الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

الحسين بكار السباعي: النموذج التنموي الجديد والنجاعة القضائية

الحسين بكار السباعي: النموذج التنموي الجديد والنجاعة القضائية الحسين بكار السباعي

بناء أي نموذج تنموي، يستلزم المراهنة على كل المقومات والقدرات الاقتصادية التي يمتلكها كل بلد، دون إغفال ضرورة مراجعة الخيارات والأهداف الاستراتيجية التنموية، إذ لا يمكن وضع الخيارات الاقتصادية الكبرى وتنزيلها، إلا بتوفير  فضاء سياسي ومؤسساتي واضح محفز .

 

ومن هذا المنطلق، يعد النموذج التنموي الجديد دعامة أساسية في بناء مغرب الغد الذي يتوق إليه الجميع، فهو ثمرة ونتاج تفاعل واسع مع عدة شرائح اجتماعية من مختلف جهات المغرب وخاصة المناطق الامس حاجة على تنمية مجالية. ويجسد النموذج التنموي الجديد مقترح نراه واقعي لمسار تنموي جديد طال انتظاره، نموذج يعكس الرغبة الملحة للمشاركة والاندماج والاستقلالية، خاصة لفئات الشباب المتحمس للتغيير والإصلاح.

 

فالنموذج التنموي الجديد لم يأت من فراغ، بل تمخض عن رغبة ملكية ملحة في إحداث قطيعة مع الماضي، بعد أن أصبح النموذج التنموي المعمول به متجاوزا، وعاجزا عن تلبية انتظارات المغاربة وحاجياتهم المتزايدة. حيث دعا الملك في أكتوبر 2017 أمام البرلمان إلى اعتماد نموذج تنموي جديد، يكون بمقدوره إيجاد حلول عملية كفيلة بحل المشاكل المطروحة، ليشكل قاطرة للتنمية الاقتصادية ويضمن تحقيق نمو مستدام، يحد من التفاوتات الاجتماعية والمجالية ويحقق العدالة الاجتماعية والمالية على حد سواء. ثم عاد جلالته في خطاب العرش لسنة 2018، ليشدد من جديد على ضرورة إعادة النظر في النموذج التنموي، بعدما اتضح أن المغاربة صاروا أكثر حاجة إلى تنمية متوازنة ومنصفة، تؤمن لهم الكرامة وتوفر الدخل وفرص الشغل لفئات عريضة من الشباب العاطلين من خريجي مختلف الجامعات والمعاهد .

 

نموذج يساعد على إشاعة الاطمئنان والاستقرار والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية وفق ما يتطلع إليه المواطن المغربي، من تعميم للتغطية الصحية وتيسير لعملية ولوج الخدمات الاستشفائية الجيدة وكذا ضمان استقلالية القضاء ونزاهته وشفافيته وهو ما سنركز عليه في قراءتنا المتواضعة للنموذج التنموي الجديد .

 

لا يخفى على أحد الملامح الكبرى، التي ساعد في صياغة النموذج التنموي الجديد، وأهمها الحادث الفجائي الذي هز العالم وما زالت آثاره مستمرة، وهو تفشي جائحة "كوفيد -19" التي كشفت عن العديد من  الاختلالات التي خلفت تداعيات اجتماعية واقتصادية عميقة، تتطلب وقتا طويلا لتجاوزها.

 

المغرب الذي حقق، وبإجماع المنتظم الدولي، تميزا وريادة في مواجهة الوباء وتداعياته الاجتماعية والاقتصادية، اتضح معه للمنطقة الإقليمية والدولية بروز دولة مقبلة على ثورة اقتصادية حقيقية في كل المجالات .

 

غير أن هذا التميز والدور الريادي، والذي سيشكل فضاء ملائما للمستثمرين المغاربة، كما الأجانب، ويكون موردا مهما لتوفير موارد انجاع كل مبادرة تنموية، يجعلنا كما غيرنا ممن استهواهم ركب أمواج الاستثمار والاعمال في ميادين اقتصادية مختلفة عن الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة القضائية في تلبية  تلبي تطلعات رجال المال والأعمال وقبلهم  المواطن المغربي محور كل عملية تنموية، في مدى فعالية الترسانة القانونية ونجاعة الاحكام القضائية في محاربة الفساد بجميع أصنافه والدفع بالإرساء العملي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، لكي لا يبقى مجرد شعار براق تزين به خطابات مختلف المسؤولين.

 

إن متطلبات التنمية الاقتصادية التي هي أساس وضع النموذج التنموي الجديد، ترتبط بتوفير الأمن والاستقرار، وبقضاء مستقل يحمي حقوق المستثمرين بمناسبة معاملتهم الاقتصادية، سواء فيما بينهم أوفي تعاملهم مع الدولة، مما يؤجج الطمأنينة بينهم، ويشجعهم على القيام بمزيد من الأنشطة الاستثمارية. ومن المعلوم أن الرأسمال الأجنبي هو مال حذر، إذا ما أحس بالخوف على مصالحه يهرب إلى ملاذ آمن، لذا كان للتركيز على أهمية القضاء في تحقيق التنمية التي يصبو إليها النموذج التنموي الجديد ما يبرره، فهو الملاذ الأخير للمظلومين، فإذا لم يكن منصفا وعادلا في جميع المجالات، لا مال سيؤدي إلى زيادة العبء على المستثمرين، بسبب غياب الشفافية والمنافسة والمساواة، والتي تشكل الشروط الجوهرية لجذب الاستثمار. أمر ينعكس في النهاية علي الشغل، فتكثر البطالة ويسود الفقر شرائح المجتمع ويؤثر ذلك في النهاية على موارد الدولة وتقل المشاريع. وبدل تحقيق التنمية يغرق المجتمع في ظلام التخلف وغيابات الفقر والهشاشة و يقبع في مستنقع اللاعدالة.

 

وعليه فإن القضاء يساهم في تأطير الأنشطة الاقتصادية من خلال ضبط قواعد التعامل حتى تسودها الشفافية، ومن تم كان تحقيق التنمية رهين بمدى نجاعة المنظومة القضائية وكذا فعاليتها ونجاعتها على ضمان تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والحريات.

 

ونهوضا بأهمية دور القضاء واستثمار انعكاس النجاعة القضائية على التنمية الاقتصادية واستقرارها، فقد انخرط المغرب في مسلسل إصلاح القضاء، وهو ما عبرت عنه الارادة الملكية السامية وتوج بالتغيرات الدستورية الأخيرة، والتي سيكون لها الأثر البالغ إذا ما تم تفعيل النصوص الدستورية المؤكدة لاستقلال القضاء، بشكل يضمن تنزيل المبادئ الدستورية وتطبيقها على أرض الواقع القضائي بأثرها المباشر، على اعتبار أن الغاية من الاستقلالية هي حفظ حق المواطن داخل مجتمع ديمقراطي يتمتع  بسلطة قضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية دون أن يعني تمتع القاضي في حد ذاته بأي امتياز، ومنه فعلاقة القضاء بالاستثمار واسعة ومتشبعة تشمل جل فروعه ولا تقتصر علي القضاء التجاري فحسب، وإذا كان ارتباط الاستثمار بالقضاء التجاري أساسي ووثيق فإنه مرتبط كذلك بالقضاء في المادة الإدارية ولاسيما ما تعلق منها بالضرائب والجبايات، ومرتبط أيضا بالمادة العقارية لأن الوعاء العقاري هو مناط كل استثمار ومرتبط بالمادة الاجتماعية فيما بتعلق بقضايا الشغل وعلاقة الإجراء مع أرباب العمل، ونفس الأمر بالنسبة للقضاء الجنائي فيما يتعلق بالجرائم المالية والتدابير المتعلقة بحماية المعاملات.

 

فهل سيعمل مهندسو تنزيل النموذج التنموي الجديد، من خلال عملهم، على  تتبع هذا الورش الوطني، على إرجاع الثقة للمواطنين والمستثمرين مغاربة واجانب في الدور المهم الذي تلعبه النجاعة القضائية في التنمية؟ خاصة القضاء التجاري باعتباره المحفز الأول للاستثمار، وكذلك ما للقضاء الإداري من ادوار مهمة، بخصوص المنازعات المتعلقة بالعقود الادارية والمنازعات المتعلقة بالصفقات العمومية.

 

هذا ما سنقف عليه في مقالنا المقبل.

 

الحسين بكار السباعي، محام وباحث في الإعلام والهجرة وحقوق الإنسان