الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

سعيد أكدال: التخطيط العمراني.. إحدى أوجه انتفاء التدبير التشاوري

سعيد أكدال: التخطيط العمراني.. إحدى أوجه انتفاء التدبير التشاوري سعيد أكدال
يعرف التخطيط العمراني على أنه إجراء استراتيجي الهدف منه ضبط توسع المدن والدفع بتطورها نحو الوجهة التي تتحقق من ورائها الاستجابة لمتطلبات أفراد المجتمع. وهو أداة علمية تستعمل للتحكم في إنتاج المجال أو إعادة إنتاجه بشكل مراقب وله ضوابطه. وإنه بذلك يمثل عملا تنظيميا ذو بعد مستقبلي واستشرافي، ويوضع وفق نظرة ترمي بالأساس إلى تصور كل الاحتمالات واقتراح كل التوقعات الرامية إلى تفادي كل تطور عشوائي قد يتسبب في إحداث الاختلال بين المجال والمجتمع.
لذلك، فهو يقوم على تنظيم المدن مجاليا واقتصاديا واجتماعيا، بحيث يهتم بضبط التمركز السكاني وتوزيع الأنشطة والخدمات، وبالتالي يساعد على تحقيق التوازن بين مكونات المشهد الحضري، فيكون بمثابة السبيل المؤدي إلى تنمية محلية تخدم السكان على جميع الأصعدة داخل إطار عيش يوفر كل المتطلبات الضرورية (سكن، شغل،نقل، ترفيه... ) في ظروف فضلى.
هذا على المستوى النظري والتعريفي للتخطيط العمراني. أما على أرض الواقع، فالأمر مختلف جدا، إذ إن النماذج المعاشة تكشف بوضوح عن الكثير من العيوب وتفضح النقائص المتمخضة عن تلك الانزلاقات التي تحيل التخطيط العمراني إلى إجراء متحيز يفتقد إلى الموضوعية المطلوبة في التعامل مع المجال والمجتمع.
فبالنسبة للمغرب، نلاحظ بأن جل المدن أضحت تتوفر على وثائق تعميرية ومخططات تحدد تطور مجالاتها الحضرية وتضبط تنظيمها. بيد أن ما تعيشه هذه المدن واقعيا يبين في العديد من الحالات تضاربا صارخا بين ما هو منصوص عليه في وثائق التعمير وفي المخططات من جهة، وما يتم تنفيذه فعليا من جهة أخرى.
فقراءة التصاميم المديرية للتهيئة الحضرية تطلعنا للوهلة الأولى على أنها تتضمن تصورات ومقترحات أساسها تنظيم المدن بشكل يخدم المجتمع، بينما يظهر خلاف ذلك على أرض الواقع. حيث يتضح أن كل تلك التصورات والمقترحات تظل فقط عبارة عن شعارات وخطابات لا أقل ولا أكثر، وذلك نظرا لوجود أهداف خفية يراد تمريرها من أجل خدمة الرأسمال الخاص ولوبيات القطاع العقاري أو قصد تجسيد السياسة العامة للدولة وتأكيد حضورها الفعلي بالرغم من التنصيص القانوني على العمل التشاركي والتشاوري الرامي إلى تحقيق ديمقراطية محلية حقيقية. 
فصحيح أن التصاميم المديرية هي إجراء استراتيجي يراد منه تخطيط تطور المدن وضبطه، لكن ذلك لا يمنع من القول إن التخطيط العمراني هو لعبة سياسية لأنه فعل ذو بعد إيديولوجي لا يدرك كنهه إلا المتخصصون وأهل الهندسة المعمارية والتهيئة الحضرية.
واعتبارا لذلك، يمثل التخطيط العمراني مرآة عاكسة لمستوى الديمقراطية المحلية وأداة لقياس درجة التشبث بمبادئ التشاور وحدود إشراك المجتمع المدني في صناعة القرارات المرتبطة بتدبير الشأن المحلي.
فكلما كانت درجة الديمقراطية متقدمة إلا وتجسدت مظاهرها في المخططات والبرامج والمقترحات وجاءت معبرة عن انتظارات المجتمع. وإذا ضعفت هذه الديمقراطية بدت هيمنة الدولة المركزية واضحة وانعكست على العمران من حيث إعادة إنتاجه وتنظيمه. 
ونحن لا ننكر أبدا أن توسيع مجال التدبير التشاركي وتزايد هامش استقلالية المجالس المحلية قد قلص من هيمنة الدولة مند بداية الاستقلال. ولكن نلاحظ أن بعض المثبطات لا زالت تعيق التخطيط العمراني وتفرض نفسها كعنصر متحكم في توسع المدن وفي تنظيمها المجالي السكاني منه والاقتصادي والخدماتي.
فإن كان يبدو ظاهريا أن الجماعات المحلية أصبحت تملك زمام الأمور على مستوى الكثير من الاختصاصات، إلا أن ذلك لا ينطبق على كل ما يرتبط بالتهيئة الحضرية والتعمير. فالقوانين المعمول بها تنص على أن التخطيط العمراني يدخل ضمن اختصاص الجماعات المحلية  المخول لها مناقشة تفاصيل تصاميم التهيئة والمصادقة عليها بعد الأخذ بعين الاعتبار لملاحظات ومقترحات المجتمع المدني عن طريق ما يسمى بالبحث العمومي (المادة 25 من القانون 12.90 المتعلق بالتعمير). بيد أن ما يلاحظ هو أن تصاميم التهيئة لا تعد وفقا لمنظور وتوجهات الجماعات وتماشيا مع خصوصياتها، بل إن الدولة تظل حاضرة بثقلها من خلال مؤسساتها المحلية.
وما إحداث الوكالات الحضرية إلا من أجل التحكم في التخطيط العمراني وذلك بمراقبة التوسع الحضري وتأطيره وفقا لاستراتيجيات الدولة وتأكيد حضورها. وهذا الفعل هو بمثابة التجسيد المجالي لمركزية القرار التي تظل واقعا لا سبيل لإنكاره.
فلا جدال أن التخطيط العمراني للمدن يجب أن لا يتعارض في جوهره مع التوجهات العامة للبلاد ومع الأهداف الكبرى المحددة في مخططات السياسة الوطنية. ولكن ذلك لا يمنع من منح المجالس المحلية هامشا أوسع وتمكينها من المساهمة الفعلية في إعداد تصاميم التهيئة. وفي هذا السياق نود الإشارة إلى أنه من بين المؤاخذات على مثل هذا الإقصاء، هو أن مخططات المدن الكبرى على وجه الخصوص يتم إعدادها تحت رعاية مكاتب الدراسات الأجنبية بشكل مباشر أو غير مباشر(مكاتب دراسات وطنية بتوجهات أجنبية)، وهو الأمر الذي يتسبب في تغيب الأبعاد السوسيولوجية والخصوصيات المحلية. وكثيرا ما جاءت التصاميم والمخططات عبارة عن استنساخ أمين لنماذج وتجارب أجنبية، ولا يعدو أن يكون العمل سوى نقل في الشكل والمضمون لتصورات وأساليب تعميرية غربية لم تنل حظها من الاجتهاد المطلوب لإعادة تكييفها مع الخصوصيات الاجتماعية والتاريخية المحلية للمدن المغربية وسلوك ساكنتها.
ولا يفوتنا القول إن التخطيط العمراني إذا كان بنيانه يقام وفقا للتوجهات الكبرى للبلاد، فإن بعض أركانه تؤسس بمساهمة لوبيات أصحاب الرأسمال وذوي النفوذ والمتحكمين في سوق العقار، إما بحضور مباشر أو عن طريق تمثيليتهم بالمجالس المحلية والتشريعية. فكثيرا ما لوحظ أن مدارات المدن وتوسع حدودها ترسم تحت أعين تلك اللوبيات وبتأثير منها وذلك بهدف تحقيق أكبر الأرباح وضمان النجاح لكل أنشطتها وتدخلاتها. 
وتأسيسا على ما سبق فإن التخطيط العمراني هو في الحقيقة إجراء متحيز أكثر منه عمل تنظيمي لأنه يهدف أولا وأخيرا مسايرة مصالح الرأسمال الخاص والمحافظة على المصالح السياسية للدولة.