أعترف بدايةً أنني أختار لمقالاتي عناوين مستفِزة نسبياً، لكنني لا افعل ذلك من باب التشويق، كما أدمن على ذلك أصحاب "قنوات التواصل اللااجتماعي"، تشبّها بتقنيات أهل السبق الصحافي والإعلامي الحقيقيين، لكي يَجُرّوا الزوار جرّاً إلى حلقاتهم المُفرَغِ معظمُها من المنافع والفوائد، وإنما أفعل ذلك اضطراراً، لأن الأحداث أمامنا ومِن حولنا تُقدّم نفسها إلينا في غالب الأحيان، كمتلقّين ومستهلكين، بأسلوب يستفز عقولَنا وأفهامَنا بالفعل، ولا يوجد له في عالم العقل والمنطق أدنى أساس... فكيف ذلك؟!
فرنسا التي جاء رئيس "ما تبقّى من جمهوريتها الخامسة" إلى قبة برلماننا ليلقي خطابه "التاريخي"، الذي أقرّ فيه بمغربية صحرائنا الجنوبية الغربية، وتعهّد فيه بدعم هذا الملف المغربي الحيوي في مختلف الأوساط الأوروبية والدولية، هي نفسها فرنسا التي جعلت الجزائر تستولي عنوة على جزء غير يسير من صحرائنا الشرقية، وظلت تتعامل مع تلك الجارة بمنطق يخدم مصالح فرنسا ذاتِها، في الحصول على غاز ونفط تستخرجه الجزائر من الأراضي المغربية، المستولى عليها بفضل العتوّ الفرنسي الخمسيني والستّيني من القرن الماضي، وهي ذاتها فرنسا التي كانت منذ بداية الستينات، وتحديداً، منذ ظهور رضيعتها المشوّهة سنة 1962، تنفخ في نيران العداء الجزائري تجاه كل ما هو مغربي، وتُهندِس لِكلَّ ما فعلته الجزائر بصنيعتها، البوليساريو، وتَمُدّ الجزائر بكل ما كانت تحتاج إليه من الوصفات السحرية لإبقاء نزاعها المفتعل حول صحرائنا قائما ضد منطق التاريخ، وضد القوانين والأعراف الدولية، بالرغم من دخولها بين الحين والآخر في نوبات غضب وخصام مع رضيعتها، الجزائر، لِذَرّ الرماد في العيون، وللظهور بمظهر الدولة النزيهة ذات الشعار الثلاثي الكاذب، "حرية-مساواة-أخوة"، الذي لم يتحقق داخل الجمهورية الفرنسية الخامسة ذاتها، فكيف له أن يتجلّى في واقع العلاقات الفرنسية خارج تلك الجمهورية، التي أعتقد منذ أن وعيتُ أنها بمجملها قائمة على الكذب، والكذب، ولا شيء غير الكذب، وهي الحقيقة الصارخة التي رضعها النظام الجزائري في الحليب الفرنسي، ولذلك نجده نظاما كذّاباً ومفترياً على الجزائريين داخل الجزائر أولاً، ثم على كل من تتعامل معهم الجزائر من خارج ترابها، سياسيا ودبلوماسيا وإعلامياً... حتى صار الكذب عنواناً أحاديا لتلك الجارة ولِأمّها ومرضعتِها في نفس الآن!!
فرنسا تلك، هي التي أوعزت اليوم إلى النظام الجزائري بالبحث، بكل الطرق الممكنة والمتاحة، عن أي وسيلة لتفعيل استغلالها غير المشروع لحديد غار جبيلات، الذي يشكل موضوع صميمياً وأساسياً في اتفاقية ترسيم الحدود المغربية الجزائرية لسنة 1972، التي بقيت بتخطيط من فرنسا ذاتها مجرد حبر على ورق، وها هي الآن تحاول من جديد تحريك بِرْكَتِه الآسنة، الشبيهة بفضلات واد الحراش الجزائري، الذي تكاد روائحه الكريهة تَطرُق كلًّ بيوت المنطقة المغاربية، والجنوب أوروبية من فرط تحلّلها وتعفنها، اللذان أصابا بالعدوى كلاًّ من الفكر الجزائري ونظيره الفرنسي، ولذلك نسمع هذه الأيام عن وجود يد فرنسية، لم تَخْفَ على ذوي الألباب من المتتبعين والملاحظين، فيما ذهبت إليه الموراديا من البحث مع "تركيا أوردوغان" عن سبل وضع التفاهم الموقع بين البلدين الكرغوليَيْن، موضع التنفيذ، بعد أن فشلت الموراديا في تحقيق ذلك مع شركاء آخرين كانت في طليعتهم الصين الشعبية، التي لها مع المغرب معاملات كثيرة ووازنة قائمة على التفاهم والمصلحة المتبادَلة والمشترَكة تحت الشعار المغربي المتكرّس برسم هذا القرن: "رابح/رابح"!!
هل ستستجيب تركيا المتنافسة منافسة شديدة مع فرنسا في كسب ود الجزائر، والراغبة بقوة في الحلول محل فرنسا في الواقع الجزائري، بفعل كون فرنسا قد حلّت سنة 1830 محل تركيا في عهد شارل العاشر، او الكونت دارتوا، وأنه قد آن الأوان لتنقلب الآية فتحل تركيا من جديد محل فرنسا في هذه السنة من زمان الناس هذا، لعل تركيا أوردوغان تغض الطرف عن مصالحها المشتركة مع المغرب، بحجة أن هذا الأخير يتخذ مواقف مقلقة ولا تبعث على الارتياح، في أنقرة، تجاه تَوَسُّع تركيا التجاري والاستثماري باتجاه السوق المغربية، وصوب القارة الإفريقية من خلال الجسر المغربي، في وقت يسعى المغرب فيه إلى ترسيخ قواعده وتعميق جذوره في القارة السمراء، التي يولي أكثر من تسعين في المائة من دولها ومؤسساتها ثقةً شديدةً في الإنسان المغربي، سياسيا واقتصاديا وماليا وثقافيا وخدماتياً، فضلا عن كون المغرب بمثابة الجسر الموثوق به لدى الاتحاد الأوروبي ودوله، ولدى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ودول أمريكا اللاتينية، وكل هذا تقف فرنسا إزاءه موقفاً ملتبساً وغامضاً لأنها ترى فيه اعتداءً مغربياً سافراً على مكانتها الأوروإفريقية والأورولاتينية الآيلة إلى زوال!!
المشكل الآن ليس جزائرياً مغربياً، كما يَعلَمُه العالَم من حولنا، ولا هو مشكل تركي مغربي كما يبدو من ظاهر ذلك التفاهم الموقع مؤخرا بين الجزائر العاصمة وأنقرة، بل هو في أساسه سابقاً وراهناً ومستقبلياً مشكل فرنسي مغربي، يكمن أساسُه وتكمن جذورُه في كون المغرب المنافسَ الشرسَ والغالبَ، تجاه النفوذ الفرنسي، في إفريقيا خاصة، بل وحتى داخل جغرافيا الاتحاد الأوروبي ذاته، وفي كون فرنسا لا تجد منذ أواسط القرن الماضي ما تحارب به النفوذ المغربي المتعاظِم و"المتفاقِم" سوى الغدر، والدهاء الأسوَد، والمكر السيّئ، المغلفة جميعها برداء من النفاق السياسي والدبلوماسي، الذي تُحسنه فرنسا وتُبدِع فيه أكثر من أي دولة أخرى في العالم، والذي من بين مظاهره الخادعة، تلك الحركات البهلوانيات التي أتى بها الرئيس إمانويل ماكرون عند آخر زيارة دولة قام بها لبلادنا، والتي أطلق خلالها خطبته العصماء أمام برلمانيينا، وأمام الاتحاد الأوروبي وإفريقيا والعالم، مُحَمِّلاً إياها نفاقَه المعتاد، الذي دَرِبَهُ الفرنسيون وتيقّنو منه أكثر من غيرهم، وقبل غيرهم من الأجناس!!
لنفترض الآن أن تركيا أوردوغان ستتورط بِعَمَى مصلحيٍّ براغماتيٍّ في استغلالٍ غير مشروع وغير مقبول أخلاقياً، وغير قانوني من وجهة نظر المنظومة القانونية الدولية، لحديد غار جبيلات، لأنه يخالف ويخرق اتفاقاً مغربياً جزائرياً ثنائياً يرجع إلى سنة 1972، ويجعل تركيا، بذلك، طرفاً صريحاً في نزاع حدودي مؤبَّد بين الجارين المغاربيين... لنفترض ذلك...
فما الذي سيكون في وسعنا نحن المغاربة أن نفعله تجاه أوردوغان وعُثمانيتِه المُستيقظةِ فجأة، سوى التضييق على المصالح التركية في المغرب، وفي المحيطيّن المتوسطي والإفريقي، وربما أيضا في منطقة الخليج العربي، بفعل التحالفات الوازنة والناجحة بين المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي... وماذا في وسعنا فعله غيرَ قطعِ الطريق على أي تغلغل تركي اقتصادي وتجاري داخل القارة السمراء... وما على تركيا أوردوغان، ساعتئذ، إلا أن تزن الأمور بميزان الربح والخسارة، بوضعها كل مجالات التعاون والشراكة هذه في كفة، ووضع استغلالِها المحتمَل لحديد غار جبيلات المكلّف وغير المُربح ولا المفيد في غياب "المغرب المتوسطي/الأطلسي" في الكفة المُقابِلة...
والأيام بيننا يا تركيا... ويا فرنسا المنافِقة...
عَجَبي!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد.
