الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

حبيبي عبد الإله: متعة التماهي بسرديات الخرافات البدائية...

حبيبي عبد الإله: متعة التماهي بسرديات الخرافات البدائية... حبيبي عبد الإله

التحكم في العقول يبدأ من الأخبار التي تعطى للجمهور... حتى حرمة المقابر دنست...

تركيز اهتمام الناس على تتبع أخبار الفضائح، ودعوتهم بشكل ضمني لترك كل شيء لحظة ظهور خبر يتعلق بفضيحة ما، أو بحصول شيء غريب في زقاق مهمش، أو في بيت شعبي مفكك، أو في مقبرة لا يقطنها إلا الأموات سرعان ما تستثمر لأجل استنهاض مزيد من شحن النفوس بسيكولوجية العجيب والغريب ممزوجا بالتجسس على عورات وأعراض الناس...

 

أعرف أن مقالات كثيرة تناولت الموضوع بمقاربات مختلفة، وكتابات جدية حاولت تفسير آليات هذه الظاهرة الاتصالية والإعلامية  التي استطاعت أن تحتل مساحة مهمة من فعل التأثير في الرأي العام الشعبي، وان ذلك لم يزدها إلا صمودا، وانتشارا، بل وقوة وحضورا  من خلال نسبة الأحداث التي تقوم بتغطيتها ليل نهار ومن كل البقاع وفي أوقات قياسية يصعب على صحافة محترفة، مهنية أن تحققها...

 

ليس هذا هو المهم، بل ما أثار انتباهي هو كيف انتقلنا من مواضيع الجنس والجريمة والسرقة والخيانات الزوجية المحبوكة بشكل سينمائي رديء، إلى مستوى آخر يتعلق بتحريك بركة العجيب والغريب الراقدة في اللاشعور الجمعي لمجتمع ما زال يتأرجح بين العصر ومتطلباته، ومتعة التماهي بسرديات الخرافات البدائية... ظاهريا هو سلوك اجتماعي قد مضى على اختفائه عقود حتى اعتقد الملاحظون أن أغلب المغاربة قد تغيروا نحو استعمال العقلانية في رؤيتهم للأشياء وتقييمهم للظواهر والأحداث، لكن ما حدث مؤخرا بإحدى مقابر القنيطرة يطرح علامة استفهام كبيرة على مدى  قوة استمرار معتقدات المغاربة المتجذرة في سيكولوجية الانجذاب نحو كل ما هو عجيب وغريب، أي كل ما هو شاذ وخارج عن المألوف، بمعنى كل ما من شانه تحطيم توقعات العقل وبديهيات الحس المشترك، وهو ما يؤكد انبعاث عقلية التسليم بحصول ما لا يمكن توقعه علميا أو حتى بالتجربة العامة... لقد تأكد مع ذلك أن المدرسة لم تستطيع حتى تجميد هذه الحاجة إلى الاحتفال بشكل هستيري بالحدث اللامعقول وتحويله إلى حدث حقيقي أكثر أهمية من كل ما له علاقة بالواقع وحدود معرفته فأحرى معرفة ما يستحيل حدوثه...

 

آمن بعض الفضوليين أن صاحب القبر يطرق اللحد، يرسل إشارات أنه ما زال على قيد الحياة، كانت مجرد همسة من فم أرعن، لتصبح الهمسة، صيحة، وصراخ وتدافع، واشتباك وتبادل السب واللعنات، ودخول الجميع من كان حاضرا في هذه المقبرة في حالة نفسية غير طبيعية نهائيا، إلا القلة المستنيرة التي كان أغلب عناصرها من أسرة الهالك، تحاول، عبثا، ثني المنفلتين عن ارتكاب ما لا تحمد عقباه في حق حرمة ميت مرت على وفاته أيام وكان جسده قد بدأ يتحلل في باطن الأرض...

 

بعد خمود هذه الشرارة اللاعقلانية، بدأ الناس يسترجعون سلامتهم العقلية، ويدركون أنهم وقعوا ضحية مفعول التماهي بنفسية الحشود، أي من شدة تكرار نفس المعلومة من لدن كثير من الذين تنصتوا على القبر وأكدوا أن المدفون يطرق اللحد، أصبح الوهم حقيقة، وتحول الحلم إلى قوة جسدية، كنس  العنف الطقوسي من طريقه كل من أراد أن يثبت أن الراحل مات منذ أسبوع ويستحيل  أن يبقى على قيد الحياة من قضى أياما في باطن الأرض دون هواء أو ماء أو ضوء... لكن كان  لسحر اللحظة اللاعقلانية مفعولها، لقد جرفت حشودا، وتحولت المقبرة إلى معبد  لعقيدة الإيمان بالخوارق، إي إلى شبه ميدان تؤثثه سكرة روحية غريبة، تنعشها الدعاية والشائعة التي أتت من مصدر مجهول، وغزت بسرعة قياسية كل النفوس واستحال ضبطها...

 

لقد كانت الحاجة إلى متعة الخارق قوية، وطلب ثمالة العجيب والغريب في قمة الصعود... في الحقيقة ما كان يبحث عنه ذلك الجمع الهائج ليس عودة الميت من موته، بل  عودة اللامعقول من سباته، كانت الجموع تبحث عن ضخ الحياة في معتقدات عتيقة، مغلفة بنزعة إنسانية مزيفة، هدفهم هو حصول ما يمكن أن يعجز العقل والشرع معا، أي تركيع البرهان والممكن عقليا، وتحويل المستحيل إلى واقعة ممكنة...

 

الدرس المستخلص من هكذا واقعة هو التوسيط الإعلامي لها، حيث أن الكثير من أصحاب القنوات اليوتوبية تقاطروا على موقع الحادث ليس لأجل الكشف عن زيف الحادثة واستحالة حصولها، بل من أجل شد انتباه مشاهدين آخرين أكثر مدة ممكنة، وخلق التشويق من خلال تنويع الآراء، وتضارب الروايات، وكأن الحقيقة مشكوك فيها، حتى يظل جمهور بعض هذه القنوات مشدوها بدوره، وفي حالة غيبوبة قصوى، أي ربطه وجدانيا بنفس الثمالة السيكولوجية التي عاشتها الحشود في حرمة المقابر وقدسية المكان... في موجات الحشود يموت العقل ويسيطر الهوى...