الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

في برنامج "مدارات "..عبد السلام بنعبد العالي مفكر ذو لغة أنيقة وحس إبداعي (1/2)

في برنامج "مدارات  "..عبد السلام بنعبد العالي مفكر ذو لغة أنيقة وحس إبداعي (1/2) عبد السلام بنعبد العالي

في حلقة هذا الأسبوع من البرنامج الفكري "مدارات "، على أمواج الإذاعة الوطنية من الرباط، تتبع المستمعون فصولا من المسار الفكري للدكتور عبد السلام بنعبد العالي، أحد أعلام الفكر الفلسفي في الثقافة المغربية والعربية المعاصرة، قدم لها الزميل الاعلامي عبدالاله التهاني، وساهم في إضاءتها كل من الدكتور محمد الحيرش الباحث في اللسانيات والتأويليات، والكاتب والناقد عبد العزيز كوكاس، إلى جانب الدكتور نبيل فازيو الباحث في الفلسفة السياسية والدراسات الإستشراقية .

 

عبدالسلام بنعبد العالي وتأصيل الدرس الفلسفي بالجامعة المغربية وخارجها :

وفي مستهل حديثه، سجل عبد الإله التهاني " الدور الريادي للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، في تأصيل الدرس الفلسفي بالجامعة المغربية، وكذا في إشاعة الفكر الفلسفي خارج الجامعة، وعمله الدؤوب والصبور مع زملائه من أبناء جيله،ليجعلوا من الفلسفة مكونا أساسيا في المشهد الثقافي بالمغرب" .

وأضاف بأن ما " يشهد على ذلك هي تآليفه التي تعد بالعشرات، سواء منها التي خصصها للفلسفة الإسلامية أو أعمال كبار فلاسفة الغرب، أو ترجماته المتميزة وغير المسبوقة أحيانا، حيث نقل إلى العربية، مختارات من النصوص المبهرة في الفلسفة الغربية المعاصرة ، بكل اتجاهاتها ومدارسها، مساهما بذلك في تحديث الثقافة المغربية، وتلقيحها بجرعات متتالية من ثمرات الفكر الإنساني، تعزيزا لعملية المثاقفة، وتأكيدا على أهمية وضرورة الانفتاح على تراث ومعارف الأمم الأخرى" .

وأكد الزميل التهاني بأنه في كل ما أنتجه المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، من دراسات وأبحاث وكتابات شذرية، نجح في أن يتمثل الرصيد التاريخي للمعرفة الفلسفية، وأن يتعامل معها بعقل متفتح ورؤية منفتحة، وأيضا بخلفية نقدية صارمة" مضيفا أنه " كان يتصرف في الإرث الفلسفي الإنساني، برشاقة فكرية ولغوية لافتة، ويتنقل في راحة ويسر بين النظريات والمذاهب والأنساق المعرفية، يحللها ويعلق عليها، من باب الاستطراد المفيد، أو من زاوية نقدها والرد عليها، كلا أو جزء".

واستطرد عبد الإله التهاني يقول بأنه" يحسب للأستاذ بنعبد العالي، أنه استطاع أن يقوم بعملية ترويض مستمرة للفلسفة، حين أنزلها من علياء التحليل النظري الصرف، وانتزعها من مسالك التجريد، جاعلا منها أداة لتحليل الواقع الحي الذي نعيشه، وللتأمل في مشكلات وتعقيدات الحياة المعاصرة، بكل ارتجاجاتها المتعددة وأوجهها المختلفة، وتقليعاتها المثيرة."

وأورد معد ومقدم البرنامج أن بنعبد العالي" تناول بالنقد الحازم والتحليل الدقيق العديد من القضايا والظواهر، وأحيانا بشيء من سخريته الجميلة المتعففة، واضعا بذلك جسورا بين الفلسفة ومحيطها المجتمعي العام، وبالتالي نجح في تلقيح وعينا الثقافي بغير قليل من الزاد الفلسفي، الذي يسعفنا في تجديد الرؤيا وتوسيع الفهم وتعميق النظر ".

وأكد التهاني أن " المفكر المغربي بنعبد العالي، استطاع أن ينحت حضوره المنتظم في الساحة الفكرية على مدى خمسة عقود من الزمن، سواء من موقعه كأستاذ جامعي عكست محاضراته تملكا عميقا لينابيع ومآلات الفكر الفلسفي، أو كباحث ظل يلاحق ظل الفلسفة وأطيافها، ويتابع تلاحق التطورات والمستجدات، وتجدد النظريات والأطروحات في الفكر الإنساني المعاصر".

وأضاف بأن " من ثمرات سعيه بين مسالك المعرفة الفلسفية المعاصرة، تطالعنا أضمومة من إصداراته القيمة جاوزت 35 كتابا، 7 منها في صنف الترجمة، علاوة على رصيد زاخر من مقالاته البحثية، منشورة في صحف ومجلات متخصصة، ومساهماته المتعددة في كتب صدرت بتأليف جماعي أو مشترك".

واستحضر الزميل التهاني جانبا آخر من إسهامات المفكر الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، إذ أنه مع حرصه على الكتابة وإصدار مؤلفاته وترجماته تباعا وبانتظام، ، حرص أيضا منذ مرحلة مبكرة من مساره العلمي على العمل من أجل إشاعة الاهتمام بالفكر الفلسفي ، عبر مشاريع موزاية في مجال الإعلام الثقافي" ، مشيرا في هذا الباب إلى دوره بجانب المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، في مشروع تأسيس المجلة الفكرية المتخصصة "فكر ونقد"، بعد دوره" في تعزيز المحتوى الفكري وترسيخ الخط التحريري ، لمجلة أقلام المغربية، التي كانت قد تأسست في مطلع الستينات من القرن العشرين" .

 

عبد العزيز كوكاس: بنعبد العالي منفلت من التصنيف

وفي مستهل مداخلته، وصف الكاتب عبد العزيز كوكاس المفكر بنعبدالعالي، بأنه" كاتب متعدد ومنفلت من أي تصنيف، لأنه ظل يقيم دوما في المسافات التي تبعده، وينصت باستمرار لقضايا ما يسمى بمجتمع الفرجة" .. مضيفا أنه" دأب دائما على الخوض في حقول معرفية ، يبدو أن لا شيء يجمعها، ومع ذلك تجد لوحات في كل ما يكتبه، كما لو أنها معرض تشكيلي، وأن بينها خيطا ناظما رقيقا ، لا يرى بالعين المجردة " .

وأشار الكاتب كوكاس إلى أن الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، "خلق لنفسه لغة خاصة، دقيقة، حيث ظل كمفكر يزرع الشك في قلب اليقين، ويزلزل دائما في كتاباته ثقتنا فيما تعلمناه، بحكم أن كتابته تأملية وعدوة للتسطيح والوثوقية، والتنميطية، التي تفرض علينا كقراء ألا نكون قراء وديعين، مستسلمين، بل مشاكسين أيضا".

وأوضح الكاتب عبدالعزيز كوكاس في مداخلته، ضمن هذه الحلقة من برنامج " مدارات "، أن كتابات عبد السلام بنعبد العالي "هي كتابة تحفيزية، تنشط الخلايا الحيوية للعقل والحواس، ولا يمكننا كقراء أن نكتفي أمامها بقانون الجهد الأقل، أو الكسل الفكري" .

 

حين يصبح المعيش اليومي موضوعا للتأمل الفلسفي :

وأبرز الكاتب كوكاس أن الاستاذ بنعبد العالي، "لم ينزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، بل رقى اليومي ليصير موضوعا فلسفيا، أي موضوعا للتأمل في التفاصيل التي لا نلتفت إليها، دون أن يفقد الفلسفة كبريائها وجلالها" .

كما توقف كوكاس عند خصيصة أساسية يتميز بها بنعبدالعالي، وهي أنه من قلائل "المفكرين الذين استطاعوا أن يرفعوا وقائع اليومي، إلى حقل التأمل الفلسفي العميق، لأنه يرى أن الفلسفة، هي نسغ حياة الأشياء والموجودات والمعارف، وهي كينونة الكتابة في مختلف تجلياتها" .

وتأسيسا على ذلك، قال عبد العزيز كوكاس، إنه " كثيرا ما كان يلام عبد السلام بنعبد العالي، حينما ينطلق من هذه الهفوات والتفاصيل الصغيرة، التي تبدو كما لو أن الفلسفة ذات الجلال الباذخ والوقار والهيبة ، تنزل إلى مثل هذه المواضيع، لكن ما أن تدخل إلى نسيج العنكبوت ، الذي يسيجك به في مقالاته التأملية حتى تجد نفسك مستسلما لغواية القراءة، وإتمام النصوص".

واستطرد كوكاس قائلا بأن بنعبد العالي، لم يكن مترجما فقط، بل كان مبدعا فيما يكتب، ونسج لغة أنيقة، فيها حس إبداعي.

وسجل أن هذا المفكر " خلق لنا فكرا بعيدا عن النسق، على اعتبار أنه لم يكن يهتم بأن تكون له نظرية فلسفية وفكرية، مثلما فعل الجابري والخطيبي"، مبرزا بأنه كان مع الكتابة الشذرية، وأنه حافظ في كتاباته على بعد المطارحة، وعلى الكفاءة المنهجية"، معتبرا أنه له" كتابة نابعة من المتعة والحيرة، وقلق التيه، وسعادة حقيقية لا نلمس فيها أثرا سابقا لخطوه، لأنه لم يكن أبدا مقلِّدا، حتى وهو يتكلم عن "هايدجر"، وعن "فوكو"، وعن "دولوز"، وعن "نيتش" وغيرهم" .

وشدد كوكاس أن كتابات بنعبدالعالي " لم تكن كتابات مبشرة بأي منهج فلسفي، أو تصور فلسفي، ولا بأية نظرية فلسفية، لأن بنعبد العالي هو نفسه، يهدم النظرية ويهدم النسق" .

 

كتابات تعري البلاهة والتسطيح :

وانطلاقا من ذلك، اعتبر كوكاس أن كتابات عبدالسلام بنعبدالعالي " كتابات قلقة متمردة على أي تصنيف، لأنها تشكل مختبرا مفتوحا. فهو يهدم التقليد والقناعات الكسولة من الداخل. والكتابة عنده تلعب على حدود الخطر بمكر خاص، لأنها تعري الأٌقنعة الكثيفة للتقليد، وتعري البلاهة والتسطيح والجاهزية والوثوقية" .

ووصفه بأنه قارئ ذكي، وعميق للنصوص، وقراءته متنوعة، من حقل الإبداع إلى حقل علوم الاتصال، إلى الفلسفة بكل حقولها، إلى العلوم الإنسانية بكل تفريعاتها".

وشدد كوكاس على أن بنعبد العالي، "يعلن منذ البدء اتكاءه على "باشلار، وديريدا، وفوكو، ونيتش، وهايدجر " وغيرهم، ولكنه لم يكن تابعا ولا شارحا، ولا ناقلا لهذه الكتب من لغات إلى لغة أخرى، ومتبنيا لما جاء فيها، أو يلبس جبة الداعية ويبشر بمفاهيم ونظريات فلسفية، وإنما له قدرة على إقامة صيغة حوار واع، على اعتبار أنه كان مصاحبا. ولا وجود لمحبة الحكمة دون هذه المصاحبة، لأنها رأس المعرفة، وأساس الفلسفة"، بتعبير الكاتب عبدالعزيز كوكاس .