السبت 18 مايو 2024
فن وثقافة

برينو ميرسي.. شاعر سويسري قادته القصيدة إلى مراكش لاعتناق الإسلام

 
 
برينو ميرسي.. شاعر سويسري قادته القصيدة إلى مراكش لاعتناق الإسلام

تأخذنا القصيدة نحو دروب لم يكن يسعها إدراكنا و لا تستبقها خطواتنا لحظة صحو و وعي مرتبطان بشرطنا الجغرافي و الثقافي، و من المرايا المنعكسة في المجاز الشعري تتخذ إنسانيتنا وجهها الحقيقي وتستمد رؤياها. من هنا، انطلق الشاعر "برينو ميرسي" من بلده سويسرا بقصيدته في تجاه مدن الشرق، يدفعه الفضول نحو الآخر و الرغبة الجامحة في فك غموضه.

تعرف الشاعر على اعتدال المسلمين في سلوكهم، واكتشف من خلال معاملاتهم العمق الإنساني للإسلام. دهشته بساطة راعي الغنم و قناعة الفقير و كرم ساكني دور الصفيح رغم حاجتهم وعوزهم، صدم بالحقيقة التي يواجهها. عوالم تشابكت فيها الحياة و المأساة، ورسم البؤس والحب إطارها التراجيدي الذي يستلهم تفاصيله ومميزاته من الحياة اليومية، لم تكن إلا لتسكن خاطرة السويسري برينو ميرسي، وتمسي عناوين عريضة تثير رغبته في الكتابة.

تنفس شاعرنا عبير الحياة، مدركا تماما و لأول مرة، أن السعادة و الحب تمنح في هذه الأوطان من دون مال أو مقابل، و أن العصبية و التطرف والإرهاب مفردات على الإنسان الغربي الخزي و الخجل لكونها ذات أصول أوروبية لا عربية، وقد حمل لنا التاريخ شواهد لا تحصى عن وحشية الذهنية الغربية، يكفي أن نذكر محاكم التفتيش وإبادة الهنود الحمر واستعمار الشعوب واستغلال مواردها. هذا الغرب الذي دمر العراق و أفغانستان و ساعد ويساعد في تجويع الشعب الفلسطيني وحصاره  واستمرار مأساته هو من يجب الحذر منه، هكذا صرح لي في حديث معه دار في مقهى شعبي بمدينة مراكش، جعلني ألامس عن قرب روح .هذا الشاعر الأجنبي الذي استهوته الحياة العربية، ووجدت تجاوبا عميقا في نفسه بكل جزئياتها البسيطة و المعقدة.

"برينو ميرسي" الشاعر الذي أصدر عددا من الدواوين في الغرب و الشرق، أصدر خلال السنة الجارية (2016) مجموعتين شعريتين، الأولى بعنوان "حلم دون إشعار" رفقة الشاعر المغربي الشاب "أيوب مليجي"، والثانية حملت عنوان "تحت ظل نخل آلي"، عملين أدبيين تتناغم من خلالهما البيئة الأصلية للشاعر مع امتداده الروحي، كما يعبران في معظم نصوصهما عن حب أعمى يكتنزه "ميرسي" في وجدانه للثقافتين العربية والإسلامية.

"برينو ميرسي" الذي تحول إلى "كريم ميرسي" بعد اعتناقه الإسلام، اكتشف سماحة هذا الدين وإنسانيته وكونيته من خلال زيارات عديدة قام بها إلى عدد من الدول العربية وعلى رأسها المغرب الذي يبقى اللؤلؤة التي ترصع تاج رحلاته نحو الشرق، والتي من خلال صداقاته مع أناسها تعرف عن قرب على المعنى الحقيقي والمفهوم الأصلي لمفردة مسلم.

وهو إذ يكتب الشعر ويسخر له كل إمكاناته المادية والمعنوية، فلأنه يؤمن بقدرة الكلمة على صنع الفارق و تغيير الأحداث و الرؤى . وهو ينتمي إلى تلك الفئة القليلة من الكتاب الذين ما زالوا يؤمنون بدور الكلمة في الدفاع عن حقوق الشعوب و المستضعفين.

"كريم ميرسي" الذي يعتبر المغرب منفاه الاختياري، هو الشخص الذي آَلِفَ تأمل البحر هربا من الوقت الجاري في بلده سويسرا المحكوم بسطوة المادة على الإنسان، تحت الحلقات الحادة للعولمة و بين العجلات المتسارعة للتحضر المزعوم:

مرتاح البال يبدو

الرجل الذي يتأمل البحر

أين توجد هويتي؟

المغرب منفاي الاختيار

قصيدة "غربتي في المغرب" ص77 من ديوان "تحت ظل نخل ألي"

هذا الشاعر الذي قادته قصيدته إلى مراكش لاعتناق الإسلام، تشبع بالمعنى الأصلي للدين وتذوق لذاته وتفاعل مع أبعاده، ولعل انسجامه مع نسق حياة المسلم في عاداته وعباداته، دليل على التحول الثقافي والفكري الذي طرأ عليه:

أمام الشمس

أطلب من المعوزين

أن يقبلوني بينهم،

وأتعلم كيف أداري الجوع.

الصيام، عطاء لا يرى

في الطريق الضيق للتقاسم.

أمام الشمس كلها

أناشد كل المعوزين.

قصيدة "أمام الشمس" ص47 من ديوان "تحت ظل نخل ألي""

يعتبر ميرسي مثالا حيا للشاعر الذي يتنفس ويكتب الحياة، رافضا كل أشكال التعصب التي سيطرت على الفكر المعاصر، بالشكل الذي أمسى فيه محيطنا البشري، رغم شساعته وشموليته، نقطة ساخنة للصراع.

يتحدى الشاعر السويسري كريم ميرسي بقصائده، نظرة الغرب الكلاسيكية للإنسان العربي. تلك النظرة (النمطية) الأحادية الأفق، التي حاول جون جونيه وخوان غويتصولو وبعض شعراء وكتاب الغرب فصلها ووقفوا بكتاباتهم أمام اللبس والتعتيم الذي مارسته وتمارسه وسائل الإعلام الغربية والأدب الرسمي في حق الإنسان العربي وحضارته. وكشفوا النقاب للقارئ الغربي عن حقيقة الشعوب العربية وقطعوا شكه بيقين أن الإنسان العربي، إنسان حضارة وإبداع.

والمتتبع لأعمال ميرسي الشعرية يلاحظ ارتباط الشاعر الوثيق بما حوله وتأثره الكبير بقضايا العالم الاجتماعية والاقتصادية وحتى البيئية منها، ودواوينه تعبر عن صوت الحياة والإنسان في غمرة الغوغاء واللاوعي. وعبرها نلامس نضال شاعر لم يجد مناصا من ترجمة أحاسيسه إلى صور شعرية لأجل الرقي بالبشرية نحو غد مشرق لجميع أطيافه وأعراقه. وحين قال الكاتب والناقد والمترجم, الدكتور محمد آيت العميم: أن مشروع ميرسي مؤسس على النزعة الإنسانية وعلى المحبة والحوار الفعال بين البشر باختلاف دياناتهم وهواياتهم وثقافاتهم  ولغاتهم بحثا عن الجوهر الموحد للإنسان قبل أن تلوثه الخلافات والصراعات و تباعد بينه الأعراق والأجناس. أكد أنه مشروع يدعو إلى العودة إلى النبع وإلى السباحة عكس الماء الذي تغير لونه بطول المسافة سعيا إلى الوصول إلى العين الأولى الصافية.

السلام و العدالة الاجتماعية والتسامح معان يرسخ لها كريم ميرسي في رحلة إلى الشرق، مناهضة للفكر الغربي المتعصب والمركزية الغربية، رحلة تربط الإنسان بنفسه وبالآخر، ليؤكد مرة أخرى ومن جديد على حتمية الحوار بين الحضارات كضرورة وجودية و ليس كلعبة خاضعة لسيطرة السياسيين وأهوائهم. عبر لغة بسيطة مباشرة، تحي إدراكنا بالحس الإنساني الذي يشكل همزة الوصل بيننا. وما نقل الشاعر للحياة اليومية التي لامسها عن قرب خلال زياراته لبعض الدول العربية، إلا محاولة أخرى لكسر الهوة بين الشمال والجنوب. وهذا ما يجعل من الشاعر السويسري كريم ميرسي، خطابا شعريا خاصا يمزج الشرق بالغرب ويتعدى المصالح وإكراهات العصر إلى الحياة السعيدة المثلى التي يفتقدها ويرغبها الجميع.

وإنصافا منا لالتفاتاته الإنسانية، نشيد بإسهاماته، وبصوته النبيل مقارنة مع صوت بعض مثقفينا، البائس إلى أبعد الحدود...