الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الإلاه حبيبي: متى كان الخير يقتل؟

عبد الإلاه حبيبي: متى كان الخير يقتل؟

علمنا التاريخ أن الشر هو القاتل الحامل لوباء الموت والبطش والتنكيل، وأن الخير هو نقيضه الأبدي، وصنوه الذي ينازله على مذبح بشرية تراوح مكانها بين سكرة المال والسلطة عندما تتاح لفئة من الناس فرصة التحكم في رقاب الآخرين، وبين الانتفاض ضد المذلة والهوان واستعادة المبادرة عندما ينتصر الخير على يد نخبة مصلحة تعيد رسم ملامح طريق آخر واعد بالعدل والحرية والمساواة.

الخير هو الوجه الجميل للحق، الصورة المثلى للسماء، الرحمة النادرة، اليد الممدودة في عز الضيق والألم، يحل بيننا كزائر غير منتظر، يوزع بسماته خلسة ويرحل تحت جنح الستر وظلال الحكمة تحيطه بعناية سماوية لا قناع لها. لهذا كان الخير دوما فعلا متواريا، خجولا، يخفي وجهه لأنه هو الحياء المطلق، بينما الشر عنيد، وقح، ذميم الخلقة، جسور، لا يأبه لكرامة الناس، ولا يلتفت لأوجاعهم، كما لا يهتم بمشاعرهم التي تختنق بدموع المهانة والسقوط.

الخير لا تقام له الولائم، لا يحب الظهور في الساحات المفتوحة على العيون المتلصصة على سلوك الناس، يقتحم عتمة البيوت البائسة،  يدس هباته في قلوب المكلومين دون أن يزعج طمأنينتهم، أو يفضح سرهم، وينصرف قبل أن يدركه نور الصباح. لهذا فهو، بهذا المعنى، رسول ينأى بنفسه عن التلون بصفات البشر، أو يتسخ بأدرانهم، أو يغمس يده في أوحالهم حتى يظفر بصفة القبول والرضا التي تنتظره هناك في الغيب المغيوب.

لكن الشر يظل يتربص بالخير، يطارده منذ الأزل، ينصب له الفخاخ والكمائن، يراقب حركاته وسكناته حتى في قلوب أهله الطيبين الذين لا تراهم العيون، يملأه الغيض والحسد، يتضور شوقا لتمريغه في وحل الرذيلة وهذيان الظلمات. مسيرة حافلة بالمعارك بين هذين النقيضين، مسار طويل من المواجهات  الضارية هي التي تؤثث فضاء التاريخ وتبيح للرسائل السماوية بأن تصدح عاليا منذرة ومبشرة، راسمة الحدود الفاصلة بين الصدق في الانتصار للخير، والنفاق الطافح في الجهر به وكأنه صهوة مجد يمكن منها العبور إلى التزكية والقبول والانتشار وقضاء منافع الدنيا الفانية.

يسقط الخير مغمى عليه عندما يمتطيه الشر، يمرر لجامه الغادر على فمه الطاهر، ليقوده إلى الأسواق قصد تحويله إلى بضاعة تباع في سوق النخاسة الأخلاقية. هكذا تصبح الكارثة فظيعة، والجرم كبيرا، والإثم عظيما، والسقوط مدويا، والكلام محتبسا في حناجر أهل الحق الصامتين.. والعاقبة لمن اتعظ واعتبر، وراجع وتراجع، وفكر وتأمل، وخشي الرحمان وانسحب، لأن الخير فعل من الغيب لا  تدار به رحى المنافع والحاجات العابرة....