الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

رضوان رشدي: الجذور الفلسفية للعنصرية عند العقل الغربي

رضوان رشدي: الجذور الفلسفية للعنصرية عند العقل الغربي رضوان رشدي

حدث قتل مواطن أمريكي أسود بدم بارد من قبل الشرطة يقتضي في نظرنا البحث عن العنصرية وامتداداتها وجذورها الفلسفية لاسيما وأن الفعل المنبثق تجسيدا إنما هو مؤسس على تصورات فلسفية أو رؤى متجذرة في المخيال أو أعراف تراكمت زمنا فعسر محوها واقعيا.

 

وبمقاربة تاريخية حين نسلط الضوء على القرن العشرين خاصة، فإننا سنلفي العقل الغربي وكأنه انزاح عن القيم الإنسانية التي شيدت مفهوم الدولة والتعاقد وحقوق الإنسان، وانساق وراء إمبريالية غزاة بيض اجتاحوا أوطانا لقارة سوداء هادئة، فبدأوا بنهب الأرض واستعمارها واستنزاف خيراتها وقتل معارضيها واستقدام الإنسان الأسود عبدا مهانا مستعبدا مكبلا بأغلال القهر وأصفاد الاسترقاق إلى بلد غير بلده الأصلي ليكون خادما طيعا لهوى الأسياد البيض الذين أتوا به من هناك، حيث إنه عند جارودي تم تصدير عشرين مليونا منهم نحو القارة الأمريكية. وبما أن متصيدي السود كانوا يحصلون على (عبد) من بين العشرة الذين يتم قتلهم خلال مقاومة اصطيادهم... فإن النخاسة كلفت أفريقيا ما بين مائة ومائتي مليون من القتلى.

 

وأمر السود واستعبادهم أرقاء عند أسيادهم البيض أمر هين، إذا ما قورن باجتثاث لون آخر وهو اللون الأحمر الذي لحقت به أكبر إبادة بشرية في التاريخ. فهؤلاء الهنود الحمر أصلاء في الأرض الأمريكية ولم يكونوا دخلاء أبدا، ولكنهم أبيدوا عن آخرهم ليستوطن القادمون البيض الأرض ويستغلوها أبشع استغلال..."حيث تمت إبادة ستين مليونا من بين ثمانين مليونا من الهنود من جراء الأشغال الشاقة والأوبئة  الفتاكة أكثر مما جاءت  عن طريق السلاح." كما أوضح صاحب الأساطير المؤسسة.

 

إن استئساد النزعة الاستعلائية للعقل الغربي مع تضارب مصالحه المادية ولدا تطاحنا مريرا لم تشهد له الإنسانية مثلا، كنشوب حربين كونيتين كلفتا الإنسانية خسائر بشرية ومادية قل نظيرها، لتبلغ خسائر الدول في الحرب العالمية الأولى أكثر من سبع وثلاثين مليون جندي بينهم أكثر من ثمانية ملايين قتيل. ولم يكف العقل الغربي الاستعماري استحصادَ الملايين من الأرواح جراء جشعه وبعده عن إنسانيته، بل إنه جر العالم لحرب كونية أخرى لم تقم إلا في أوربا ثانية بأسباب واهية.

 

وبعد تلك المآسي، وكأن البشرية قد دخلت زمن (الأمركة) وهيمنة السوق والتوجس من القيم، كما أشار إلى ذلك سيمون وايل بقوله: "نعرف جيداً أن أمركة أوروبا بعد الحرب، تشكل خطراً بالغا، ونعرف جيداً ما سنفقده لو تحققت هذه الأمركة. فأمركة أوروبا ستقود بلا شك، إلى أمركة الكرة الأرضية كلها.. وستفقد الإنسانية ماضيها".

 

والسؤال الذي يطرح ذاته ها هنا، هو: هل المحرك لمنطق النزعة العنصرية والهيمنة هذه إنما هو محصور في النزعة النفعية المحضة دون أن تكون مسندة برؤية فلسفية تحركها، أم أن هناك أفكارا مؤسسة لذاك التعصب العرقي والاستئساد؟

 

إذا نحتنا في عمق الرؤية الفلسفية للإنسان الغربي المعاصر وجدناه مستمسكا بالفلسفة الداروينية المبنية على الصراع وانتخاب الأجناس بعد تناحر شرس بينها، ليبقى العنصر المنتخب سيدا بعد عمليات للتثقيف والاصطفاء الطبيعي، وكما قال (تشارلز): "ففي التناحر على البقاء بين الكائنات الحية، التي تقطن الأرض وبيان أن هذا التناحر، نتيجة مرهونة على تكاثرها بنسبة رياضية، وفقا لمذهب مالتوس التي يطبقها على عالمي الحيوان والنبات على السواء، ذلك أن ما يذهب به الفناء من الأفراد التي يخلقها كل نوع، أكثر مما يستطيع البقاء عادة، فيقع التناحر بين العضويات، ويستمر أثره في الأحياء، لأثبت بعد ذلك أن كل فرد إذا طرأ عليه أي تحول مفيد، مهما يكن ضئيلا، بحيث يعده لأحوال حياته المتغايرة المعقدة فإنه يصبح من البقاء أوفر حظا، وأعظم نصيبا من بقية الأفراد، فتنتخبه الطبيعة وتخصه بالبقاء". ومن ثم فالرجوع إلى الخلف إنما هو تبيان للأصل الأول الخالي من أسباب القوة والاقتدار، والزمن الآتي هو زمن الصراع الذي به تنبثق جودة الأجناس المنتخبة.

 

نعم اعتبرت نظرية التطور أقوى محاولة لرد علم الأحياء إلى الفيزياء والكيمياء، أي رد الطبيعة الحية الحيوانية والإنسانية، وما تتسم به من خصائص وملكات إلى القوانين التي تحكم المادة في تحليلها الفيزيائي والكيميائي الأصم، لكنه فضلا عن جعل الإنسان نسخة متحولة نتيجة امتلاك وسائل الصراع والانتخاب، فإن النظرية قد خرجت من نطاق العلم إلى اتجاه فلسفي إيديولوجي حضر خاصة في تثبيت منطق الصراع واصطفاء العنصر المنتخب وهيمنته على الباقي بخوض الحروب الطاحنة التي بها يصل المجتمع إلى التطور وبقاء الأصلح ومن ثم استخدمت النظرية لتوطيد دعائم الاستعمار وتبرير التمايز الطبقي على أساس من التفاوت الفطري بين الأفراد والأقوام." وما ذاك إلا بتأجيج الوسيلة الأساسية للانتخاب وهو ديمومة الصراع، وهو ما يبرر الزعم القائل بتفوق بعض الشعوب والأمم مثل الأنكلوساكسونية والآرية. وتجلى ذلك واضحا في الأيديولوجيا النازية مع هتلر الذي طبق الفكر التطوري بصرامة على أفكاره وحاول الاستفادة من قوانين التطور من خلال قواعد الصحة النازية بإبادة المعوقين والمتخلفين عقليا وأفراد الأجناس الدنيا في السلم التراتبي لبني الإنسانية. كذلك نجد الفكر الصهيوني طبق البقاء للأقوى والأصلح من خلال الموقع الدارويني والنيتشوي عند عبد الوهاب المسيري.

 

وعلى ذكر النيتشوية، فهي مبنية كذلك على اصطفاء النبلاء الذين انتخبتهم الطبيعة فكملوا قوة واقتدارا أهلتهم ليتعالوا عن المستضعفين العاجزين، ومن ثم فالسعادة في جينيالوجيا الأخلاق لن تتأتى حقيقة إلا لهؤلاء الأقوياء الذين اتسموا بالقوة وصفاء العرق، إذ أن "الفارق الرئيس الذي بفضله كان يشعر النبلاء أنهم أناس من مرتبة عليا. صحيح أنهم في غالب الحالات، وربما بعد التفوق في القوة فحسب، إنما أطلقوا على أنفسهم هكذا أسماء بوصفهم الأقوياء والأسياد وأولي الأمر أو بموجب أبرز أمارة على ذلك التفوق... ولكن أيضا بمقتضى خصلة فريدة في طباعهم. هم يلقبون أنفسهم مثلا الحقانيون وأولهم النبلاء الإغريق."... وإنما يشعرون تحديدا بأنهم "السعداء" وليس عليهم أن يصنعوا سعادتهم تكلفا وهم يختلسون النظر إلى أعدائهم، وليس عليهم، كما في بعض الأحيان، أن يقنعوا أنفسهم بذلك أو يكذبوا كذابا، ذلك هم لم يكونوا يعرفون بوصفهم أناسا كملوا وبالقوة طفحوا وكانوا بالضرورة فاعلين، كيف يفصلوا السعادة عن الفعل... وهل كل ذلك إلا بعين الضد من السعادة التي على طبقة العاجزين والمقموعين والمتقرحين الرازحين تحت المشاعر المسمومة والمضمرة العداء الذين لا تأتي السعادة إليهم إلا خدرا وذهولا وسكونا وسلما وسبتا واستجماما للروح ومدا للأعضاء، وباختصار هي لا تأتيهم إلا انفعالا."

 

وهكذا فالذي يظهر واقعا ليس الإله الرحيم الذي مات عند (زرادشت)، بل هو الإنسان المتفوق الذي انتخبته الطبيعة من جنس متفوق فغدا آسرا الكون كله بقوته... نعم "لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا يسرحون أبصارهم على شاسعات البحار، أما الآن فقد تعلمتم الهتاف باسم الإنسان المتفوق."

لاشك إذن أن سيرورة الفكر الإنساني والزمن وما أعلن عنها في حينها أنها حقيقة علمية أبرزت إلى الوجود مثل تلكم التصورات التي حصرت الوجود الإنساني في الحس المادي ورقيه من طور (القردية) إلى الإنسانية إنما يكون بتجويد الأجناس وصفائها من الاختلاط ليكون الإنسان ذا إرادة القوة والاقتدار...

 

إن الانحسار في الحس والتعامل مع الأشياء وكأنها الحقيقة ذاتها دون التطلع إلى الكوجيطو الديكارتي قد جعل العقل الغربي داخلا سرداب المادة ومنسلخا عن معرفتها والغاية من وجودها، وكأن الوجود هو الظاهرة ذاتها سابقة عن معرفتها عند (سارتر)، ذلك أنه إذا كان وجود الظواهر لا ينحل إلى ظاهرة وجود، وإذا كنا لا نستطيع أن نقول شيئا عن الوجود إلا باستشارة ظاهرة الوجود، فإن العلاقة الدقيقة التي تربط بين ظاهرة الوجود وبين وجود الظاهرة ينبغي أن تتقرر قبل كل شيء.... فإذا اعتبرنا الوجود ظهورا يمكن تحديده في تصورات لا أنه شرط الانكشاف، فإننا قد فهمنا أولا أن المعرفة لا يمكنها وحدها تفسير الوجود، أعني أن وجود الظاهرة لا يمكن أن يرد إلى ظاهرة الوجود."

لذلك فالواقع عند (سارتر) محصور في الظاهرة التي هي كما تظهر في الواقع دون إدراك قبلي لها، ومن ثم فهو غير متفق مع (باركلي) بقوله : "إن الوجود هو كون الشيء مدركا، أو ما سيفعله هوسرل بعد أن قام بالرد الظاهراياتي فنعت "النوئيما" بأنها غير واقعية وقال إن "وجودها هو إدراك." مستدلا بأن العدم دليل على أن الوجود الظاهراتي إذا انعدم انعدم إدراكه لأنه لن يستند إلى موجود صلب، ومن ثم وجود المعرفة لا يمكن أن يقاس بالمعرفة... إنه ينبغي أن يكون وراء الظاهرة، ومن ثم فالوعي هو حقيقة: الوجود العارف بما هو كائن لا بما هو معروف. ومعنى هذا أنه يخلق بنا أن ندع أولية المعرفة، إذا شئنا تأسيس هذه المعرفة نفسها."

 

من خلال ما تقدم يظهر جليا أن تشكيل العقلية الغربية المعاصرة إنما طرأ ببناء فلسفي ميال نحو القوة والاقتدار والصراع وحصر المعرفة في الحس دون غيره فضلا عن الإعلاء من التأجيج الغرائزي الشهوي في مزايلة تامة لقيم الأنوار وفلسفة الإنسان التي تماهت مع الفطرة وصفائها وقوة العقل والقيم والواجب والتناغم مع الصفاء الديني الأول دون تدخل من قبل سماسرته.

 

رضوان رشدي، رئيس مركز ابن رشد للدراسات والأبحاث الإنسانية