كبساط أزرق فسيح. أجساد طرية مستلقية على رمال دافئة ناعمة، مدهونة بزيوت لامعة تقيها من أشعة شمس لافحة. ما أن تمد عينيك نحو أفق بعيد، حتى تلوح لك زوارق ويخوت فارهة، تتهادى مترنحة فوق صفحة الماء. صعقني منظر بعض المستجمين وهم عراة كما ولدتهم أمهاتهم. والأدهى من ذلك حينما توغلنا في جادة الكورنيش الساحر، رمقنا شابتين ممشوقتي القوام، شقراوتين عاريتين تماما، تقفان تحت الدوش وصبيب الماء يجلد ظهريهما، دون أن يثير ذلك أي فضول لدى المارة.
تخيلت إمام حينا حين صعد المنبر وبدأ يخطب: النظرة الأولى لك والثانية من الشيطان. طردت الإمام من رأسي وأبقيت على الشيطان. ضعفت وانهزمت أمام ما رأيت. استرقت نظرات سريعة متصفحا جسدي الفاتنتين خلسة بطرف عيني. أطلقت نظرات متتالية أولى، وثانية، وثالثة، ثم همست في نفسي "سبحان الذي خلق وأبدع فأذهل العيون بجمال خلقه".
توجهت نحو عبد الحق في ذهول أسأله، ما هذا؟
قال إنها الحرية!
لحظتها، طاف بذهني مقتطف من رواية "زوربا اليوناني" للأديب نيكوس كازانتزاكيس حينما خاطبه أنتيكا:
- أنا حر يا زوربا.
- كلا..لست حرا، كل ما في الأمر أن الحبل المربوط في عنقك أطول قليلا من حبال الآخرين".
فكرت قليلا، وقلت إلى أي مدى أنا حر طليق في هذا العالم. كم هو طول الحبل الذي يطوق عنقي. تذكرت الناشطة الفرنسية في حركة "فيمن" حين ظهرت عارية الصدر داخل صومعة حسان بالرباط احتجاجا على سجن مثليين، ولما حاول رجل حكيم ثنيها عن أمرها شارحا لها أن هذا تصرف مستفز للمغاربة ومنتهك لحريتهم، وخرق فاضح لقيمهم ومشاعرهم، نهرته صارخة في وجهه بعصبية: أنا حرة أصنع بجسدي ما أشاء. صمت الرجل برهة ورد عليها ببرود: نعم، أنت حرة في ارتكاب الخطايا.
وما هي إلا سويعات، حتى قامت السلطة بترحيل مارغريت في أول طائرة حلقت تجاه فرنسا.
انتهيت إلى أن برشلونيتا شاطئ مختلف. بإمكانك أن تنزع عنك ثيابك بالكامل دون أن يعترض عليك أحد.
- قلت لعبد الحق سمعت عن شواطئ العراة في أوروبا، لكنها غالبا ما تكون خارج المدينة بعيدة عن مركزها، حيث الصخب وحركة الناس لا تتوقف، كما هو الحال في مدينة برايتون الانجليزية.
- فأجابني: ربما صنفت برشلونيتا قديما كشاطئ للعراة قبل امتداد أطرافها خارج المدينة العتيقة.
 
وفي مشهد مدهش هو أقرب للكوميديا الساخرة، يقف سائح عار ذي وجه نحيل، وجسد هزيل مترهل، ينتظر دوره لاستعمال الدوش. يضع كفيه على أرداف منكمشة، تعلو جبينه نظارات داكنة، مجيلا بصره في الغادين والرائحين دون أن يطرف له جفن، وكأنه يفخر بعرض عضوه الضئيل على المارة. والأكثر غرابة، طفق الكهل الضامر يمد يده اليمنى لحك خصيتيه الذابلتين من حين لآخر. هذا مقرف!
غير بعيد عن الدوش تنتصب لوحة ضخمة وسط الرمال مكتوب عليها: ممنوع التدخين في الشاطئ. استفزني الإعلان فتوجهت نحو ياسين قائلا: يا لهزلية الزمن، التدخين محرم في مكان عمومي بينما التعري المفضوح مباح. فكرت في صمت: لابأس، إنها الحرية في أبهى صورها ياسادة!
الديمقراطية تتيح لك ممارسة حريتك الشخصية في فضاء عام إلى أبعد مدى.
في شاطئ برشلونيتا يمكنك أن تتعرى كاملا، وتعبث بشيئك أمام الملأ، أما أن تولع سجارة وسط المستجمين فسيطالك سيف القانون بلا رحمة. فعلا، إنه شاطئ مختلف...يتبع...