السبت 20 إبريل 2024
سياسة

أحزاب الأغلبية والمعارضة تتوحد ضد الوطن والمواطنين

أحزاب الأغلبية والمعارضة تتوحد ضد الوطن والمواطنين
حينما تواجه الدول أزمات كبرى، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية...، يفترض أن تنخرط مختلف نخبها في التفكير في الحلول لمواجهة هذه الأزمة أو تلك. وفي مقدمة هذه النخب، توجد الأحزاب السياسية، سواء أكانت في الحكومة أو في المعارضة. فهذه الأحزاب، انطلاقا من مبررات وجودها، وفي سياق الأزمات، "تتوحد" من أجل الوطن والمواطنين.
إننا نقصد من "التوحد" هنا الانشغال بالبحث عن حلول لمواجهة الأزمات، وهناك تجارب تابعناها في تاريخ الدول، لجأت فيها أحزاب، باختلافاتها السياسية والإيديولوجية، إلى "وحدة وطنية"، مستثمرة كل طاقاتها وإمكاناتها للانتصار على الأزمة، بغض النظر عن موقعها في الأغلبية الحكومية أو في المعارضة.
قد يحدث هذا في البلدان التي حباها الله بأحزاب حقيقية تتمثل الغاية من وجودها، وتحرص على النهوض بأدوارها كاملة. أما في بلدنا، فلا نملك إلا أن نضع أيدينا على قلوبنا. فواقع أحزابنا يجعلنا لا نطمئن على مستقبل بلادنا، ويحول غضبنا على حاضرنا إلى خوف على مستقبلنا. 
فأحزابنا، أغلبية ومعارضة، تتوحد، ولكنها تتوحد ضد الوطن والمواطنين.
ويكفي تشريح مشهدنا الحزبي، لنتأكد من ذلك.
نعم، إن السعي نحو تشريح المشهد الحزبي المغربي يعد أحد المسالك الضرورية لفهم بعض أعطاب السياسة ببلادنا، وضمنها ظاهرة الانحباس التي تسم الوضعية العامة بحيث يسود الاحتقان أوسع الفئات الاجتماعية، وفي مقدمتها الطبقة الوسطى وعموم المواطنين البسطاء.
من هنا المهمة التي يضطلع بها هذا العدد من "الوطن الآن" الذي يتجه نحو مساءلة الفاعلين السياسيين، والمعنيين بالشأن العام، بغرض فهم ما يجري داخل أروقة الأحزاب بعد قرابة عشرة أشهر على تشكيل الحكومة الحالية التي أفرزتها نتائج الانتخابات التشريعية في شتنبر 2021، والتي تتكون من الأحزاب التي تصدرت النتائج: التجمع الوطني للأحرار، وحزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة. ومع ذلك، فالمقصود بمساءلتنا ليس فقط هذه الأحزاب، ولكن كذلك أحزاب المعارضة التي تتحمل هي الأخرى، من موقعها المعارض، مسؤوليات دستورية جسيمة. 
لنشرع بأحزاب الأغلبية الحكومية لنتفحص وضعها الحزبي اليوم، ولنقارب الشأن المتعلق بأعرقها (الاستقلال)، المتمرن تاريخيا، وأكثر من غيره، على تجريب الموالاة والمعارضة على حد سواء. فليس سرا التأكيد على أنه يعيش، منذ مؤتمره الأخير على الأقل، تصدعا تنظيميا بين القيادات، وأجنحته السياسية والنقابية والشبيبية والنسوية. ولعل آخر تمظهرات هذا التصدع الخلاف الناشب حاليا بين أنصار الأمين العام نزار بركة وأنصار حمدي ولد رشيد، عضو اللجنة التنفيذية للحزب، على خلفية إدراج عدد من التعديلات التي تمس النظام الأساسي للحزب، وذلك ضمن مخاضات المؤتمر الاستثنائي الذي أعلن عن تنظيمه في السادس من شهر غشت القادم.
التصدع يمس، كذلك وفي العمق، حزب الأصالة والمعاصرة الذي تتضاعف أزماته التنظيمية المزمنة، لكنها احتدت مع بروز ما يسمى "حركة تصحيح المسار" التي أصدرت، في ماي الماضي، بيانا دعت فيه عبد اللطيف وهبي، الأمين العام للحزب ووزير العدل الحالي، إلى الاستقالة من منصبه الوزاري أو من الأمانة العامة، مؤكدة "انقلاب الأمين العام على الخط السياسي للحزب، من خلال خرجات إعلامية مرتجلة وغير مسؤولة تضر بصورة الحزب، وتجلب سخط الرأي العام".
في شهر ماي نفسه تفجرت داخل هذا الحزب مسألة تنظيمية تبدو تفصيلية لكنها تؤشر بالفعل على تأزم آخر بأبعاد تنظيمية بليغة الدلالة من حيث مسارب اتخاذ القرار الحزبي، ونوعية انضباط والتفاف البرلمانيين حول القيادة أو اختلافهم معها. ذلك أن بعض ممثلي الحزب في البرلمان رفضوا أداء المساهمة الشهرية للحزب، والمحددة في 3000 درهم، بدعوى "تحملهم مصاريف الحزب على الصعيد المحلي"، مثيرين مسألة عدم استفادتهم من دعم الحزب خلال الحملة الانتخابية الماضية، ومتسائلين في نفس الوقت عن "مصير الدعم الحكومي الذي يحصل عليه الحزب من الدولة".
أما التجمع الوطني للأحرار الذي يقود الحكومة، فهو يحرص على الظهور بأنه أسلم مكونات الأغلبية من حيث التنظيم والانضباط. فلقد أصدر، في الثاني من يونيو الماضي، بلاغا يؤكد فيه، من الناحية التنظيمية، ما اعتبره "نجاح المؤتمرات الجهوية للحزب"، معتبرا محطاته تلك "فضاءات تنظيمية حاضنة للنقاش الجاد والمسؤول". لكن ذلك لا يمكن، بحسب المتابعين للوضع الحزبي التجمعي، أن يخفي تلك الجراح التي تفاقمت، منذ سنة 2020، وبالضبط قبل سنة من الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث تبين وجود خلافات في إدارة الحزب نتج عنها إقصاء وزيرين، إثر التعديل الحكومي، وإبعادهما من دائرة صنع القرار داخل الحزب. كما تركت تلك الجراح تفاعلات مستمرة إلى اليوم على المستوى التنظيمي في الفروع والجهات.
إذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى، أي إلى أحزاب المعارضة، فسنجد أن التصدع هو السمة المشتركة بينها. فالاتحاد الاشتراكي لا يزال يعيش على وقع تفاعلات المؤتمر الحادي عشر (يناير الماضي) الذي تميز، بحسب خصوم إدريس لشكر، بإفراغ الحزب من كل الطاقات، ومن كل من يعبر عن وجهة نظر مختلفة حتى ينفرد الكاتب الأول بالولاية الثالثة، والتحكم بالتالي في القرار الحزبي مستقبلا. وهذا ما انعكس على السير التنظيمي مركزيا، وعلى مستوى الفروع والجهات. كما انعكس على أداء الحزب، وعلى ما تبقى من حضوره.
نفس الوضع يعرفه حزب التقدم والاشتراكية الذي يعيش اليوم مخاض التحضير للمؤتمر الحادي عشر. لكن الطريق إلى هذا الاستحقاق محفوف بالكثير من مشاكل التنظيم، خاصة بعد تواصل من يسمون أنفسهم بالتصحيحيين الذي ينددون باستفراد القيادة الحالية بالقرار، وبتهميش المعارضين، وبما يعتبرونه "تسخينات حالية من أجل ترشيح نبيل بنعبد الله لولاية رابعة ضدا على المعارضين، وعلى مبدإ التناوب على المسؤولية"، في حين أكد بنعبد الله، في ندوة صحفية عقدها بمقر حزبه بالرباط، عدم "الرغبة في الترشح من جديد لرئاسة الحزب خلال المرحلة المقبلة".
ويعيش الحزب الدستوري، الذي فرضت عليه المعارضة، نفس الوضع بعد أن تصاعدت الانتقادات في وجه محمد ساجد وأنصاره ب"دعوى إقصاء أصحاب الرأي المعارض، وارتكاب مخالفات تنظيمية من أجل التحكم فرديا في صنع القرار". وهو ما سعت اللقاءات التواصلية لتطويقها منذ مارس الماضي، على أساس أن يحسم فيها المؤتمر السادس المرتقب يومي 1 و2 أكتوبر القادم.
أما حزب العدالة والتنمية، فليس في وضع مختلف بعد أن فقد عذريته، ووزنه العددي في البرلمان، بل وفقد وحدته التنظيمية، مما جعل الأمين العام يتعثر في خطوه، كما في كلماته وأفكاره، فلا هو معارض مقترح لبدائل حقيقية، ولا هو من الموالاة. فقط يهندس شؤونا ما داخل الغموض بحثا عن وضعية حزبية تخرجه من الوضع البئيس الذي يقيم فيه اليوم.
حتى فيدرالية اليسار التي كانت تجسد أمل العديد من المغاربة في إحداث رجة في الانتخابات التشريعية الأخيرة عبر تمكين جيل جديد من السياسيين من ولوج المؤسسة البرلمانية مغاير لجيل «الشناقة» و«الغنيمة»، أحبطت وأجهضت الأحلام قبيل الانتخابات بالصراعات حول من يقود الزعامة ومن يكون في الواجهة، فوقع تصدع الفيدرالية ودخل اليسار مشرذما للانتخابات.
يقودنا هذا التشريح الأولي، معززا بشهادات وتحليلات يضمها هذا العدد، إلى تسجيل أن الأعطاب التي أشرنا إليها في مقدمة هذه الورقة، وإلى أعراضها المتمثلة في صراعات مزمنة، وأخرى متجددة، تعود إلى ثلاثة عوامل تترابط فيما بينها:
 
الأول: غياب الديمقراطية الداخلية، سواء على مستوى التدبير، أو على مستوى صنع القرار.
 
الثاني: عدم تجديد النخب، إذ يتم اعتماد نفس الوجوه مع التعمد في تهميش الشباب والمعارضين...
 
الثالث: تأصل الأزمة التنظيمية، والإبقاء على تأجيل الحلول، وحتى المؤتمرات تعجز عن ذلك. بل إن هذه المؤتمرات هي التي تؤجج التصدع، وتفاقم الخلافات.
والنتيجة أننا صرنا إزاء أحزاب مفككة مسكونة بالضغائن، ومفصولة عن الواقع. النتيجة الثانية أننا صرنا إزاء أحزاب بلا مبادرات في مضمار الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. بحيث صارت تبدو كما لو أنها بلا وظائف، أو مشاريع أو خارطة طريق. بل صارت، في أحسن التوصيفات، مجرد مكتب تدبير للعمليات الانتخابية بمختلف أصنافها ومستوياتها ما دامت قد اختزلت، في الممارسة وبها، عملها في ردود الفعل عوض أن تكون بالفعل قوة اقتراحية لحماية المجتمع، وأداة وساطة ناجعة  لإقامة التوازن بين الدولة والمجتمع.
بؤس هذا المشهد يجعلنا فقط، من باب الاستئناس، نستحضر مع وجود الفارق الكبير تجارب الأحزاب في المجتمعات الديمقراطية حيث المؤسسة الحزبية ليست دكانا انتخابيا، ولكنها حاكمة مرة، ومعارضة مرة أخرى. ومن ثم شرعيتها وعملها الجدي، ووفاؤها في أداء مهمتها الدستورية والأخلاقية. إن الأحزاب الفرنسية مثلا تتصارع اليوم من أجل ابتكار الحلول للمشكل الرئيسي الخاص بالقوة الشرائية، ولاحتمالات انتشار جائحة "كوفيد" ومتغيراتها من جديد، وللمشكل البيئي، ولمواجهة مخاطر استمرار الحرب على أوكرانيا، وما يترتب عنها من مشاكل الحبوب والغاز والنفط... كما أن الأحزاب البريطانية تتصارع اليوم دفاعا عن النزاهة والمسؤولية السياسية. وهو ما أسقط رئيس الوزراء بوريس جونسون من إدارة حزب المحافظين في انتظار تنحيته من منصب رئاسة الوزراء.
مجمل القول إن سلامة المشهد السياسي، في بلادنا كما في بلدان الآخرين، من سلامة مكوناته. ولذلك، فالأعطاب الحالية مصدرها واضح وتشخيصها أوضح: نخبة حزبية مهترئة لا يمكن إلا أن تنتج ممارسة مهترئة، وهو ما لا يليق ببلد ينشد التغيير والديموقراطية، ويعتبر نفسه جديرا بأحزاب تنقله من مجال التعثر الديموقراطي إلى مجال التحقق الديموقراطي الكامل.
 
تفاصيل أوفى في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"