السبت 11 مايو 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: المنظومة التربوية وأخلاقيات المهنة

أحمد الحطاب: المنظومة التربوية وأخلاقيات المهنة أحمد الحطاب
المنظومة التربوية كمفهوم، عبارة عن مجموعة متناسقة من الهيئات والبنيات والوسائل المنتمية للقطاع العام و الخاص والتي تمكِّن أعمالُها و تفاعلاتُها من صياغة و تنفيذ السياسة الوطنية في مجال التربية و التكوين علما أن المؤسسات التعليمية تُعد حجر الزاوية في هذه المجموعة. 

و المؤسسات التعليمية عبارةٌ عن وسطٍ تنشط و تتفاعل بداخله باستمرار جماعات بشرية تتمثَّل في هيئة الإدارة، هيئة التدريس و المتعلمين. كما أن هذه الجماعات تتفاعل بدورها مع محيطها، و بالأخص، مع أسر هؤلاء المتعلمين. 
و حتى تقومَ بأدوارها على أحسن وجه، فرضت الجماعات السالفة الذكر على نفسِها مساطرَ أو قواعدَ (قانون) سلوكٍ تفاديا للتجاوزات و الاختلالات والانحرافات. قواعد تخدم الصالحَ العام وتتطلب من الجماعات البشرية المتفاعِلة فيما بينها احتراما صارما. غير أن الواقع، داخل المؤسسات التعليمية، غالبا ما يختلف عن ما هو مطلوب من صرامة. 

و الحديث عن قواعد السلوك لن يتعلَّقَ هنا بالصفات والقيم مثل الصالح العام، المواطنة، الإخلاص، التضحية، الانضباط، الحيوية، احترام الآخر، روح الواجب، نكران الذات، الخ. التي يجب أن تميز الهيئة الإدارية وهيئة التدريس والتي هي ضرورية، لا محالة، لإنجاز جيد لمهام هؤلاء وأولائك. سيتعلق الأمر بصفة خاصة بالتجاوزات والانحرافات التي تسيء لسُمعة ومصداقية المنظومة التربوية.

في هذا الصدد و للتذكير، إن مهمة المُدرِّس لا تنحصر في التثقيف ونقل المعارف. المدرس، أولا و قبل كل شيء مربي (بمعنى بناء شخصية المُتعلِّم) من خلال تعليمه. فبواسطة سلوكه كمربي، إنه يساهم في تحسين صورته و صورة مؤسسة الانتماء وكذلك صورة المنظومة التربوية. 

ولعل أحسن قاعدة يجب أن يتميَّزَ بها سلوك المدرس كمربِّي، احترامُه لمبدأ تكافؤ الفرص الذي هو ركيزة من ركائز المنظومة التربوية والذي على المدرس، بصفته مربيا، أن يدافع عنه بقوة قولا و فعلا. وتحقيقا لهذا الدفاع، عليه أن يبذل المجهودات الضرورية لوضع المتعلمين على قدم المساواة من خلال تعليمه. ولهذا الغرض، فهو إذن مطالبٌ أن تكون لديه معرفةٌ شخصيةٌ عن المتعلمين ليتمكن من مساعدتهم عندما تصادفهم صعوبات في مسارهم التَّعليمي و التَّعلُّمي.

غير أن واقعَ الوسط المدرسي بيَّن ويبيِّن، و مند عدة سنوات، أن مبدأ  تكافؤ الفرص لم يعد محل احترام لعدَّة أسباب منها على الخصوص تنامي ثقافة الدروس الخاصة (الإضافبة). 
عادة، و هذا حق مشروع، أولياء التلاميذ هم الذين يدعون المدرسين لإعطاء دروس شخصية لأبنائهم. لكن عندما يكون المدرسون هم الذين يحثون، يدفعون إن لم نقل يُجبرون المتعلمين على الخضوع لمثل هذه الدروس، إن الأمر يصبح مُقلقا. مقلقا، لأن الظاهرة أصبحت تكتسي طابعا بنيويا توجِّه ضربةً قاضية لسمو ونبل مهمة المدرس، وفي آن واحد، لمبدأ تكافؤ الفرص.

وبما أن الأسرَ الميسورة هي التي لها القدرة على تسديد واجبات هذه الدروس، إن هذه الممارسة تخلق عدم توازن في التَّحصيل داخل الأقسام من خلال المس بمبدأ تكافؤ الفرص. و فضلا عن ذلك، إن هذا الوضع المخالف للأخلاق والأدبيات، ترسَّخ وتجذَّر في المشهد المدرسي إلى حد أنْ أصبح يؤرق الأسرَ وبالأخص تلك التي لا تملك الوسائل المادية للولوج إلى هذه الدروس.

إن الوسط المدرسي، الذي هو أصلا حامل وناشر لقيم إنسانية وسامية بامتياز، أصبح مكانا للمتاجرة واستغلال دنيء للظروف الاجتماعية للمتعلمين. في هذه الحالة، نوعان من التعليم يتساكنان في نقس المؤسسة التعليمية: التعليم العمومي، المشروع، النظامي و المفتوح للجميع باسم تكافؤ الفرص، وتعليم خاص، غير نظامي وغير مشروع مفتوح حصريا لأولائك الذين لهم الوسائل لشرائه. حينها، يُفتَح البابُ لخطر حلول المحسوبية والتفضيلية بالوسط التَّعليمي واللتان قد تصبحان معاييرَ للنجاح المدرسي.

إن هذا الوضع، المنافي لغايات و مباديء المنظومة التربوية، هو خرق لأخلاقيات و لأدبيات المهنة و لنبل وظيفة التعليم. فعوض أن يأخذ المدرس، أثناء أداء مهمته، بعين الاعتبار الفوارق بين المتعلمينن، فإنه يقويها. وعوض أن يتتبَّع عن كتب المسارَ الدراسي للمتعلمين، فإنه يقويه عند البعض على حساب البعض الآخر. وباختصار، يضحي بمبدإ تكافؤ الفرص تفضيلا للجشع و الطمع.

ما العمل إذن أمام هذا الوضع الذي يُفسد المنظومةَ التربوية؟ أو بعبارة أخرى، في أي مستوى يوجد الضعف أو الخلل الذي يسمح باللجوء إلى الدروس الخاصة؟ هل على مستوى المنظومة التربوية نفسِها أو جودة التعليم أو تكوين المدرسين أو مواصفات المتعلم، أو علاقة الأسرة بالمدرسة، الخ.؟

إن التصدي لهذه الظاهرة يكون أو يكاد من باب المستحيل نظرا لتجذُّره في الحياة المدرسية وفي المجتمع. إنها مهمة صعبة حيث تحظى بتواطؤ بين الوسط المدرسي وأولياء التلاميذ. 
ومن جهة أخرى، فمن باب العِناد أن لا يتم الاعترافُ بفائدة الدروس الخاصة وانعكاساتها الإيجابية على المسار الدراسي للمتعلمين. ويمكن إلى حد ما القول بأن هذه الدروس تساهم في تخفيض الرسوب المدرسي. لكن ما يُزعِج في هذا الوضع، هو الطريقة غير المنصفة المتَّبعة التي، أحيانا، تنتسب إلى الابتزاز. إنها ممارسة تُقوي، تُديم وترسِّخ الفوارق الاجتماعية.

وتحميل مسئولية الظاهرة لطرف دون الآخر، يكون بمثابة عدم الاعتراف بتعقيد هذه الأخيرة. إن هذه المسؤولية متقاسمة بين جميع الأطراف (منظومة تربوية، تعليم، مدرس، متعلم، أسرة، مجتمع، الخ.). 

وهنا، تجدر الإشارةُ إلى ضرورة الاعتراف كذلك بأن أداء المنظومة التربوية غير مرضي. هدرها ضخم. و هي كذلك منبع تأرقٍ للأسر التي لها الاستعداد للتضحية من أجل نجاح أبنائها علماً أن التعليم لم يصل بعدُ إلى الجودة المطلوبة. إنه لا محالة يعاني من نواقص على مستوى التعلُّم. و تكوين المدرسين لا يزال غير مرضٍ من الناحيتين الديداكتيكية والتربوية النفسية. 

هل هؤلاء المدرسون قادرون على تكييف تعليمهم مع الاختلافات الاجتماعية والنفسية للمتعلمين؟ هل هم قادرون على اكتشاف صعوبات التعلُّم عند المتعلمين ومعالجتها ببذل جهود خاصة على المستوى التربوي؟ هل التعليم مكيف مع الحاجيات الحقيقية للمتعلمين؟ أم إنهم هم الذين يستجيبون لمتطلبات هذا الأخير؟ كيف يتصور المتعلمون العلاقة "مدرسون/متعلمون؟ هل التعليم الموجَّه لهم إرغامي؟ أو هل يسمح لهم بالإفراج عن قدراتهم و طاقاتهم الفكرية منها على الخصوص؟ هل يوجَّه اللوم إلى كون الامتحانات نخبوية، الخ.؟

لقد حان الوقت لتؤخذ هذه الظاهرة مأخذ الجد من طرف المسؤولين، من متخذي القرار، من السياسيين، من النقابات، من الوسط التربوي، من الأسر ومن المجتمع المدني. 
يجب لا محالة الاعتراف بأن الحلول ليست سهلة المنال حيث يُخشى أن تتساكنا معا منظومتان تربويتان، الأولى رسمية ونظامية، و الثانية متخفية و غير نظامية  وخصوصا أن حجم المال المُضخِّ في هذه الأخيرة لا يستهان به بدون شك. 

هل تجب الزيادة في أجور المدرسين لإقناعهم بالتخلي عن هذه الدروس؟ وليس من المؤكد أن يكون هذا الحل جيدا لأن الجشع لا حد له من جهة، ومن جهة أخرى، إن المنظومة التربوية تشكل أصلا هُوَّةً مالية. وفضلا عن ذلك، إن التخفيض من النفقات العمومية شيء ضروري في الظروف الاقتصادية للبلاد. هل سيتم اللجوء إلى تكنولوجيات الإعلام لدمقرطة هذا النوع من الدروس؟ هل يتم تصور طريقة أو وسيلة متوافق عليها لتنظيم و ترتيب و تقنين الظاهرة و خصوصا أنها غير ملموسة. باختصار، إنها إشكالية يتطلب حلها مساهمة الجميع.