لم يعد من الممكن في الآونة الأخيرة، تجاهل تزايد حدة التراجع العميق في السلوك المدني والالتزام بالقيم الأخلاقية والاجتماعية التي تشكل أساس التعايش السلمي والتقدم المجتمعي. هذا التراجع يتجلى في اضطراب انتشار سلوكيات سلبية مثل العنف المتزايد، الاستهانة بالرموز المجتمعية والنزوع نحو النزاعات دون سبب واضح، مما يعكس رفضاً للواقع المعيشي وانخفاضاً في الاحترام المتبادل. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت النزعة العدوانية سائدة كخطاب داخلي، مع انتشار الكذب، النفاق، الغش، والتعدي اللفظي والجسدي، مما يشير إلى انهيار تدريجي لمنظومة القيم الأصيلة. وانخفاض منسوب المواطنة، حيث يفتقر الأفراد إلى الوعي بالمسؤولية الجماعية، مما يؤثر على التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
في هذا السياق، يبرز دور القيم كأساس للعلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية، ولمواجهة هذه الأزمة نحتاج الى وقفة جادة للتفكير الجماعي في سبل تعزيز القيم المشتركة وترسيخ السلوك المدني كخيار استراتيجي. فالمواطنة اليوم لم تعد مجرد انتماء قانوني أو شعور وجداني، بل غدت ممارسة يومية تتجسد في احترام الفضاء العام، الالتزام بالقوانين، المشاركة الإيجابية في الحياة العامة، والقدرة على تحويل قيم التضامن والمسؤولية المشتركة إلى سلوك ملموس. وليس فقط مجرد شعارات تزين الخطابات المنبرية والخطابات الدعائية لاستمالة الراي العام.
من هذا المنطلق، يبرز الحاجة إلى مبادرة وطنية كبرى تروم توحيد جهود الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمؤسسات التربوية والثقافية، محورها الرئيسي التطوع باعتباره رافعة مركزية لبناء مجتمع متماسك.
إن التطوع ليس مجرد فعل إنساني عابر، بل هو مدرسة حقيقية لغرس القيم، وتنمية روح التعاون، وإعادة بناء جسور الثقة بين المواطن ومحيطه. إن هذه المبادرة الوطنية يمكن أن تشكل فضاءً معبئا لترسيخ السلوك المدني كثقافة يومية وممارسة جماعية، ولجعل التطوع محركًا لترجمة المبادئ الدستورية والإنسانية إلى واقع عملي.
ولكي تكتسب هذه المبادرة قوة التأثير وفعالية الحضور، ينبغي أن تقوم على مجموعة من المرتكزات الواضحة، أولها المرجعيات الدستورية والقيم الوطنية والدينية التي تنص على التضامن والتكافل كأعمدة أساسية للمجتمع المغربي، ثم المواطنة الفاعلة التي تدعو الأفراد إلى تجاوز منطق انتظار الخدمات نحو المشاركة المباشرة في صنع التغيير، إضافة إلى التكامل المؤسساتي الذي يجعل الدولة والمجتمع المدني شريكين في البناء لا متنافسين في الأدوار، فضلاً عن البعد التربوي والثقافي الذي يُعد مدخلًا أساسيا لغرس قيم السلوك المدني لدى الأجيال الصاعدة من خلال المدرسة والإعلام والفضاء الثقافي ومؤسسات الوقت الحر . كما أن البعد الترابي واللامركزي يبقى ركيزة ضرورية، لأن لكل جهة ومدينة وقرية لها خصوصياتها التي يجب مراعاتها في تنزيل البرامج والمبادرات.
غير أن المبادئ وحدها لا تكفي، ما لم تُترجم إلى آليات عملية واضحة. ولعل أول خطوة عملية تتمثل في إطلاق ميثاق وطني للسلوك المدني والتطوع يكون بمثابة مرجع جامع وملزم للجميع، ثم مأسسة الجهود من خلال إحداث منصة وطنية أو وكالة متخصصة للتنسيق والتحفيز، بما يضمن تراكم التجارب وتكامل المبادرات. ومن شأن إدماج التربية على السلوك المدني في المناهج التعليمية وتنظيم برامج للتطوع المدرسي والجامعي وبمؤسسات الوقت الحر أن يخلق جيلاً جديدًا من المواطنين متشبعا بهذه القيم منذ طفولته. كما أن الحملات الوطنية للتوعية ونشر قصص النجاح ستعزز حضور هذه المبادرة في الوعي الجماعي، في حين سيتيح التشبيك بين الفاعلين المدنيين جهويا ووطنيا، وإشراك القطاع الخاص في دعم المبادرات، خلق دينامية واسعة تتجاوز الحدود التقليدية للعمل الجمعوي. ولا يكتمل هذا البناء إلا من خلال وضع آلية تقييم دورية عبر مؤشرات دقيقة ونشر تقارير سنوية تتيح للمواطنين تتبع المنجزات ومعرفة الأثر الفعلي لهذه المبادرة.
إن الرهانات التي يمكن أن تتحقق من خلال هذه المبادرة كثيرة، لعل أبرزها بناء مواطن أكثر التزامًا واحترامًا للفضاء العام والقوانين، والرفع من نسب المشاركة التطوعية على المستويين الوطني والجهوي، وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع من خلال تجسيد المسؤولية المشتركة، فضلاً عن جعل السلوك المدني ثقافة يومية وقيمة عملية تسكن تفاصيل الحياة العامة. فالمجتمع الذي ينجح في تحويل السلوك المدني والتطوع إلى ممارسة طبيعية ومتجذرة في حياة أفراده، هو مجتمع قادر على مواجهة التحديات التنموية والاقتصادية والثقافية بروح جماعية، وقادر أيضًا على ضمان استمرارية قيم التضامن التي شكلت عبر التاريخ رصيدًا حضاريًا للمغاربة.
وعليه، فإن إطلاق مبادرة وطنية للترسيخ الفعلي للسلوك المدني وتعزيز ثقافة التطوع ليس خيارًا ظرفيًا أو شعارًا مناسباتيًا، بل هو ورش استراتيجي ينبغي أن ينخرط فيه الجميع، لأنه يشكل قاعدة أساسية لبناء مغرب الغد، مغرب يقوم على المواطنة الفاعلة، وعلى وعي جماعي يجعل من التضامن والمسؤولية المشتركة دعامة لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.
