الجمعة 26 إبريل 2024
موضة و مشاهير

العسبي: في رثاء والدي .. نبض من تحت التراب

العسبي: في رثاء والدي .. نبض من تحت التراب الزميل لحسن العسبي رفقة المرحوم والده الحاج عبد الله
بعد آذان العشاء ليوم الأربعاء 31 يوليوز 2019، سعل مرتين وأحنى رأسه ونام نومته الأبدية، كانت قبالته والدتنا "زينة" وحدها، شاهدة على الذي صار (كانت معه وحدها في بداية رحلة الزواج وكانت معه وحدها في نهايتها بعد رحلة دامت 60 سنة). كنت في الطريق إليه، بعد أن طلب مني شقيقي الأكبر (محمد) الحضور بسرعة، في منتصف الطريق أخبرني أن والدنا صار في ملكوت الله.
ولجت إليه، وسبق إلي عناق ابن أخي (أنور) ودمعه الغزير يبلل عنقي، متسائلا في رجاء من يتمنى أن لا يكون الجد قد رحل، قائلا لي: "لا تزال أطرافه دافئة، ربما هو في غيبوبة فقط". وقفت عند رأسه وقبلته، كان والدي نائما في هدوء، بذات بياضه اللبن، وقد غادرته الحمرة التي كانت دوما في وجنتيه (كنت أسميها دوما "حمرة الجبل"). كان مرتاحا، وكانت قصة حياة قد اكتملت دورتها، عاش رجلا ومات رجلا، بذات عزة النفس الصارمة.
زرته ليلة الثلاثاء 30 يوليوز، وكان صوته خفيضا جدا، وكان نصف أسئلته عن خطاب الملك لعيد العرش، عن الأمل المتضمن فيه، عن فرحه بإطلاق اسم عبد الرحمن اليوسفي على الفوج الجديد للضباط وضباط الصف، معتبرا ذلك "رسالة وطنية" (للإشارة وضع والدي عند رأس سريره، منذ شهور، صورة كبيرة لقبلة العاهل المغربي على رأس اليوسفي بالمستشفى، ولا تزال هناك). كان الهم العام هو الأولى عنده من سؤال صحته وأحواله، وكان لابد من سؤاله الدائم والأبدي: "هل من جديد في مشكل الصحراء؟". كان فرحا وسعيدا تلك الليلة، وفرحت لفرحه كابن يرى والده متحمسا للشأن العام، علامة أنه بخير. 
لكن هيهات، كنت فقط مكتفيا بخوفي الذاتي عليه، وكان هو منتصرا لما ظل دوما يسكن وجدانه ووعيه وفهمه للحياة: "الشأن العام" (لخص قريب لنا ذلك بقوله :"والدكم لم يكن لكم، والدكم كان للناس"). وكان للموت كلمته الفصل.
في الثانية صباحا، بعد أن فرغ البيت من المعزين الأوائل (من الجيران والعائلة)، أطفأنا كل الأنوار وتركنا نور غرفته مضاء حتى الصباح. تمددت في الغرفة المجاورة، وكنت أطل عليه في حوار صامت بيننا، كانت الذكريات لغتنا المشتركة. البارحة فقط كنا نتناقش في ذات الغرفة، قرب ذات السرير، وناولته دواءه، واليوم صرنا عينا حزينة وجثة باردة. قلت، مع نفسي، في لحظة ما: من سيكون أول من قد يستقبله هناك؟ وجاءتني صورة صديقه الحميم الوحيد، الضابط إبراهيم وحمان، الذي استشهد في حرب الجولان السورية ضد إسرائيل في أكتوبر 1973. كانت تلك أول مرة أرى فيها والدي يبكي بحرقة كطفل (المرة الثانية والأخيرة يوم اغتيال الشهيد عمر بنجلون). من حينها لم يعد لوالدي صديق حميم، فقد أخد معه "إبراهيم وحمان" كل معنى الصداقة، وترك والدي "يتيم صداقة". لم يعد يذهب والدي أبدا إلى المسبح والبحر أو السينما، لأن الوحيد الذي كان يرافقه إليها هو صديقه الحميم ذاك.
عادة أنفر من الجثث، وكثيرا ما يكبر سؤال الموت أمامها والقلق منه، كتجربة إنسانية، لها أسبابها النفسية (الواعية وغير الواعية). لكن ما أثارني هي الألفة الغريبة التي كانت بيني وبين جثة والدي .. حتى في هذه كنا أصدقاء، وكان تواطؤ الرضى والمحبة ضاجا بيننا. انتبهت أن تقويسة الظهر التي عانى منها في سنواته الخمس الأخيرة، اختفت نهائيا، صار جسده متناسقا وعاديا تماما. استعاد والدي طوله كما كان، مستقيما، بذات نحافته الدائمة، وكما لو أنه ولج إلى الأبد واثق المشي، مستقيم الظهر، بجبهة عالية. تمددت جواره وتناجينا بلغة أخرى أبلغ من الكلمات. صار والدي معنى، وصرت تلميذا جديدا في مدرسته تلك.
كيف مرت جنازته وحفل الترحم عليه؟ .. لا أعرف كيف سلس كل شئ، كما لو أننا لم نقم بأي مجهود استثنائي، نحن سلالته. حتى السماء ذلك اليوم كانت رحيمة، حيث غشانا الضباب بالمقبرة وغابت الشمس، ونزل المطر شفيفا في ليلة وداعه الدينية. كنا نحن أبناؤه وأحفاده وعائلته، مطوقين بحجم المحبة التي تفجرت في الحي ومن الأقارب ومن رفاقه في الحزب والنقابة وفي معركة الحياة. وحين جاء الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي والدكتور فتح الله ولعلو والأستاذ محمد أبو الفضل ليكونوا في مقدمة المعزين، كما لو أنني توهمت أن والدي وقف باسما راضيا، مطلقا ذات نصيحته الأبدية في : "كن رجلا، وأحسن رسم الأثر الطيب في الناس". وفي كل جلسة معزين، كان يخرج إلينا نحن أبناؤه تفصيل جديد لأول مرة عنه، فصرنا نكتشف أبا آخر لنا، كان يمارس سيرته في غفلة منا، بلا بهرجة ولا ادعاء وفي نكران هائل للذات.
ما أثقل ميراثك يا رجل علينا الآن. ما أعظم أن نصونه فينا وفي أعين الناس الطيبين.
زرناه يومين بعد رحيله، بعد أن وصل شقيقنا الأصغر (عبد الحكيم) من الولايات المتحدة الأمريكية، وفي لحظة حمق لا نتقنها غير نحن أبناؤه وحفدته وزوجاتنا، بمبادرة من شقيقنا المهاجر، وضعنا يدنا اليمنى فوق بعضها البعض عند ما اعتقدنا أنه قلبه تحت التراب، غير بعيد عن الشاهد، وأقسمنا ما أقسمنا عليه من وفاء لسيرته. توهمت (وكانت يدي على التراب مباشرة بالصدفة)، كما لو أن نبضا كان يصعد من تحت التراب، هادئا ومتواترا. صمتت، ترددت، لكنني قلت لأشقائي ما توهمته، فاكتشفت أنهم أحسوا بذات النبض.