Saturday 10 May 2025
فن وثقافة

شعلة الرباط التقدم تحتفل بالذكرى خمسين لتأسيس الجمعية 

شعلة الرباط التقدم تحتفل بالذكرى خمسين لتأسيس الجمعية  مشاهد من الاحتفال
في مساء استثنائي مشبع بالعواطف والرمزيات، ووسط أجواء امتزجت فيها نغمات الحنين بألوان الفرح والاعتزاز، احتفل فرع الرباط التقدم لجمعية الشعلة للتربية والثقافة بالذكرى الخمسين لتأسيس الجمعية، في حفل فني وازن احتضنته قاعة علال الفاسي يوم السبت 3 ماي 2025. كان الحفل لحظة مركبة، مشهدا نادرا من الجمال الجمعوي المتكئ على الذاكرة والممتد نحو الأفق الرحب، لقاء يجمع بين الماضي والحاضر، بين الجذور والثمار، بين التأسيس والاستمرارية.
 
لم يكن احتفالا عاديا، بل كان فصلا جديدا في سردية جمعية لم تتوقف عن الحلم والعمل. كانت الذكرى الخمسون أكثر من تاريخ، كانت مرآة لروح جمعية صنعت الفارق في المشهد الثقافي والتربوي المغربي، واحتضنت عبر عقود آلاف الأطفال واليافعين والشباب، ورافقتهم على درب التربية، الإبداع، والالتزام بقيم المواطنة الحقة.
 
بدت قاعة علال الفاسي مساء ذلك اليوم كأنها قد لبست حلة جديدة، وتحولت إلى فضاء لاحتضان الذاكرة الحية. أعلام مغربية ترفرف جنبا إلى جنب مع لافتات جمعية الشعلة، صور أرشيفية تعود لعقود خلت، أصوات تعلو وأخرى تصغي، كلها رسمت لوحة جماعية تختزل خمسين سنة من العطاء اللا متناهي.
 
كان الحضور نوعيا بامتياز أعضاء من الجيل المؤسس، شباب وأطفال، أمهات وآباء، فاعلون جمعويون، مثقفون، فنانون، وجوه إعلامية، ووجوه صامتة تضيء فقط بحضورها. كلهم جاءوا ليشهدوا لحظة استثنائية في تاريخ الفرع، وليعبروا عن وفائهم لجمعية لم تكن يوما مجرد إطار تنظيمي، بل بيتا دافئا لكل المثقفين والمبدعين ومدرسة للحياة، ورمزا من رموز المجتمع المدني الجاد والفاعل.
 
انطلقت فعاليات الحفل بعزف النشيد الوطني المغربي، حيث وقف الحضور بخشوع كبير، تبعه أداء جماعي لنشيد جمعية الشعلة، بصوت فتية وفتيات فرع الرباط التقدم، رددوه بكل حماس وانسجام، وكأنهم يستدعون أرواح أولئك الذين أسسوا وناضلوا وأحبوا هذا المسار الجمعوي ... صوت الطفولة وهو يصدح في فضاء القاعة كان كافيا ليوقظ في القلوب أسمى مشاعر الانتماء والفخر والحنين والاعتزاز بهذا التراث الإنساني .
 
توقف الحفل  عند لحظة إنصات وتأمل لشهادة رجل عاش الحكاية لأربع عقود... فأنصتت القاعة لكلمة الأستاذ سعيد العزوزي رئيس جمعية الشعلة للتربية والثقافة وأحد أبناء هذا المسار المجيد. جاءت كلمته عميقة وصادقة ومتشبعة بحب العائلة الشعلوية وروح الالتزام الجماعي قالها بوضوح: نحن لا نحتفل فقط بعمر من السنوات بقدر ما نعتز بتاريخ من الحلم الذي ولد من رحم المعاناة و شب و ترعرع لينبت رياحين تفوح عطرا في كل ربوع الوطن، لنفتخر بشعلة أنارت درب الرفاق ولم تنطفئ وبأجيال آمنت أن الثقافة والتربية هما النواة الصلبة للمجتمع الحي... تحدث عن البدايات المتواضعة التي شق فيها الرواد دروبا وعرة، مؤمنين أن للطفولة صوت يجب أن يسمع، وأن للشباب حقا في التكوين والتأطير والإبداع والانخراط الواعي و المسؤل في مجتمع الحرية و الديمقراطية و المسائلة الاجتماعية 
 
أثنى على روح التضحية لدى المؤسسين و بناة المسار و حماة الاستمرارية ، وعلى صمود الجمعية أمام التحديات، وعلى استمراريتها في التأثير والتجدد، ووجه تحية خاصة لفرع الرباط التقدم، الذي نظم هذا الحفل بتميز ودقة، فجعل من الذكرى حدثا ذا دلالة ، وذاكرة ذات حس فني رفيع.
 
ومباشرة بعد الكلمة التي ألقاها رئيس الجمعية، والتي شكلت لحظة تأمل واستحضار لمسار نصف قرن من الفعل الثقافي والتربوي، انتقل الحفل إلى واحدة من أقوى لحظاته الرمزية، لحظة الوفاء لجيل الرواد. فقد تم تكريم قامات كبار من أعمدة الشعلة، ممن شكلوا لبنات التأسيس الأولى، وتركوا بصماتهم الرفيعة في ذاكرة الجمعية ومسارها.
 
هكذا، صعد إلى المنصة الأستاذ محمد شفيق، ذاك القامة الشامخة، ابن مدينة مراكش الحامل لذاكرة الجمعية الحية  تلاه تكريم الأستاذة رشيدة سوداء، المرأة التي جسدت بجدارة قيم النضال الصامت والعمل التربوي المثابر، ثم الأستاذ علال وشن، أحد الفاعلين الأوائل الذين بصموا الذاكرة الثقافية بمبادراتهم الجريئة والمبدعة، فالأستاذ محمد هزيل، رجل الظل الذي ظل لعقود يحرس نار الشعلة كي لا تنطفئ، ويمنح للأجيال الجديدة من روحه ووقته وإيمانه العميق برسالة الجمعية.
لم تكن لحظة التكريم مجرد اعتراف بالجميل، بل كانت إعلانا علنيا عن الامتداد الطبيعي بين البدايات والراهن، بين من أرسوا الأسس ومن يواصلون البناء. كان كل درع يسلم، وكل تصفيقه تنبعث من الجمهور، بمثابة توقيع جديد على ميثاق الوفاء الذي ترفعه الشعلة جيلا بعد جيل، بأن لا ننسى من شيدوا الطريق، وإن كانت الكلمات قد سكنت العقول، فإن الموسيقى والفن قد استوطنا القلوب. الفقرة الفنية الأولى جاءت بقيادة الفنان حميد العنتير وجوق الطرب الأصيل، الذي قدم وصلات موسيقية مغربية راقية، نقلت الحاضرين إلى عوالم الصفاء الروحي، ومضت بهم في رحلة بين مقام وآخر، وبيت شعري وآخر، مستحضرة زمنا مغربيا نقيا، كانت فيه الموسيقى رسالة حضارية لا ترفا استهلاكيا.
 
وجاءت اللحظة الثانية من التكريم لتسطر فصلا جديدا من أوجه الوفاء، إذ خصصت لتكريم المناديب السابقين لفرع الرباط التقدم، أولئك الذين حملوا المشعل عبر سنوات عديدة، وساهموا في توهج الجمعية على المستوى التربوي والثقافي بروح التفاني والإخلاص. صعد إلى المنصة الأستاذ إبراهيم أيت لديب، الذي بنى بأسلوبه الحكيم جسور التواصل بين الأجيال، ومن ثم الأستاذ أحمد العزوزي، ذلك القامة التي جسدت في مسارها الإخلاص التنظيمي وحب العمل الجمعوي الصادق ، وأخيرا الأستاذ حكيم العمراني، الرجل الذي زرع في النفوس الإيمان بأن العمل الجمعوي رسالة إنسانية قبل أن يكون مجالا للتطوع.
 
ولم تقتصر لحظة التكريم على تسليم دروع التقدير فحسب، بل ارتبطت بأصوات تشي بالتقدير العميق: تصفيق حار تردد صداه في أرجاء القاعة، ووقوفٌ إجلالا لمن قدموا أرواحهم لفرع التقدم، ووجوه تلتمع فيها علامات الإعجاب والامتنان. كانت هذه المشاهد عبارة عن تذكيرٍ حي بأن التاريخ الجمعوي لا يكتب بأسماءٍ وحسب، بل بقلوبٍ أقرت أن التضحية من أجله شرفٌ ومسؤولية. ثم جاء الدور على الفلكلور، حين قدم يافعو وشباب الفرع ثلاث لوحات راقصة، جسدت تنوع الهوية الثقافية المغربية. بدأ العرض برقصة الكدرة الصحراوية، بدفوفها وحركاتها العميقة التي استحضرت روح الصحراء وكرمها وصمودها. بعدها، انتقلت الأجساد بخفة إلى شمال المملكة، حيث أدوا رقصة الطقطوقة الجبلية بكل تفاصيلها الدقيقة، وألوانها الزاهية. ثم اختتم العرض برقصة أمازيغية أصيلة، تعكس عمق التراث الأمازيغي المغربي، بأزيائه وحركاته ورموزه.
 
الإخراج الفني لهذه اللوحات كان بديعًا، متناسقا، محكما، يظهر تمرينا طويلا، وتفانيا في الأداء. بدت كل رقصة كأنها حكاية مصغرة، تحمل رسالة حب وهوية واعتزاز.
 
ولم يغب الصوت الشبابي، بل حضر بإبداعاته، حيث تألق الشاب عثمان الإدريسي، نجم الأغنية الشبابية، بشكل لافت خلال الحفل، حيث أسر الحضور بصوته الرخيم وأدائه الفني المتميز، مقدما باقة من الأغاني التي تمتح من الأصالة العربية وتغرف من الروح المغربية النقية، في مزج فني راقٍ يعيد للأغنية المعاصرة ألقها وهويتها. وقد شكل حضوره على الخشبة لحظة دفء فني، جمعت بين الإبداع والطرب الأصيل، وكان بمثابة جسر سحري يصل الماضي بالحاضر، ويؤكد أن الحاجة للأغنية الشبابية الصادقة ما زالت حية تنبض في قلوب الشباب حين يجدون من يحتفي بموهبتهم ويمنحهم فضاء يليق بقدراتهم كما هو الشأن بالنسبة للشعلة مع أجيال متعاقبة من الفنانين والمبدعين.
 
أما لحظة التكريم الثالثة، فقد كانت بمثابة الوفاء لأهل الوفاء و جسر يربط بين ذاكرة الجمعية العريقة وامتدادها الحي في الحاضر، إذ خصصت لقدماء الجمعية ووجوهها الوفية على الصعيدين الوطني والمحلي، وكذا لممثلي الفروع الذين حضروا من مختلف مناطق جهتي الدار البيضاء، سطات والرباط سلا القنيطرة.
 
كانت تلك لحظة استثنائية، اجتمعت فيها أجيال من المناضلين الذين نسجوا بعرقهم وإبداعهم قصة جمعية الشعلة، من الرواد الذين واكبوا النشأة وبنوا اللبنات الأولى، إلى فروع ما تزال تنبض بالحيوية وتجدد العهد كل يوم. وجدت الذاكرة متنفسها، فحضر من عاش البدايات بجانب من يحمل الشعلة اليوم، والتقت نظرات الاعتراف والاحترام في مشهد مفعم بالرمزية والدفء وكان تكريم جيل الرواد استحضارا لصوت الزمن، ولعهدٍ لا ينكسر بين أبناء الجمعية، في كل الجهات. فالمكرمون حملوا تمثيلية غنية وواسعة، دالة على امتداد الجذور وخصوبة الأرض، وعلى أن شعلة الوفاء ما زالت متقدة في مختلف فروع الوطن، تثمر قيما وتربي أجيالا جديدة على نفس الحلم الجماعي.
 
كما كان لمجموعة لمشاهب أولاد السوسدي حضور مميز، حضور تجاوز حدود العرض الفني ليتحول إلى لحظة وجدانية خالصة، تلامس الذاكرة وتستفز الأحاسيس، وتعيد إحياء روح الحي المحمدي ورواد الشعلة في أبهى تجلياتها. لقد أبدعت هذه الكوكبة المتألقة من الشباب في تقديم لوحات فنية متكاملة، امتزج فيها الغناء الملتزم بإيقاعاته الهادفة، مع الأداء المسرحي المعبر، والرقصات المستلهمة من التراث الشعبي المغربي، في تناغم فني يشهد على تربية موسيقية وثقافية عميقة.
 
وكان لافتا أن هؤلاء الفنانين، أبناء مجموعة لمشاهب أولاد السوسدي، قدموا عرضهم بنفس النفس النضالي الفني الذي اشتهرت به مجموعة لمشاهب الأصلية، فجاء الأداء مفعما بالرسائل الاجتماعية، ملتزما بالقيم التي ناضلت من أجلها الأغنية الملتزمة المغربية، وموسوما بلمسة إبداعية شبابية تعيد للتراث روحه المتجددة.
 
ولا غرابة في ذلك، فهؤلاء الشباب الحاملون للإرث والملهمون بجذوره، إنما تربوا في نفس التربة التي أنجبت رواد جمعية الشعلة، وهي تربة الحي المحمدي؛ هذا الفضاء الأسطوري الذي ظل عبر عقود مشتلا للفن الملتزم، ومرتعا خصبا للقيم النبيلة، ومنبعا للحركة الثقافية والتربوية في المغرب. لقد تنفسوا نفس هواء الحي، وتشربوا من نفس الينابيع التي سقت الأجيال الأولى من المناضلين التربويين والفنانين الثوريين، فكان ظهورهم في هذا الحفل بمثابة عودة ميمونة للروح الأصيلة، المتقدة، المبدعة، التي لا تموت.
 
لقد تمكنت مجموعة لمشاهب أولاد السوسدي من أن تجعل الجمهور يصفق طويلا، ليس فقط للطرب، ولكن للذاكرة، وللوفاء، ولحلم جيل لم يخنه الزمن. لقد أعادوا إلى المنصة شيئا من دفء "دار الشباب"، ومن صدى الأغاني التي لطالما جمعت الشعلويين حول قيم الالتزام والتغيير والتربية بالثقافة ومن أجلها.
 
وكان حضورهم في هذه المناسبة تتويجا رمزيا لما ترمز إليه جمعية الشعلة في خمسينيتها: الاستمرارية، والتجدد، والانتماء لجذور لا تنفصل عن الحاضر، ولا تنسى رسالتها الأولى. حيث أثبتت مرة أخرى أنها لا تزال تنجب، وتلهم، وتشعل الشعلة في قلوب الأجيال.
 
وقبل الحتام في لحظة فنية مبهرة ومفعمة بالدلالات العميقة، أبدع شباب فرع الرباط التقدم في أداء أغنية من فن الراب، حملت كلماتها نبض المعاناة وأمل الانبعاث، حيث جسدوا من خلالها قصة جيل من الشباب الذين احتضنتهم جمعية الشعلة منذ البدايات، فكانت لهم بمثابة مدرسة للحياة، وفضاء تربويا آمنا، حمتهم من الانزلاق في متاهات الانحراف والتيه والاغتراب فجاء الأداء محملا بالصدق والعنفوان، ليعبر عن التحول الذي صنعته الشعلة في مساراتهم، حيث وجدوا في أطر الجمعية قدوة، وفي مشاريعها الثقافية والتربوية متنفسا لبناء الذات والانخراط الواعي في قضايا مجتمعهم. لقد كانت كلمات الأغنية شهادة حية على دور التربية الجمعوية في صياغة الوعي، وترسيخ الانتماء، وإضاءة طريق شباب اختاروا الثقافة والالتزام بدل الضياع والتهميش. 
 
وكان من أصدق لحظات الوفاء، وأشدها تأثيرا في النفوس، تلك التي خصصت لتكريم الشاب عثمان العزوزي، مندوب فرع الرباط التقدم، صاحب هذا الحفل ومهندسه، وواحد من الأوفياء لمسار جمعية الشعلة ومبادئها الذي تدرج طفلا فيافعا تم شابا ليصبح اليوم قائدا لهذا الفرع العتيد الذي تأسس بداية تسعينيات القرن الماضي ولازال يفيض نبضا وعطاء، عثمان العزوزي لم يكن مجرد منسق لحدث فني ناجح، بل كان روحا فاعلة بثت الحياة في كل ركن، ونسقت بين الأجيال، وجعلت من لحظة الاحتفال منصة للاعتراف والربط بين الماضي والحاضر والمستقبل. فكان التكريم اعترافا مستحقا من الجمعية لأبنائها البررة، ممن يترجمون الانتماء إلى أفعال، ويجعلون من الوفاء التزاما يوميا لا يخبو.
 
لقد نجح فرع الرباط التقدم لجمعية الشعلة في جعل الحفل الفني لليوبيل الذهبي أكثر من مناسبة احتفالية. كان حدثا ذا بعد ثقافي وطني، وتربوي. أعاد الاعتبار لعمل جمعوي راق، وثقف الحضور من خلال الفن، ووجه رسالة مفادها أن الجمعية لا تزال حية، نابضة، متجددة.
 
هذا الحفل لم يكن مجرد لحظة عابرة، بل وثيقة وجدانية تثبت أن العمل الثقافي الجاد ما زال ممكنا، وأن الطفولة والشباب يستحقون الأفضل، وأن الذاكرة إذا أنيرت بالشعلة، فإنها لا تحترق، بل تضيء.