الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

سعيد الناجي: لماذا لا يدق المسرحيون المغاربة جدران الخزان؟

سعيد الناجي:  لماذا لا يدق المسرحيون المغاربة جدران الخزان؟ سعيد الناجي

آلمتني تدوينة  على الفايسبوك للفنان المسرحي الشاب أمين غوادة كشف فيها  ندما حارقا عن عودته من المهجر إلى البلد لمتابعة مشروعه المسرحي: "لماذا عدت إلى وطني بعد غياب سنتين؟ لماذا تركت الراتب والحياة الكريمة وعدت إلى...؟ هل أثر في كلام أصدقائي : لقد تركتم الساحة المسرحية فارغة ... (رغم أنها لن تفرغ أبدا..!!) عدت متشوقا إلى الإبداع والخشبة بيقين أني لست ممن ينسجمون مع حياة الوظائف... وانتظرت سنتين ...  والنتيجة : لا مكان لك هنا. بعد مقاومة جامحة، هزمني السؤال : لماذا عدت؟ هل بسبب لعنة الوطنية والانتماء؟ أم بسبب لعنة مشروعي الثقافي الذي رأيته أهم من فردانيتي؟!! أم بسبب سذاجتي !!

أمين غوادة فنان مسرحي شاب، عرفته وعاينته حتى قبل التحاقه بالمعهد العالي للفن المسرحي بالرباط، فكيف يصل فنان شاب إلى هذا الألم والندم وهو  في مقتبل العمر؟

وهل يحق لوطن أن يدفع فنانا شابا ليس فقط إلى الهجرة، ولكن إلى أنين الندم؟

للأسف هذه هي المآلات النهائية لوضعية مسرحية مغربية عرجاء، أن يبث الفنانون أنين الألم وهم في بداية الطريق...

وقبل مدة صدمني خبر رحيل مخرج مسرحي شاب هو جواد السوناني وكان متألقا في عمله كما أطلق في الوقت ذاته تجربة فرقة مسرح   دباتياتر؛ وأذكر كذلك لقائي به ذات يوم في فاس وهو ابن مدينة صفرو القريبة منها، وكيف كان يحلم باستنبات تجربة مسرحه في مدن مغربية عدة... وفجأة تبخر كل شيء وهاجر إلى أمريكا... وقبل أكثر من 30 سنة، وفي أعقاب، وفي أعقاب إخراج رائع لمسرحية "نومانسلاند" لمحمد قاوتي، انسحب المخرج المسرحي ابراهيم نشيخ، ورحل إلى أمريكا...

وكما نمتلك روادا  مسرحيين رائعين، نمتلك مسرحيين أصبحوا روادا فيما ذاقوه من فشل   وخيبة أمل، منهم من صمت تعففا، ومنهم من  صاح من أنين الألم: ألم يرحل عنا مخرج عالمي من عيار الطيب الصديقي وفي صدره غصة عدم إكمال مسرحه الخاص؟

ألم يواكب ويسير فنان مثل ادريس التادلي فرقة المعمورة المسرحية لأكثر من عشرين سنة، ليجد نفسه في النهاية لا يلوي على شيء؟

ألم يكن مولاي احمد العراقي يبث شكواه دائما من ذهاب جهوده سدى في مواكبة تجربة مسرح الهواة قبل أن تنتهي إلى الخيبة؟

ولا نتكلم عن جحافل الفنانين الذي أسقطتهم الفاقة والعجز  والمرض وأنقذتهم فقط التفاتة ملكية كريمة... ولكن الواقع الأليم  للفنان المسرحي غير قابل للنسيان.

منذ حوالي ربع قرن، اقترحت الحكومة الاشتراكية الأولى بقيادة عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أولا ومحمد الأشعري وزيرا للثقافة صيغة الدعم المسرحي باعتباره إجراء مستعجلا لإنقاذ جسد مسرحي قريب من السكتة القلبية. وككل بلد متخلف، برعنا في تحويل هذا الحل المؤقت والمستعجل إلى وضع قار وثابت لتنظيم قطاع مسرحي كبير بفنانيه وتاريخه ومنجزاته. ولم يفلح أي وزير ثقافة لاحق في خلق بنية إنتاج قارة للمسرح، وكان أقصى ما أفلح فيه وزراء الثقافة اللاحقون هو فتق معطف الدعم لتفصيله وخياطته حسب تصور كل وزير... وتم إقبار مشروع الفرق الجهوية التي أرادتها الحكومة الاشتراكية أسلوبا لتجاوز صيغة الدعم إلى خلق وضع مسرحي قار.

وللأسف لم يتحاوز سقف مطالب المسرحيين أنفسهم تدبير الدعم وطرق تصريفه (ندوة  مراكش 2005) أو الاحتجاج على تخفيض مبالغه حتى افترق الفنانون نقابات وشيعا، وذات سنة عرجاء تفرقوا إلى من استفاد من الدعم ومن لم يسبق له الاستفادة، ومن استفاد من التوطين ومن لم يستفد منه، ووضعت لكل فئة تنسيقية... والبقية يعرفها الجميع.

وفي صيف 2022، وبعد جائحة كورونا حيث اكتوى جسد المسرحيين بالإهمال والضيق، وفي عز جائحة الحرارة المفرطة وصواريخ أسعار الوقود، أفرجت وزارة الثقافة عن نتائج دعم المسرح.  المبلغ كله المخصص لدعم المسرح  يقارب 12 مليون درهم ل 41 فرقة مسرحية ( ما يعادل مبلغ دعم 3 مشاريع أفلام سينمائية). وتتراوح مبالغ دعم جولات الفرق بين 150000 و 200000 درهم لعشرة عروض على ما أفترض.  ولا أدري مع موجة الغلاء وارتفاع أسعار المحروقات، كيف ستدبر الفرق هذا المبلغ في جولاتها المسرحية، ومتوسط عدد أعضاء الفرق المتنقلة لا يقل عن 6 أشخاص؟ والأدهى أنه منذ عشرين سنة أو اكثر لم تتغير  مبالغ الدعم وكأن كلفة الحياة اليومية لم ترتفع، ففي حدود 2004 كانت نفس مبالغ الدعم التي لم تتجاوز 200000 درهم. ألا يحق للفنان أن يعاد النظر في مستحقاته عن  عمله بما ينسجم مع موجات الغلاء الفاحشة التي اجتاحت البلاد؟

أحيانا، حين أضع رأسي على وسادة النوم، وفي اللحظات بين اليقظة والنوم، أرى فرقة مسرحية تستقل حافلة صغيرة وتسلك طريقا جبليا وعرا في عز الحر لكي تقدم مسرحيتها في إحدى النواحي؛ وفجاة تتحول تلك الحافلة (والعهدة على الحلم) إلى خزان ماء فارغ قبل أن يتجمع الناس عليه لإخراج الفنانين منه... لأستيقظ على السؤال الجارح الذي تركه غسان كنفاني مجلجلا كأنه ينطبق على وضعنا: لماذا لا يدق المسرحيون المغاربة جدران الخزان؟