الاثنين 25 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

عبد اللطيف برادة: ديستويفسكي والإصرار على الكتابة والحياة

عبد اللطيف برادة: ديستويفسكي والإصرار على الكتابة والحياة عبد اللطيف برادة
 
- لحق بي صديقي المشاكس كالمعتاد بينما كنت جالسا في المقهى اتصفح كتاب يوميات دوستويفسكي ثم جلس بقربي وبعدما طلب من النادل ان يحضر له القهوة استدار الى و حملق في وجهي سائلا اياي بنبرة فيها شيء من الاشمئزاز وهو ينظر الى غلاف الكتاب الذي كنت اتصفحه بيدي..
-ما هذا وماذا في جعبتك اليوم وما يحمله كتابك هدا من جديد
- آه إنه كتاب يسرد حياة الكاتب الروسي دوستويفسكي لكن بطريقة غير مسبوقة اعتمادا على رسائله وبعض مذكراته ..
- هكذا انت تفضل تلبية غريزة الاستطلاع من خلال كتاب يحكي عن ما عايشه الكاتب في حياته اليومية وهي اشياء لا ترقى الى مستوى كتاباته صديقي انني اتفهمك لكنني مع دلك اجزم انك تجهل كثيرا عن ما تتضمنه كتبه الشهيرة من افكار وعبر ..
- بلا قرأتها كلها وأنا في الثانوية لكنني اعترف في الحقيقة انني الان لا اتذكر منها إلا ما ندر ودلك بسبب تقادم الزمن ثم انني لا اود مراجعتها حتى لا اشعر وكأنني رجعت من جديد الى الصف الدراسي اكرر نفس الدروس ولهدا فضلت اقتناء كتب تعرفني عن بعض الجوانب الخفية للكاتب نعم احتاج الى الجديد لان قراءة مثل هدا الادب لجدير بالاهتمام اد انه يعطيني فكرة عن الخلفية التي جعلت الكاتب يبدع في اعماله ويمدني بالبعد الاخر للتأليف من اجل الاضطلاع على خلفية كتابته لرواياته
- وكيف ذلك
- بكل بساطة فقد نجد ضمن طيات هده الكتب افكارا لم يجرؤ البوح بها الكاتب في اعماله وأخرى قد اوحت له بكتابة رواياته
- ألهذا اجدك حريص على قراءة الى جانب السير الذاتية الرسائل
- بكل تأكيد
- لكنها لا تعبر في معظمها الاعلى جوانب حميمية اذ تكشف معظم الرسائل المتبادلة بين مشاهير الأدباء والفنانين والمفكرين مع أصدقائهم وحبيباتهم أو زوجاتهم على الجوانب الذاتية لهم ليس اكثر ،وهي لم تكن رسائل مكتوبة أصلا لأجل ألنشر بل للتداول الشخصي فقط. ولهذا أظن ان الدافع هو حب الاستطلاع فقط ..
-مع ذلك يجد فيها العديد من الباحثين ومؤرخي الأدب والفكر معينا لا ينضب من التفاصيل تستعد على فهم القيم والأفكار والأحداث، التي تشكل الجانب الخفي لأعمال أولئك الكتاب وغيرهم من المشاهير .ويمكن الإشارة في هذا الصدد الى رسائل المفكر الوجودي الدانماركي سورن كيرك كورد الى زوجته رجينا و رسائل الأديب التشيكي فرانز كافكا الى صديقه ماكس برود، ورسائل الحب التي كتبها المفكر الألماني كارل ماركس الى زوجته جيني أو رسائل فلوبير في أربعة مجلدات التي كتبها بين الأعوام 1887 و1893، وهده بعض الأمثلة الحيّة على ذلك
- لكن هناك فارق حسب علمي بين رسائل هؤلاء ودوستويفسكي
- بلا لا تحيد رسائل الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي الى زوجته آنا غريغوريفنا ( يسميها أحيانا آنيا) عن ذلك. حيث كتبت تلك الرسائل بين ألمانيا وبيترسبوغ وموسكو خلال أربعة عشر عاما (1866-1880). و تُرجمت من الروسية الى العديد من اللغات العالمية ومنها الانكليزية، الا أنها لم تترجم الى اللغة العربية حتى الآن..
- طيب بما انك اطلعت على فحواها اطلعنا عن بعض ما تمتاز به عن غيرها من افكار وأسلوب
- نعم فهي تختلف في اسلوبها شكليا وضمنيا عن رسائل غيره من الكتاب حيث مما يلاحظ ان معظم رسائل دوستويفسكي تمتلك بُنية تكاد تكون متشابهة في تركيبتها الأسلوبية، كما لو أنه وضع خطة مسبقة لطريقة عرض أفكاره ومشاعره في كل رسالة، بحيث تبدأ الرسالة بطرح سؤال عن وضع زوجته بعد أن يخبرها انه أستلم رسالتها السابقة، أو أنه تأخر عن استلام رسائلها ويطلب منها توضيح أسباب التأخير ، ثم يجيب عن بعض الأسئلة الموجهة إليه في رسائلها ، ليختتم رسائله بالحديث عن نفسه: عن وضعه الصحي وما واجهه من أحداث أو يحدّثها عن الأشخاص الذين ألتقاهم لكنه قبل ان ينهي رسائله يعود ثانية ليطلب لها وأحيانا بصيغة متوسلة وعاطفة مشبوبة بالحنين أن لا تنقطع عن الكتابة إليه ويرجوها بلوعة وألم أن تهتم بطفليه فيديا و لوبيا وأحيانا بأسلوب يطغي عليه التوسل يعكس قلقه الدائم على زوجته وعائلته
- هذا فيما يتعلق بالأسلوب والمنهج لكن مادا عن المضمون
- ففي الحقيقة قد تبدو رسائل دوستويفسكي غير ذات أهمية خصوصا لمن يبحث عن أفكار مباشرة لتفسير الخلفيات الفكرية لأدبه في هذه الرسائل إذا ما قورنت مع العديد من رسائل أقرانه من المشاهير الذين كثيرا ما يضّمنون في رسائلهم تفاصيل عن أعمالهم والثيمات والأفكار التي تقوم عليها تلك الأعمال. إلا أنها مع ذلك تمثل قيمة تاريخية وتشكل مادة حيّة لفهم الأوضاع الاقتصادية والحياتية والشخصية التي كانت تحيط بدوستويفسكي والمصاعب التي كان يكتب في إطارها وتحت ضغطها. كما أنها تلقي الضوء على جزء من شخصيته الزاهدة ولكن المتذمرة أحيانا . اد انه كان يتذمر من الإنسان الوسط الثرثار ومن الملل الذي يكاد يسلبه متعة الحياة كما عبر لها عن ذلك في أحد رسائله، وكان حينها يتلقى العلاج في مدينة "أيمس" الألمانية لأصابته بمرض رئوي مزمن " لا ..يا آنا..الملل ليس مزحة، فحين يصاب الإنسان بالملل يتحول الى عذاب ..وسيكون السجن أفضل بكثير منه". بقي هذا الملل ملازما له وهو يصف لها في رسالة أخرى يكتبها لها بعد سنوات الوحدة التي عاني منها في ألمانيا "حياتي هنا مملة بصورة لا تحتمل"ص119. كما تكشف الرسائل أيضا عن تلك العواطف الجيّاشة والأحاسيس المرهفة التي يتسم بها خصوصا تجاه زوجته وطفليه فيديا ولوبيا . وتتجلى تلك العواطف وهو يصف لزوجته فراقهما الذي لا يحتمل " الى درجة أنني لا أقدر النظر بهدوء الى الأطفال وحين اسمع بكاء طفل فأنني أصاب بكآبة ويعتريني هاجس داخلي " ص "129.
- هدا يعني ان المراسلة لم تكن بالنسبة له مجرد صلة وصل بل وسيلة للخروج ربما من هده العزلة التي ذكرتها
- ايوا وبالضبط وهو لذلك لا يخفي سعادته الكبيرة كلما تلقى رسالة من زوجته آنا ، لإحساسه الدائم بالعزلة. ويعبر عن تلك الفرحة في رسالة يكتبها لها من ألمانيا " يا ملاكي.. لا يمكنك أن تتصوري الى أي حد أنا فرح.. وأية سعادة ! قرأت رسالتيك المتكونتين من صفحتين قصيرتين اللتين حملهما البريد..لقد قبلتهما وأنا سعيد..سعيد بحبك لي..يمكنني رؤية ذلك في كل سطر.. وفي كل عبارة منك..الأسلوب الراقي الذي تكتبين به الرسائل. لا أعتقد أنني قادر على كتابة رسالة شبيهة بذلك، أعبّر عمّا يجول بخاطري وأحاسيسي. فحتى عندما نلتقي ، حتى ونحن معا فأنا لست كثير الكلام، أنا كئيب ولا أملك إطلاقا مهارة التعبير عن نفسي" (ص 11)
- أي الرسائل تعتبر نوع من التفريغ لأحاسيسه والإسقاط
- لا لا ليس هدا فقط وإذا كانت الرسائل مفعمة بمشاعر الحب والشوق نحو عائلته، فإنها لا تُخفي انشغاله الدائم بتفاصيل الحياة الأخرى حتى تلك التي لا أهمية لها، وهي تدلل على حسيّة دستوفيسكي وقدرته على التقاط وتسجيل ما هو عابر ويومي، والتي وجدت لها مكانا فيما بعد في العديد من مقالاته و رواياته. فهو يخبرها في العديد من رسائله عن فقدانه لمظلته الواقية من المطر، وشرائه لحذاء جديد ..عن سعر وجبات الطعام في الفندق ، و يصف لها بالتفصيل شكل وبناء الفندق الذي ينزل فيه ، و يخبرها عن حكايات طارئة مملة لبعض نزلاء الفندق، ثم نوع وجبات الطعام التي يتناولها في المطعم او عند صاحبة الفندق لأنها تقدم الطعام بسعر أقل سعرا من المطاعم، و كيف أنه يساوم على الأسعار، و عن زيارة الإمبراطور الألماني الى المدينة، التي يسكن فيها وتواضعه إزاء مواطنيه ، ثم يكتب لها عن مقابلته لبعض مواطنيه الروس والتبرم من عاداتهم المتزمتة و(جلفهم )،و زياراته المتعددة للأطباء و حالات الشك التي يبديها إزاء جشع بعضهم.... كما أنه يكتب لها عن أحدى زياراته لمسرح في برلين ومشاهدته للمتحف الملكي فيها وبحثه عن هدايا لها في محلاتها ومعارضها ويعلق على ذلك" أنهم لا يريدون أن يفهموا كلامي وأحيانا يعرضون عليّ بضائع أخرى غير التي طلبتها".
- فهل كان يذكر ضمن رسائله مثلا بعض الانطباعات والأفكار والملاحظات التي ستساعده لاحقا في كتابة اعماله
- نعم وبكل تأكيد فمثلا كان ينتابه الحزن والكآبة بسبب سلوكيات الناس الذين حوله ، خداعهم و شراهتهم و ويبدي لها في رسالة عن امتعاضه من سطحية الألمان والروس الموجودين حوله " الحقيقية، أن كل تعارف ، كل وجه جديد يضجرني . أقسم لك يا حبيبتي آنا ، أعتقد حقيقة أن هناك ما يبرر شعوري بالتعالي على هؤلاء الناس ليس بسبب أية فضائل أخلاقية ( لان الله وحده بالطبع هو القادر على الحكم عليهم) ولكن ما أعنيه هو تطورهم : أن ما يبهجهم يضجرني ، أحاديثهم وأفكارهم تبدو تافهة ولا لون لهم ، ثقافتهم صبيانية تماما... أنا أتحدث عن الألمان والروس. أحيانا أكون منزعجا جدا الى درجة أنني لا أتمكن من التزام الصمت . ببساطة لا يمكنني السيطرة على نفسي" ص135. و يصف لها كيف أنه كثيرا ما كان يصاب بالأرق بسبب ذلك ، حتى انه لا ينام سوى ساعات معدودة ، الى درجة أن النوم لا يغالبه الا عند ساعات الصباح المبكرة....لكنه لم ينسَ أيضا أن يذكر بعض الطيبين منهم وسذاجتهم الذين شكلوا جميعهم مادة ملهمة لأدبه
- ان الشيء الذي يهمني بالدرجة الاولى هو ما هي الاشياء التي ذكرها في رسائله التي ربما قد استلهم منها كتابة رواياته
- اشياء كثيرة سيعيد ذكرها في رواياته كذره لبعض الأحداث التي عاشها في هامبورغ ومدن ألمانية وروسية أخرى، و العوز المادي وحاجته الدائمة للمال بسبب خسارته المتكررة في صالات القمار رغم انه كان يعدها في أكثر من رسالة بأنه سيتوقف تماما عن ارتياد صالات ألقمار مستجديا إياها أن ترسل بعض النقود إليه ويصف لها معاناته وكان قد خسر كل شيء في القمار " آنيا ..يا حبيبتي..يا عزيزتي ..لقد خسرت كل شيء لقد رهنت خاتمي ومعطفي ولكنني خسرت كل شيء" ص27. وبسبب ضياع نقوده وفقر الحال يكتب عندما كان في المانيا (146 ص) كم أنا حزين لأنني لا أملك النقود الكافية لشراء هدايا وغير " قادر على حمل أي شيء في عودتي.