يُعدّ التكفير من أخطر الإشكالات الفكرية التي ابتُليت بها المجتمعات الإسلامية قديمًا وحديثًا، لما يحمله من آثار مدمّرة على الدين والدولة والإنسان معًا. فالتكفير ليس مجرد حكم عقدي نظري يُتداول في بطون الكتب، بل هو انتقال خطير من مجال الفكر إلى مجال الإقصاء، ومن الاختلاف المشروع إلى نفي الآخر دينيًا وأخلاقيًا، تمهيدًا لتجريده من الحقوق، وربما لاستباحة دمه وماله. ومن هنا تتضاعف خطورته، لأنه يُلبس العنف لباس الدين، ويُقحم المقدّس في صراعات البشر وأهوائهم، ويحوّل الخلاف الفكري إلى صدام وجودي لا يعترف بالتعدد ولا بالتعايش.
إن مقاربة ظاهرة التكفير لا يمكن أن تكون مقاربة فقهية جزئية أو أمنية ظرفية، لأن جذورها أعمق من ذلك بكثير. إنها أزمة في الفهم، لا في الدين ذاته، وأزمة في المنهج، لا في النص. فالنص القرآني والسنة النبوية يؤسسان في جوهرهما لمنظومة رحمة وعدل وسعة، لا لمنطق الإقصاء والتضييق. يقول الله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين﴾، ويقول النبي ﷺ محذرًا من خطورة هذا المسلك: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما». ومع ذلك، شهد التاريخ الإسلامي، في لحظات التوتر والاضطراب، قراءات متشددة للنصوص، فصلت الجزئي عن الكلي، والوسيلة عن المقصد، والظاهر عن الحكمة، وتعاملت مع الدين بمنطق ثنائي حاد: إيمان مطلق أو كفر مطلق، دون اعتبار لتعقيد الواقع، ولا لمراتب الخطأ، ولا لشروط التكفير وموانعه التي قررها علماء أهل السنة والجماعة.
ومن المنظور الفلسفي، يقوم التكفير على وهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وهو وهم يناقض طبيعة المعرفة الإنسانية المحدودة، ويصادر حق الاختلاف، ويغلق باب الاجتهاد، ويحوّل العقل من أداة لفهم النص إلى خصم ينبغي تعطيله. ولهذا لم يكن التكفير في يوم من الأيام ظاهرة دينية خالصة، بل كان دائمًا متداخلًا مع الصراع على السلطة والشرعية والهيمنة الرمزية، حيث يُستدعى الدين لتبرير الإقصاء، ويُستخدم الحكم بالكفر كسلاح لإسكات الخصوم وإخراجهم من دائرة المشروعية للوصول إلى دائرة القرار والحكم .
أما من المنظور المقاصدي، فإن التكفير يصطدم اصطدامًا مباشرًا مع المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية. فالشريعة، كما قرّر الإمام الشاطبي، إنما وُضعت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودرء المفاسد عنهم، وأن كل فهم أو تنزيل للنص يُفضي إلى إهدار هذه المصالح هو فهم مختل، ولو استند ظاهريًا إلى نصوص صحيحة. فالتكفير يهدم مقاصد حفظ النفس حين يشرعن العنف والقتل، ويهدم مقصد حفظ العقل حين يُجرّم التفكير والسؤال، ويهدم مقصد حفظ الدين حين يقدّم صورة مشوّهة عن الإسلام تنفّر الناس منه بدل أن تهديهم إليه، كما يهدد حفظ المال والنسل بسبب الفوضى والحروب والصراعات الداخلية التي يولدها. ولهذا قرر الشاطبي قاعدته العميقة التي تُعدّ ميزانًا في هذا الباب، حين قال إن المجتهد إذا أخطأ في الجزئيات مع حفظ الكليات فهو أقرب إلى الصواب ممن أصاب الجزئيات وأخلّ بالكليات. والتكفير، وإن توهّم أصحابه أنهم يدافعون عن “نقاء العقيدة”، فإنه في الواقع يهدم كليات الشريعة باسم جزئيات متوهَّمة.
ولم يكن أثر التكفير محصورًا في الجدل العقدي أو السجالات الفكرية، بل كانت له نتائج كارثية على بنية الدول الإسلامية واستقرارها. فحين يتحول المجتمع إلى ساحة تصنيف حاد: هذا مؤمن كامل، وهذا مبتدع، وهذا كافر؛ تنهار الثقة الاجتماعية، ويُستبدل منطق المواطنة ومنطق الجماعة الوطنية بمنطق “الفرقة الناجية”، وتُختطف الدولة من قبل جماعات تدّعي احتكار الدين واحتكار تمثيله. وقد أثبت الواقع، قديمًا وحديثًا، أن خطاب التكفير يُضعف شرعية الدولة ومؤسساتها، ويفتح الباب أمام العنف المنظم وغير المنظم، ويُسهّل الاختراق الخارجي بذريعة “محاربة التطرف”، ويُدخل المجتمعات في دوامة من الصراعات الداخلية التي تستنزف الطاقات والثروات، وتحوّل الدين من عامل أمن واستقرار إلى أداة صراع وتفكيك.
والأخطر من ذلك أن التكفير يحوّل الخلاف السياسي أو الفقهي إلى صراع وجودي، حيث لا مجال للتعايش ولا للاجتهاد ولا للتعدد، بل للغلبة والإلغاء، وهو ما يتناقض جذريًا مع فلسفة الدولة في الإسلام، القائمة على تحقيق السلم الأهلي، ورعاية المصالح العامة، ومنع الفتنة، وتقديم الاستقرار على الفوضى. فالدولة في التصور الإسلامي ليست دولة “فرقة” ولا “مذهب”، ولا "جماعة " بل دولة جماعة المسلمين بمختلف اجتهاداتهم، ما دام الجامع هو الإسلام والانتماء للأمة.
وفي خضم هذا الإشكال التاريخي والفكري، تبرز العقيدة الأشعرية باعتبارها أحد أهم المنجزات العقلية في تراث أهل السنة والجماعة، ليس فقط من حيث ضبط العلاقة بين العقل والنقل، بل من حيث موقفها المتوازن والحذر من مسألة التكفير. فقد قرر أئمة الأشاعرة، منذ أبي الحسن الأشعري، مرورًا بالباقلاني والجويني والغزالي والرازي وغيرهم، قاعدة مركزية واضحة مفادها: عدم تكفير أحد من أهل القبلة، ما لم ينكر معلومًا من الدين بالضرورة إنكارًا صريحًا عنادًا واستخفافًا. وميّزوا بدقة بين الكفر والبدعة، وبين الخطأ والتأويل، وبين الضلال والخروج من الملة، واعتبروا أن الخطأ في مسائل الاعتقاد، مع بقاء أصل الإيمان، لا يخرج المسلم من دائرة الإسلام.
وقد شدّد الإمام أبو حامد الغزالي على خطورة التسرّع في التكفير، معتبرًا أن الخطأ في ترك تكفير ألف كافر أهون من الخطأ في تكفير مسلم واحد، لأن التكفير حكم خطير يتعلّق بالمصير الأخروي وبحقوق الدماء والأموال، ولا يجوز التهوّر فيه. وهذا المنهج الأشعري لم يكن موقفًا نظريًا معزولًا، بل أسهم عمليًا في حفظ وحدة المجتمعات الإسلامية، واحتواء الخلافات العقدية، ومنع تحوّلها إلى حروب دينية داخلية، بخلاف بعض الاتجاهات الكلامية المتشددة التي ضيّقت دائرة الإسلام ووسّعت دائرة الكفر، فأنتجت عقلية إقصائية لا تعترف بالاختلاف ولا تحتمل التأويل.
ولم يكن انتشار العقيدة الأشعرية في دول كبرى كالمغرب والأندلس ومصر وبلاد الشام وتركيا العثمانية مجرد صدفة تاريخية، بل لأنها وفّرت إطارًا عقديًا متوازنًا يخدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويمنع تحويل الخلاف العقدي إلى فتنة عامة. فقد أدركت هذه الدول، عبر التجربة التاريخية، أن الأمن العقدي لا يتحقق بالتشدد ولا بالتكفير، بل بالحكمة والاحتواء، وأن العقيدة التي تحترم العقل، وتُعظّم النص، وتتحفّظ في إصدار أحكام التكفير، تشكّل سندًا فكريًا للدولة، لا عبئًا عليها.
إن مواجهة ظاهرة التكفير في السياق المعاصر لا يمكن أن تختزل في مقاربات أمنية أو ردود جزئية متفرقة، بل تحتاج إلى مشروع فكري وتجديدي متكامل، يقوم على إحياء المقاصد الشرعية في التعليم والخطاب الديني، وترسيخ منهج أهل السنة في التفريق بين الخطأ والكفر، وإعادة الاعتبار للعقيدة الأشعرية بوصفها مدرسة وسطية جامعة، وربط الدين بالعمران الإنساني لا بالصراع والهدم، وحماية الدولة من التوظيف الإيديولوجي للدين ومن اختطافه من قبل جماعات عابرة للمجتمع والدولة.
فالدين الذي لا يحفظ وحدة المجتمع، ولا يصون كرامة الإنسان، ولا يمنع الفتنة، قد أُسيء فهمه، مهما رُفعت باسمه من شعارات. والتكفير، في جوهره، ليس دفاعًا عن العقيدة، بل عدوانًا على مقاصدها، وليس حماية للدين، بل تهديدًا لوجوده الاجتماعي والإنساني.
إن أخطر ما تواجهه الدول الإسلامية اليوم ليس فقط التحديات الاقتصادية أو السياسية، بل أزمة المعنى، ومعركة الفهم الصحيح للدين. ولا سبيل إلى تجاوز خطر التكفير إلا بإعادة الاعتبار للعقل المقاصدي، والمنهج السني الرشيد، وفي قلبه العقيدة الأشعرية، التي أثبتت عبر القرون أنها عقيدة وحدة لا فرقة، وبناء لا هدم، ورحمة لا إقصاء. فحماية الأوطان تبدأ بحماية المعنى الصحيح للدين، وحماية الدين لا تكون إلا بإبعاده عن منطق التكفير، وإعادته إلى مقصده الأسمى: هداية الإنسان وبناء الأوطان، وإعمار الأرض وإصلاحها واستخراج خيراتها بما ينفع الناس جميعا .
الصادق العثماني- أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
