الاثنين 25 نوفمبر 2024
جالية

المهدي بنسعيد الركيبي: حرب أوكرانيا.. العبور من الجحيم أو الطريق إلى ميكيدا

المهدي بنسعيد الركيبي: حرب أوكرانيا.. العبور من الجحيم  أو الطريق إلى ميكيدا صور للمغاربة العالقين بالحدود الأوكرانية البولندية وفي الإطار المهدي بنسعيد الركيبي
لم أكن أتصور يوما ما أن أكون شاهدا على إحدى المآسي الإنسانية التي كانت الحدود الأوكرانية البولندية مسرحا لها على إثر الاجتياح الروسي لجمهورية أوكرانيا .. كان كل شيء يوحي بأن الأزمة ستنفجر لأن فتيلها قد أوشك على الاشتعال رغم المساعي والجهود التي بذلت من اجل الحيلولة دون اندلاعها..
كل القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي تضج بأخبار تكاد تجزم جميعها بأن الاجتياح هو مسألة وقت فقط أما القرار فقد اتخذه الكرملين وأطلع عليه الدول المعنية بالأزمة ...
كان خوفي طبعا على آلاف الطالبات والطلبة المغاربة الذين يتابعون دراستهم في مختلف الجامعات والمعاهد الأوكرانية يحدوهم تحقيق حلم أسرهم التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل هذا الحلم ..
هؤلاء الطلبة الذين درسوا جميعهم تاريخ الحربين العالميتين المقررة في الباكالوريا، أوشاهدوا أهوالها في أعمال سينمائية أو في البرامج التلفزيونية، لم يعتقدوا يوما ما أنهم سيعيشون حقيقة بعضا من أهوالها ويضطرون ليقطع مئات الكيلمترات راجلين للفرار من ويلات القصف أو يقفون في طوابير طويلة لا تكاد تنتهي عند نقط العبور يلفح وجوهم برد سيبيري قارس لا يرحم ..
كل هذه الصور تزاحمت في مخيلتي وأنا أقطع بسيارتي مئات الكليومترات التي تفصل بين المدينة التي أقطنها غرب بولندا ونقطة الحدود المسماة "ميديكا"، استجابة لنداء الواجب الوطني والإنساني الذي طوقني بأمانة تقديم العون لمن هم في حاجة إليه.
 كانت فيديوهات الطالبات والطلبة المغاربة وهم يرسلون عبر منصات التواصل الاجتماعي نداءات الاستغاثة، وبكاء الأمهات والآباء خوفا من مصير قد لا يرحم فلذات أكبادهم الذين لم يتصوروا يوما أن يعودوا إلى الوطن في توابيت عوض أن يعودوا حاملين لشواهد عليا تجعلهم يفتخرون بهم ..
في الطريق كانت قوافل السيارات القادمة من الاتجاه المعاكس لا تكاد تنقطع، قوافل تذكر بمشاهد الحرب العالمية الثانية، سيارات تترنح تحت حمولتها ويبدو أنها لن تزيد عن الأساسيات خاصة كل ما يمكن أن يقي من برد الشتاء القارس جدا ...
وصلت نقطة الحدود البولندية الأوكرانية برفقة صديقي الصحفي المغامر بقناة شوف تيفي محمد العقاوي عند منتصف الليل، فضاء يظهر من الوهلة الأولى أن السلطات البولندية هيأته على عجل ليستقبل الفارين من جحيم القصف الروسي ، آلاف الأشخاص فرادى وجماعات ومن كل الجنسيات وأغلبهم أوكرانيون، وفدوا على النقطة الحدودية حيث يجدون في استقبالهم مختلف المنظمات الانسانية البولندية وسلطات هذا البلد، وقد وفرت خياما للعناية الطبية وأخرى لتوزيع الوجبات الغذائية والماء وأخرى للملابس المستعملة .. منظمات إنسانية وسلطات حكومة تقدم المساعدة والدعم دون ميز بين الأعراق أو الجنسيات، وهذا أمر ليس بغريب عن الشعب البولندي الذي عاش فترات عصيبة أيام الاحتلال النازي، وخبر خلالها محنة الجوع والبرد والإبادة.. 
انتزعتني من شرودي أصوات تشبهني وأشبهها ، تجمع للعشرات من الشباب والشابات يرتجفون بفعل برد قارس يتسلل إلى أجسامهم الواهنة التي أتعبها السير والجوع والصقيع، يحكون بشكل جماعي عن معاناتهم وأهوال الطريق والقصف، يضحكون ويبكون ويحمدون الله الذي أنجاهم. أصوات تعلو لتطمئن الأهل والأقارب وأخرى تسأل عن أقرب محطة للاستراحة من تعب الطريق ..
كان بعضهم يحيط برجل تبينت أنه سفير صاحب الجلالة ببولندا والذي للحقيقة لم يسبق لي أن التقيته وإنما كنت أسمع عنه ما يبعث على التقدير والاحترام لرجل يستحق صفة" سفير القرب " لتواجده الدائم في دائرة اهتمامات الجالية. لقد كان السيد السفير عبد الرحيم عثمون وطاقم السفارة، منذ الوهلة الأولى للعبور في استقبال الجالية المغربية مجندين كل الإمكانيات لتوفير عبور آمن لهم ..
انضممت رفقة زميلي الاعلامي العقاوي إلى خلية الأزمة التي شكلها السيد السفير وبدأنا الاشتغال وفق توجيهاته واتخاذ المبادرات لإنجاح خطة الاجلاء. وبحكم إتقاني للغة البولندية قمت بالاتصال بإحدى شركات النقل التي تعاقدت معها السفارة لنقل أفراد الجالية المغربية إلى مقر الاقامة الذي وفرته لهم في انتظار ترحيلهم عبر طائرات الخطوط الملكية المغربية إلى الوطن..
شعور غامر بالفرح والارتياح تعكسه وجوه الطلبة المغاربة وهم يمتطون الحافلات، وكأنهم يرتمون بين أحضان الوطن يشعرون بدفء الاستقبال وسلامة النجاة ، 
في الطريق إلى مدينة فارسوفيا عاصمة بولندا حيث مقر إيوائهم، استسلم الجميع للنوم، كيف لا وبعضهم حكى لي أنه لم يذق طعم النوم ولم يغمض له جفن منذ أربعة أيام ...
وفي مقر الايواء الذي وصلته الحافلات مع تباشير الصباح، كان هناك السيد السفير في الاستقبال حيث أشرف على عملية الإيواء وتقديم وجبة أكل ساخنة وبعدها عم صمت المكان، ليستسلم  الجميع لسطوة سلطان النوم. 
في هذه الاثناء كانت خلية الأزمة بإشراف السيد السفير تخطط لعمليات الاجلاء الموالية، والترحيل بتنسيق مع السلطات البولندية وممثل شركة الخطوط الجوية الملكية المغربية ..
أبحث عن النوم لكنني لا أجده ، ربما كانت صيحات الاستغاثة  وبكاء الأمهات كافية لطرد النوم عن جفوني، لأغادر مرة أخرى بصحبة الزميل العقاوي وطاقم السفارة نحو نقطة الحدود لاستقبال فوج آخر. نفس المشاهد تتكرر آلاف يقطعون المعبر يتعانقون، يبكون فرحا .. نبحث عن المغاربة ، نجمعهم ، نستمع لحكاياتهم ..نواسيهم ونكتم دمعة متحجرة في أعيننا ، تنطلق الحافلة من جديد في اتجاه مقر الايواء بالعاصمة البولندية ...
يوم الأربعاء 2 مارس 2022 وكما كان مقررا يتم نقل الفرج الأول إلى مطار العاصمة .. وهناك يقف السيد السفير على كل التفاصيل المتعلقة بعملية التسجيل والإركاب ويودع الطلبة والطالبات متمنيا لهم عودة ميمونة وبدورهم يعبرون له في تلقائية عن شكرهم وامتنانهم لعطفه الأبوي الذي خصهم به منذ استقباله لهم..
لقد أتاحت لي هذه المأساة أن أقف على حجم المعاناة التي يرزح تحت وطأتها الأشخاص الذين يتعرضون لأخطار الصراعات والحروب. وأشكر الله أن سخرني لتأدية الواجب الوطني والإنساني إلى جانب مجموعة من المتطوعين المغاربة وبإشراف شخصي من سيادة سفير صاحب الجلالة في بولندا وطاقم السفارة الذين أبانوا حقيقة عن وعي كبير بالمسؤولية، وكانوا نموذجا لفريق فعال في تدخلاته وهذا ما تشهد به السلطات البولندية والمنظمات الانسانية التي أثنت على انسيابية تدخلات خلية الازمة المغربية وحسن تعاونها مع سلطات هذا البلد الصديق...
عدت إلى المدينة التي أقيم فيها ونداء الواجب لازال صداه يتردد في أذني. أتذكر طلب السيد السفير منا أن ألا نبخل باتخاذ كل المبادرات التي من شأنها أن تدعم الجهود المبذولة لإجلاء مواطنينا العالقين ، ... بعثت SMS على رقم هاتف المدير العام للصليب الأحمر البولندي أطلب منه تقديم المساعدة لخلية الأزمة المغربية ، ولم يلبث أن اتصل بي هو شخصيا ليعبر لي عن استعداده لتقديم كل أشكال الدعم المتاحة. وعدني انه سوف يثير الموضوع في اجتماع سيعقد بوزارة الخارجية. وقبل أن أودعه أخبرته أنه بإمكانه ان يعتمد علي للمساهمة عن بعد إذا كانت الحاجة تدعو إلى تدخل يهم جانب الترجمة في نقط العبور مع مغاربة أو من الاتحاد المغاربي. ولهذه الغاية طلبت منه أن يوزع رقم هاتفي على كل وحدات الصليب الاحمر البولندي في نقط العبور للاتصال بي باعتباري عضوا في خلية الأزمة التي تشتغل تحت مسؤولية السفارة المغربية بفارسوفيا ...وشكرته ..
على سبيل الختم..
شباب مغاربة يفيضون حماسا وهم يسافرون إلى بلد لا يشبههم ولا يشبه طقسهم الدافئ ولا خصوصيات مجتمعهم طلبا للعلم والمعرفة .. فيندمجون وينجح أغلبهم في الحصول على شواهد عليا ويتزوج العديد منهم هناك ويكونون أسرا .. هاهم يعودون مثقلين بذكريات الحرب .. إنهم في اعتقادي يحتاجون بعد العودة إلى جلسات مع أخصائيين نفسانيين لمساعدتهم على استيعاب ما جرى وتجاوز الصدمة التي لم تكن لهم فيها يد..
لن أنسى ذلك الشاب الذي لهول الصدمة لم يتعرف على صوت أمه في التلفون .. ولم يستوعب ما جرى. ولحسن حظه ان مجوعة من أصدقائه تكلفوا باصطحابه إلى نقطة الحدود حيث قدمت له الرعاية الطبية..
شكرا للسيد السفير ولكل طاقم السفارة المغربية .. وشكرا للسلطات البولندية في نقط الحدود التي شكلت استثناء في معاملتها الانسانية مع العابرين دون ان يسجل في حقها سلوك عنصري للأسف طبع معاملات بعض دول الجوار الأوكراني وسجلته وسائل الاعلام.. لقد حق لنا أن نفتخر بصداقة هذا الشعب الهادئ والكريم .. وهنا أدعو أخواني في المغرب الحبيب أن يردوا التحية بأفضل منها عندما يتعلق بمعاملة السائحين أو المستثمرين البولنديين ...
انتهت قصتي ولكن يبدو أن قصة معاناة العالقين والفارين لن تنتهي قريبا  ...