Tuesday 4 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

محمد الغيث ماء العينين: ما بعد القرار 2797.. تنزيل الحكم الذاتي كورشٍ لهندسة السلم والمواطنة في الصحراء المغربية

محمد الغيث ماء العينين: ما بعد القرار 2797.. تنزيل الحكم الذاتي كورشٍ لهندسة السلم والمواطنة في الصحراء المغربية محمد الغيث ماء العينين
مقدمة تأطيرية – من لحظة التراكم إلى لحظة التحول
في مساء 31 أكتوبر 2025، اجتمع حدثان تأسيسيان متكاملان في الدلالة والمسار: اعتماد مجلس الأمن القرار رقم 2797 الذي حسم المرجعية القانونية والسياسية لقضية الصحراء المغربية، والخطاب الملكي الذي وجّهه جلالة الملك محمد السادس إلى الأمة في اليوم نفسه، محدّدًا ملامح مرحلة ما بعد النزاع.
 
هذان الحدثان، في تزامنهما المدروس، لا يعبّران فقط عن نهاية مرحلة دبلوماسية طويلة، بل عن بداية طورٍ جديد من هندسة السلم والبناء الوطني.
فالقرار أنهى نصف قرن من الغموض التأويلي بإعلانه أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي هي الأساس الوحيد للتفاوض، فيما رسم الخطاب الملكي الأفق الاستراتيجي للمرحلة المقبلة، محددًا معالم مغربٍ جديدٍ يربط بين السيادة والوحدة، وبين التنمية والمواطنة.
 
لقد انتقلت المقاربة المغربية من منطق الدفاع إلى منهج المبادرة البناءة، ومن دبلوماسية الترافع إلى دبلوماسية صناعة الحلول، لتصبح السياسة الخارجية للمملكة نموذجًا في الواقعية الهادئة والثبات الاستراتيجي.
بهذا المعنى، يمثّل القرار والخطاب معًا منعطفًا تاريخيًا يربط الشرعية القانونية بالسيادة الفعلية، ويؤسس لمغربٍ ما بعد النزاع، مغرب السلم والتنمية والريادة الإقليمية.
 
الفصل الأول: دبلوماسية هادئة نحو تثبيت الشرعية – مسار وعبقرية المقاربة المغربية
منذ مطلع الألفية، كان مجلس الأمن يدعو الأطراف إلى “حلٍّ عادل ودائم ومقبول من الطرفين”، في ظل انسدادٍ مزمن في المسار الأممي.
غير أن التحول الحقيقي بدأ سنة 2007 حين قدّم المغرب مبادرته التاريخية للحكم الذاتي، مقترحًا نقل صلاحياتٍ واسعة إلى مؤسساتٍ منتخبة في إطار السيادة الوطنية والوحدة الترابية.
 
لقد استندت المبادرة إلى ثلاثة مرتكزات رئيسية:
1. السيادة: باعتبارها الأساس القانوني والسياسي الذي لا يقبل التجزئة.
2. تفويض الصلاحيات: أي تمكين الإقليم من تسيير شؤونه عبر مؤسسات منتخبة.
3. ضمان الاستقرار: كغاية نهائية لتحقيق التنمية والسلم المستدام.
 
بهذه المرتكزات، نقلت مبادرة الحكم الذاتي النقاش داخل الأمم المتحدة من سؤال تقرير المصير بمعناه الانفصالي إلى سؤال المشاركة في إطار السيادة الوطنية، وفتحت أمام المنتظم الدولي أفقًا واقعيًا للتسوية.
ومن اللافت أن المبادرة المغربية نفسها قد جاءت على ذكر مبدأ تقرير المصير، غير أنها أعادت تأويله ضمن مقاربة وحدوية تجعل من الحكم الذاتي أحد أرقى أشكال ممارسة تقرير المصير في إطار سيادة الدولة.
 
ثم جاء القرار 2440 (2018) ليمثل نقطة الانعطاف الكبرى في مسار الأمم المتحدة، إذ تبنّى مجلس الأمن لأول مرة مقاربة توصيفية للحكم الذاتي دون تسميته صراحة، متحدثًا عن حل سياسي “واقعي وعملي ودائم قائم على التوافق”، وهي العبارات نفسها التي تصف مضمون المبادرة المغربية بدقة.
ومنذ ذلك الحين، انتقل التبني الأممي من الضمني إلى الصريح، إلى أن جاء القرار 2797 ليؤكد أن التفاوض يتم على أساس المقترح المغربي وحده، مرحبًا فقط بالمبادرات التي تنطلق منه سقفًا للحل السياسي.
 
هذا التحول النوعي لم يكن صدفة، بل ثمرة دبلوماسية ملكية هادئة وواثقة، جمعت بين الواقعية والمشروعية، وبين العمل الميداني في الأقاليم الجنوبية والتحرك الذكي داخل المؤسسات الدولية.
لقد نجحت المقاربة المغربية في أن تجعل من خطابها الواقعي لغةً أممية جديدة تتكرر في كل القرارات اللاحقة، لتتحول المبادرة من مقترحٍ وطني إلى إطارٍ مرجعي أممي لتسوية أحد أطول النزاعات الإقليمية في العالم.
 
الفصل الثاني: خطاب ما بعد الإنجاز – نحو مغرب الشراكة والبناء والسلم
في خطابه التاريخي الذي أعقب صدور القرار، برزت بصمة القيادة الملكية التي توازن بين الحزم والحكمة.
فالخطاب لم يكن احتفالًا بانتصارٍ دبلوماسي، بل وثيقة توجيهية تحدد ملامح مغرب المستقبل، مغربٍ يتجاوز منطق الصراع إلى منطق البناء المشترك.
 
وجّه جلالة الملك نداءً واضحًا إلى الجزائر من موقع القوة الهادئة، مؤكدًا أن المغرب لا يسعى إلى الانتصار على أحد، بل إلى بناء فضاء مغاربي متكامل، حيث يكون الجميع رابحين.
فالاستقرار الجزائري مصلحة مغربية، كما أن استقرار المغرب مصلحة جزائرية.
وإشعار الجزائر بأنها “مهزومة” لا يخدم سوى استمرار التوتر وخلق سرديةٍ جديدة من نوع “حكرونا المغاربة”، وهو ما يدركه جلالة الملك بعمقٍ استراتيجي: فالحفاظ على النصر أصعب من تحقيقه، وضمان استمراره يتطلب مقاربة شاملة تُحوّل النصر إلى سلام، والسيادة إلى تنمية.
 
بهذا المعنى، يفتح الخطاب الملكي صفحةً جديدة في العلاقات الإقليمية، تقوم على فصل مسار النزاع عن مسار الجوار، وإعادة تعريف المغرب كقوة سلم واستقرار لا كطرف صراع.
إنّها مدرسة ملكية في تحويل الإنجاز إلى مشروع مستقبلي، وفي بناء التوازن بين الشرعية والقيم، بين الواقعية والطموح.
 
الفصل الثالث: من تثبيت السيادة إلى تجسيد المواطنة المندمجة – تنزيل الحكم الذاتي كسقفٍ مؤسساتي
إنّ تثبيت السيادة لا يكتمل إلا بتحقيق العدالة في التمثيل، لأن الحكم الذاتي ليس نظامًا إداريًا فحسب، بل مشروع مجتمعي يقوم على المساواة والمشاركة.
 
لقد أفرزت خمسة عقود من التنمية والاستقرار تحولاتٍ ديموغرافية جعلت الغالبية من ساكنة الصحراء اليوم من المواطنين الذين استقروا فيها من مختلف جهات المملكة، وهي ظاهرة طبيعية ناتجة عن النمو الاقتصادي وتطور البنيات التحتية.
ورغم أن هذا التنوع مصدر غنى واندماج وطني، فإنّ الغالبية الساحقة من المنتخبين ما تزال تنتمي إلى البنية القبلية التقليدية، وهو واقعٌ لم يعد منسجمًا مع روح الحكم الذاتي التي تجعل المواطنة أساس المشاركة والتمثيل.
 
فنجاح النموذج المغربي رهينٌ بقدرته على إرساء هندسة تمثيلية عادلة ومنصفة تحفظ الخصوصيات الاجتماعية دون أن تُقصي باقي المكونات.
المطلوب ليس القطع مع الشرعية التقليدية، بل إعادة تأطيرها داخل منطقٍ مؤسساتي يوازن بين الرمزية والكفاءة، وبين التاريخ والمواطنة.
 
وفي هذا الأفق، يشكل إدماج العائدين من المخيمات ضمن البنية المؤسساتية المقبلة رهانًا جوهريًا لترسيخ مصالحة حقيقية ومواطنة متوازنة.
وقد ميّز جلالة الملك بوضوح، في خطابه التاريخي، بين الصحراويين المقيمين في مخيمات تندوف وبين جبهة البوليساريو التي اختارت الارتهان لحساباتٍ إقليمية.
فالنداء الملكي كان نداء مواطنة لا نداء تسوية، ودعوة مفتوحة إلى أبناء الصحراء المغربية الحقيقيين للانخراط في مسار التنمية والبناء كمواطنين كاملي الحقوق.
في حين أن من جُلبوا من خارج الأقاليم الجنوبية فأمرهم يعني من احتضنهم وأدخلهم في نزاعٍ لا يخصهم.
 
أما جبهة البوليساريو، فإن استمرارها في المطالبة بالانفصال يجعلها في تناقض مباشر مع القرار 2797 ومع الشرعية الأممية ذاتها، ما يفرض عليها مراجعة قانونها الأساسي إذا أرادت أن تكون فاعلًا شرعيًا في المرحلة المقبلة.
لقد ضاق هامش المناورة أمامها، ولم يبقَ سوى هامش الزمن السياسي — فإما الاندماج في منطق الحل الواقعي، أو العزلة التاريخية.
 
إنّ التمثيلية في الصحراء المغربية ليست مسألة تنظيمية، بل ركيزة شرعية للمشروع الوطني.
والتحدي اليوم لا يكمن في “من يُمثّل”، بل في “كيف يُمثَّل الجميع” ضمن هندسةٍ واحدةٍ متناسقة وشفافة تُحوّل التعدد إلى وحدةٍ فاعلة، وتجسّد روح المواطنة المندمجة التي دعا إليها الخطاب الملكي.
 
الفصل الرابع: من الشرعية إلى الريادة – أفق مغرب ما بعد النزاع
لقد مثّل القرار 2797 والخطاب الملكي المتزامن معه تتويجًا لمسارٍ طويلٍ من الدبلوماسية الملكية الهادئة والواثقة.
فمنذ مطلع الألفية، انتقلت المقاربة المغربية من الدفاع إلى المبادرة، ومن منطق المطالبة إلى منهج البناء والتأثير، حتى أصبحت اللغة الأممية نفسها تستلهم من روح الواقعية المغربية.
 
بهذا التحول، لم يعد المغرب يُدافع عن سيادته فقط، بل يُعيد تعريف السيادة في بعدها المعاصر: سيادة قائمة على الشرعية، والمشروعية، والقدرة على إنتاج السلم.
فالمغرب لم يربح قضية الصحراء فحسب، بل كسب نموذجًا في إدارة النزاعات يجمع بين الثبات والمصالحة، بين الذاكرة والمستقبل.
 
واليوم، وقد ثبّت القرار الأممي المرجعية القانونية للحكم الذاتي، وأعطى الخطاب الملكي الأفق السياسي والأخلاقي، تتبلور مرحلة مغرب ما بعد النزاع — مغربٌ يربط بين الإنجاز الدبلوماسي والتحول الداخلي، بين تثبيت السيادة وتجسيد المواطنة.
 
إنّ التحدي الأكبر لم يعد في كسب الاعتراف الدولي، بل في تحويل هذا الاعتراف إلى ممارسةٍ مؤسساتيةٍ نموذجية تعكس روح المواطنة المندمجة والعدالة التمثيلية.
فنجاح الحكم الذاتي ليس مجرد انتصارٍ دبلوماسي، بل رهان على قدرة الدولة والمجتمع على بناء عقدٍ اجتماعي جديد داخل الصحراء المغربية، يكرّس الإنصاف والمشاركة المتوازنة لجميع المكونات.
 
وهكذا، يغدو القرار 2797 ليس فقط نهاية مرحلة النزاع، بل بداية مرحلة الريادة المغربية في هندسة السلم الإقليمي والمواطنة التنموية، برؤيةٍ ملكية جعلت من الدبلوماسية امتدادًا للسيادة، ومن التنمية امتدادًا للوطنية، و من المواطنة قاعدةًللبناء و  للسلم و الاستقرار الدائم