الثلاثاء 23 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (21)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (21) صورة جماعية مع الكاتب محمد شكري

حل شهر شتنبر، لم أحصل على العمل بعد، بدأت الدنيا تضيق في وجهي، عقارب الزمن تزحف نحو الأمام لكني ما زلت أراود مكاني، لم تتغير الأمور نحو الأفضل كما تنبأ لي موح بساحة الطرف الاغر، ما زلت أقطن ببيت المهاجر مبارك بكامدن تاون، أقضي طوال اليوم أتسكع في الشوارع، أجوب ربوع لندن أبحث عن العمل حتى أكاد أقطع الرجاء، أستكشف المجتمع البريطاني.

في المساء أروح لمقهى كازابلانكا لأخوض في حديث المهاجرين، صرت وجها مألوفا عندهم، نسجت صداقات عابرة مع بعض الرواد، كلهم يعدني بفرصة عمل لكن في الأخير لا شيء يحدث، أشعر وكأن العالم قد تخلى عني، أشعر وكأنني خذلت من طرف الجميع.

 

السنة الدراسية على الأبواب لكن لا أستطيع أن أعود إلى المغرب خاوي الوفاض. عندما منحني والدي خمسة آلاف درهم لأخوض غمار رحلتي إلى مدينة الضباب، وعدته بتسديد المبلغ عند العودة مع محفظة جلدية من صنع إنجليزي هدية له. لا أريد ان أخيب ظنه. كان أبي يدير مدرسة ابتدائية بضواحي العرائش. رجل نحيف مسالم وقليل الكلام. خجول وعفيف. لا يحب المجازفات والمغامرات مثلي. منذ البداية وهو متحفظ على رحلتي لأنه يقرأ في الصحف أخبارا سيئة عن المهاجرين، اعتداءات عنصرية متكررة على المهاجرين في فرنسا وبلجيكا، هذا ما كان يقوله لأمي كل مرة، أبي يعتقد أن النصارى لا يحبوننا، وذاك يثير مخاوفه، إضافة إلى ذلك فهو يراني ذاهب إلى المجهول. لم يسبق لأبي أن غادر المغرب من قبل، يخشى علي أن أصاب بمكروه في بلاد النصارى. في نظره أنا شاب متحمس ومتهور، ومع ذلك منحني مبلغ الرحلة بعد إصرار كبير مني. أخذت العهد على نفسي بأن "أحمر له وجهه" وأثبت له أني جدير بالوفاء والمسؤولية.

 

ذات صباح، وأنا وحيد في المقهى أرتشف قهوتي، داهمتني فكرة مغادرة إنجلترا الى بلد آخر، قررت أن أغير مسار رحلتي، قلت في نفسي عتبة الإنجليز لم تمنحني شيئا، لماذا لا أغير "العتبة"؟، تذكرت صديقي عمر الذي كان يشتغل في حقول الكروم بجنوب فرنسا، لا أملك عنوانه لكنه أخبرني أنه يشتغل في ضيعات الكروم بضواحي تولوز. قررت أن أخوض غمارا جديدا، سأذهب وأطرق باب العمل عند الضيعات الفرنسية. تعبت من بلاد الإنجليز فقررت أن ألتمس حظي عند الفرنسيس.

استقلت الحافلة الحمراء وانصرفت تجاه قنصلية فرنسا بـ "ساوث كنزنغتون" لسحب بطاقتي الدخول والخروج إلى التراب الفرنسي. كان الإجراء أنذاك يقتضي أن تحصل على بطاقتين "A" و"B"، فرض هذا الإجراء كتشديد على العرب جراء عملية انفجارات إرهابية وسط باريس قادها اللبناني "جورج عبد الله".

لحظة وصولي إلى القنصلية صادفت شابا مغربيا داكن البشرة في بداية الثلاثينات من عمره يدعى التيجاني جاء لسحب بطائقه أيضا، كان يشتغل كأستاذ للغة الفرنسية بإحدى ثانويات مكناس، سحبنا بطاقاتنا ومشينا في حالنا تجاه محطة فيكتوريا نتبادل أطراف الحديث.

 

كان التيجاني يكبرني بحوالي عشر سنوات، يتردد كل عام على جنوب إنجلترا خلال عطلة الصيف، يقطف التفاح بإحدى الضيعات الفلاحية باقليم "كينت". يراكم بعض المال لأن أجره كان زهيدا، يتقاضى الأستاذ في المغرب ألفين درهم بينما منظف شوارع وغسال صحون هنا يتقاضيا عشرة آلاف درهم أو أكثر، فرق شاسع لا تخطئه العين . سألته هل ممكن أشتغل معكم في ضيعة التفاح؟، رد علي بالإيجاب: تعالى معي نزور دافيد صاحب الضيعة ونعرض عليه الأمر؟، حبذت الفكرة ولم أتردد في الذهاب معه.

 

أخذنا القطار من محطة فيكتوريا وتوجهنا نحو بلدة "هورسماندن" التي تبعد خمسين ميلا عن لندن. كان الطقس مشمسا في منتصف النهار والقطار شبه فارغ من الركاب. انطلق يشق طريقه بسرعة بطيئة مما منحني فسحة النظر والتأمل عبر النافذة. شاهدت طبيعة ساحرة ومناظر خضراء بديعة، مزارع مترامية الأطراف على كل جانب، الريف الإنجليزي أخاذ وجميل.

أحسست بدفء وكيمياء تسري بيننا، غمرتني فرحة كبيرة وأنا في طريقي إلى الريف الإنجليزي. التيجاني يتحدث الفرنسية بطلاقة ويعشق الأدب الفرنسي، يقرأ كثيرا لسارتر وجون جينيه، تظاهرت أمامه وكأني مهتم بالأدب الفرنسي أيضا ، لكن الحقيقة كل ما أعرفه هو بعض أسماء لأدباء كبار كسارتر، فولتير وفيكتور هوغو. أما الأديب جون جينيه للتو كنت قد سمعت به عبر راديو مدي1 لما توفي بفرنسا. ازداد اهتمامي به أكثر لما سمعت أنه ترك وصية ليدفن في تراب العرائش، خبر تلقيته باستغراب فائق، فحدثت نفسي: ما الذي يربط بين كاتب عالمي وبين مدينة البحارة؟، هذا ما أذاعته  مدي1 يوم 15 ابريل 1986.

صديقي الأستاذ يقرأ كثيرا لجينيه ويرى فيه كاتبا عبقريا، يلم بكل تفاصيل حياته، يضيف قائلا أن جون جينيه مناصر قوي للقضية الفلسطينية وقضى وقتا طويلا في مخيمات المقاومة الفلسطينية بجنوب لبنان. استحسنت كلامه وقلت لعله كاتب ألمعي يساري الهوى وملتزم بالدفاع عن قضايا الشعوب المقهورة. التيجاني يحفظ جل أسماء مؤلفاته عن ظهر قلب، ولا يكف عن الخوض في تفاصيل حياته طوال الرحلة، يسترسل في حديثه ويقول أن جون جينيه كان صديقا حميما للكاتب الطنجاوي شكري، فرددت عليه أني حظيت منذ بضعة أشهر بصور تذكارية مع الكاتبين شكري والطاهر بن جلون بمكتبة "ليكولون" بطنحة مما أضفى علي صفة مثقف أو شبه مثقف. فاجأته بكلامي هذا وأضفت: قبل شهرين من وفاة جون جينيه صدر لبن جلون رواية شهيرة تسمى (طفل الرمال). استشعرت اهتمامه وكبر في ظنه أني شخص مثقف، ردي هذا أكد له أني مواكب للثقافة الفرنسية، لكن الحقيقة عكس ذلك. حكاية جون جينيه وبن جلون وظفتها في حديثي لأستميل قلبه كي يدافع عني عند دافيد لا قل ولا أكثر. ركبت الصعاب فعلمتني الحياة أن أكون متزلفا شيئا ما، أما قصة التقاط الصور فجاءت بمحض الصدفة. سأحكيها بقليل من التفاصيل:

"ذات مساء غادرت قسم الداخلي نحو وسط المدينة رفقة صديقي هاشمي وميلودي، كنا نسير بشارع البولفار بطنحة فلمحت عيناي شلة من الطلبة والمثقفين ملتفين حول الكاتبين الكبيرين داخل مكتبة ليكولون، كان حفل توقيع كتاب للكاتب بنجلون. اخترقت الجمع ورحت أتخطى الصفوف إلى أن وجدتني قرب الكاتب شكري، ظننته سيعاتبني على فضولي إلا أنه تبسم في وجهي، طلبت منه التقاط صورة تذكارية فاستجاب لي على الفور، دردشت معه سريعا موهما الحضور بمعرفتي به، ظل الجمع مشدودا ينظر إلي سيما لما ناديت على صديقي للانضمام إلينا. استشعر الكاتب بن جلون بعض الحرج فنهض من كرسيه هو أيضا والتقط معنا صورة تذكارية . هذا كل ما في الأمر".

استشعرت وكأن حكايتي بدأت تنفذ إلى عقل التيجاني، أبدى اهتماما بالغا بي واستلطف حديثي معه، حديثي هذا جعله يتقرب مني أكثر علاوة كوني أنحدر من العرائش، المدينة التي عشقها كاتبه المفضل جون جنيه بجنون. ستطلق عليه الصحافة فيما بعد اسم دفين العرائش. كما أخبرني التيجاني أنه سيزور قبر الأديب الفرنسي الشهير عند عودته إلى المغرب.

 

حط القطار في محطة "هورسماندن" وترجلنا مشيا نحو الضيعة، المسافة قريبة لا تتجاوز  نصف ميل. عند وصولنا إلى الضيعة رمقت عيناي علامة نحاسية كبيرة مكتوب عليها "كوركانس فارم"، ضغط التيجاني على الزر فانشرعت لنا بوابة ضخمة، مدخل الضيعة يشبه القصر، مررنا في بهو شاسع على حواشيه ورود وأشجار إجاص مثقلة بثمارها، منزل الضيعة فاخر وحجمه متوسط يضم طابقين مسقف بقرمود أحمر، اعتقدت حينها أنه سيكون مقامي الجديد، لكن خاب ظني.

استقبلنا دافيد بابتسامة وديعة، زوجته ريتا كانت تداعب كلبها المدلل "لولو" من فصيلة الكنيش، الزوجان مبسوطان ومنسجمان إلى حد كبير مع التيجاني، عمرهما يكاد يتجاوز الستين بقليل، قدمني التيجاني إليهما كصديق يبحث عن فرصة عمل، رحب دافيد بي على الفور بعد استشارة سريعة مع ريتا. ريتا امرأة جذابة بقوام رشيق بالرغم من تجاوزها الستين من العمر، وقد اكتسح الشيب رأسها. تبسمت في وجهي وقالت لي ما اسمك؟ .

أجبتها: إسمي عبد الصمد، استثقلت إسمي لأنه طويل ويصعب نطقه. قالت سأناديك بـ "سام"، قلت حسنا هذا اسم جميل أيضا، ابتداء من اليوم سأصبح سام إلى أن أعود إلى أرض "العباد الصالحين"، التفت دافيد نحوي وقال: تعالى معي نقوم بجولة سريعة على الضيعة، وعليك بإحضار غطاء نومك وحاجياتك الضرورية. دلني على مكان نومي الذي كان عبارة عن ورشة عمل تشبه المرآب. تأففت قليلا، سأفترش الأرض وأتقاسم المرأب مع ثمانية أشخاص، قبلت بهذا العرض السخيف عن مضض. تحسرت بداية لما علمت أنني مجرد عامل موسمي تم استقدامه من طرف عائلة ثرية لقطف التفاح في ضيعتهم، ومع  ذلك غشيني الفرح لأن دافيد وريتا قبلا بي وكانا ودودين للغاية.

 

بعدها ودعتهم جميعا ورجعت في حالي إلى لندن. أخذت أزيح فكرة الذهاب إلى فرنسا من رأسي، غدا سأصبح فلاحا أمتطي السلالم لقطف التفاح الانجليزي، إنه تفاح لذيذ، كم أنا محظوظ اليوم، أخيرا بدأت الدنيا تبتسم لي، غمرتني سعادة كبيرة وتجدد أمل الحياة في نفسي، لقد صدقت نبوءة موح، فعلا أخذت حياتي تتحسن نحو الأفضل. سأتقاضى أربعين قرشا لكل صندوق أملأه بالتفاح، كل واحد منا سيتقاضى أجره وفق جهده ومهارته في القطف. سألت التيجاني كم صندوق تملأ في اليوم؟، قال كل حسب جهده وعضلاته، أنا أحيانا أصل الى مائة صندوق، أدرت الرقم سريعا في ذهني وقلت أربعون جنيها في اليوم أجر جيد، لا ضير أن أفترش الأرض وأنام داخل المرأب.

 

في اليوم التالي استيقظت باكرا وبدأت أستعد للسفر إلى إقامتي الجديدة بالبلدة الريفية الهادئة، اقتنيت سجادة بالية من القطن السميك بخمس جنيهات من سوق بورطبيلو وقصدت بيت محمد صاحب كشك الخضار. أخبرته بأني مقبل على عمل جديد بالريف الانجليزي وجئت أطلب منه كي يزودني بكيس نوم ووسادة. علت الابتسامة محياه وقال: أتذكر كيسك الذي كنت تنام فيه لما كنت تشتغل عندنا؟ قلت: نعم إنه الكيس الأزرق. أمسك به ومنحه إياي مع وسادة عليها بقعة صلصة طماطم وأضاف:

- خذهما وأسرع بالانصراف من هنا حتى لا يراك أخي حسن، انفجرت ضاحكا وقلت له ساخرا: من أصابته لوثة البخل يظل هكذا حتى لو راكم مال قارون.

ضحك الرجل وربت على كتفي متمنيا لي حظا سعيدا في ضيعات التفاح.

تأبطت كيس نومي ووسادتي المهترئة وهرولت تجاه محطة مترو (لاتيمار رود).

وقفت وسط القطار أطير فرحا، أجيل النظر في وجوه الركاب، حملقت في وجه عجوز يقف بجانبي وأنا أضحك كمتسكع أبله.

سألني العجوز:

- ما بك ؟ ما سر هذا الفرح؟ !

- أجبته: لقد حصلت على فرصة عمل !

- خبر جميل ! إلى أين ذاهب بكل ما تحمل ؟ !

 أجبته فورا:

- إلى إقامتي الجديدة ببلدة "هورسماندن"!

أشاح بوجهه عني ولم يرد علي ، فأضفت موضحا أكثر:

- أنا ذاهب إلى ضيعة "كوركانس" بالريف الإنجليزي !

 عندها رد علي قائلا:

- ما عرفت لا هذه ولا تلك !

 قلت له:

- أنا ذاهب عند دافيد وريتا، هل تعرفهما؟ !

فاندهش العجوز مما أقول ونظر إلي بوجه منقبض، ثم استدار بوجهه نحو نافذة القطار يغمغم بشفتيه معرضا عن حديث المتسكعين أمثالي.