لم يعد الوضع في بلادنا بحاجة إلى استبيان، فالإحساس باليأس يلف البلاد حد الخنق، ويطمس كل الأرقام والنسب، ما عدا تلك التي تقيس انحدار البلاد الدراماتيكي الذي لا يتوقف نحو مزيد من الانتكاسة ومزيد من خيبات الأمل، أو تلك التي تحذر من وهدة السقوط ومغبة تحول ربيع 2011 إلى مجرد "ربيع كرتوني" يصبح معه المغرب بلد الفرص الضائعة، ومجرد جمل (غبي) يدك كل تلك الورود والزهور التي أنبتها في عز الحر. صحيح أن أولئك الذين يحشرون كل منتقد في زاوية "العدمية" و"التيئيس" لن يروق لهم هذا الكلام، لكن ما لا يروق حقيقة هو ألا نخاف على مستقبل وطننا، وأن نسعى فقط لجحد الحقيقة و"فرش حصيرة خادعة فوق بئر عميقة"، دون أن نتحرك لتشخيص كل تلك الأسباب التي أضرت بالمناخ العام لبلادنا وساهمت في تزايد حدة الاحتقان، والتي هي في الحقيقة نتاج تراكمات وأزمات متشابكة، نذكر منها:
- أزمة حكومة: عجز الحكومة الوظيفي وبروز تناقضات صارخة بين مكوناتها نتيجة تغليب الولاء للحزب على العمل على الوفاء بالالتزامات مع المواطنين، بالإضافة إلى فشلها في تدبير العديد من الملفات الذي ينضاف إلى رصيدها السلبي المليء بـ "الكوارث" في ما يخص احتواء الاحتجاجات الاجتماعية، جعل الأخيرة في وضعية هشاشة وضعف يزيد يوما بعد يوم من حالة الاحتقان والاستياء العام، ولا يعطي أي أمل للمغاربة في تحسين أوضاعهم المزرية وتحقيق مطالبهم التي لم تعد تقبل أي تماطل .
- أزمة أحزاب: إفراغ الانتخابات من محتواها السياسي، وسبك الأحزاب وقرصنتها، ووضع نفس الوجوه على رأسها في مشهد أشبه بوضع "أكياس رمل" لملء فراغات انسحاب وهروب النخب من السياسة، أضعف من مصداقية الأحزاب وأضر بالسياسة في بلادنا، ونزل بمؤشر ثقة "حزب الفيسبوك" الذي يضم أكثر من 13 مليون منخرط في الأحزاب وفي السياسة عموما إلى أدني المستويات، ينضاف إلى كل هذا عنصر أزمة آخر يتجلى في "الإسلاميين"؛ فتوالي فضائحهم الأخلاقية رغم "تدليجهم" للدين، ودخولهم في "صفقة تبادل مصالح مع الدولة" رغم إتقانهم لـ "خطاب المظلومية"، بالإضافة إلى حشرهم لأنفسهم في "سقف عال" من التعهدات التي لا فكاك منها، فضلا عن فشلهم في احتواء الأزمة الداخلية ومحاولة أنصار الأمين العام السابق إحراج الحالي ببلقنة المشهد السياسي، شكل وعيا شعبيا بأن "حصان طروادة" الذي استنجد به المغاربة أسوء "أبناء عبد الواحد".
- أزمة خطاب: في المغرب فقط يحدث أن تخفي الأحزاب ضعفها و كسلها بالملاسنات والتراشقات، ويحدث أيضا أن يكون لأعضاء الحكومة نصيب من بعض هذه الحماقات من قبيل "الوضع في المغرب أفضل من فرنسا"... لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو التحول الخطير المتمثل في انتشار خطاب اليأس والمرارة وانفجار التعبير عن السخط وتجاوزه لكل الحدود، بما فيها مبدأ توقير الملك.. وفي الحقيقة نخاف على الملكية من هذا الخطاب الذي تقف وراءه جهتان: الأولى عفوية يشكلها مواطنون مستاؤون من الوضع؛ والثانية يشكلها مخربون محترفون يتوقون لـ "رد أسفلها على علاها".
- أزمة أسرة: لا ينبغي أن نغفل بطريقة أو بأخرى التحول الخطير الذي حدث على مستوى الأسرة المغربية، ففي الماضي كانت الأسرة منخرطة ومشاركة، وكان الأب هو من يحدد اختيارات الأسرة السياسية، أما اليوم فتغير الحال وأصبحت الأسرة قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح خلية تورية، بعدما انقلب الابن المعطل الحاصل على الشهادة العليا على الأب، وسطا على سلطة الاختيار، وأصبح هو من يحدد توجهات الأسرة وقناعاتها السياسية.
ما أنف ذكره هو بعض فقط من تلك الأزمات التي تتراكم يوميا لتشكل ما يشبه "برميل بارود" قد يفضي انفجاره إلى ما لا تحمد عقباه.. لكن وكي لا نتهم بالاكتفاء بالتقريع والنقد، فإن من صميم الحل، ومن صميم الخوف على هذا الوطن، استخلاص من في مراكز القرار للمحاذير المتعين استخلاصها، وفتح حوار بين الواقع والمتوقع لتجاوز العلاقة المضطربة مع المستقبل ووقف سباق "التسابق نحو اللاشيء" بطي صفحة البرامج والرؤى الشبيهة بخضراء الدمن (كثرة الرمل وقلة النبات) التي لم يتحقق منها شيء حتى الآن، سوى إهدار الوقت والجهود، والتفكير في مشروع نهضة واسعة وممتدة، بدفتر تحملات واضح يساهم الجميع في صياغته وفي تحمل مسؤولية احترامه وتنفيذ بنوده.