الاثنين 6 مايو 2024
سياسة

ذ. محمد نجيب بقاش: على القاضي أن يترفع عن تحويله لآلة تصفية الحسابات السياسية

ذ. محمد نجيب بقاش: على القاضي أن يترفع عن تحويله لآلة تصفية الحسابات السياسية

اعتبر الأستاذ محمد نجيب بقاش، القاضي السابق، أن ما يدفع عادة الجمهور إلى الاحتجاج وممارسة نوع من الضغط على القضاء يعود لسببين: أولها نقصان أو ربما انعدام ثقته فيه للأسباب المبينة أعلاه ولأسباب أخرى، ثانيها هو أن مسألة التمييز بين الظلم والعدل خاصة في القضايا الجنائية..

في هذا الحوار يتحدث الأستاذ بقاش، عن ملفات قضائية استأثرت باهتمام الرأي العام الوطني.

+ هل يمكن الحديث عن مؤثرات خارجية يتعرض لها القضاة، خصوصا في القضايا الجنائية؟

- يجب أن نوضح أن القضايا التي عادة ينجذب إليها الرأي العام وتشغله أكثر من غيرها، والتي يعبر فيها عن رأيه سواء بالرضا أو الغضب تكون ذات طابع جنائي، والسبب في ذلك هو أن القانون الجنائي أكثر القوانين قربا من الإنسان لأنه يعد الأكثر تعبيرا عن قيمه الأخلاقية المُجمٓعِ على احترامها ومراعاتها، وأي مساس به يحدث اضطرابا في المجتمع أكثر من أي قانون آخر، هذا فضلا عن أنه قانون إذا أُسِيئ تطبيقه فإنه يصبح وبالا على أقدس حق فطري يمتلكه الانسان وهو حريته، لذلك فهو الأكثر ارتباطا بهذا  الحق والأشد تهديدا له، كما أنه من جهة أخرى يعد في نظر الجمهور الأكثر تعبيرا عن مفهوم سيادة القانون بحيث أن كل تطبيق انتقائي له على حالة دون أخرى، يبدو وكأنه تطبيق انتقائي للقانون كله، فالقانون الجنائي على حد تعبير أحد الباحثين "يوحي للعامة بالسجون والمرافعات البراقة والجرائم الدموية إلى درجة أنه، في فكر الجاهل، يرجع  مفهوم القانون بكامله إلى الدقائق التوثيقية وإلى مآسي محاكم الجنايات".

لهذه الأسباب، تعد القضايا الجنائية هي المقياس الأمثل الذي يقيس به الجمهور درجة استقلالية القضاء في مواجهة باقي السلط الأخرى خاصة السلطة التنفيذية باعتبارها جهة مؤثرة وذات يد في هذا النوع من القضايا خاصة إذا علمنا أنها تكون عادة هي المحرك الاول والغالبة لعملية تشغيل القانون الجنائي على صعيد الواقع من خلال مؤسسة النيابة العامة التي يترأسها وزير العدل فهي تأتمر بأمره. كما أن عملية البحث والتحقيق الميداني في هذا النوع من القضايا يتم من طرف الضابطة القضائية وهي جهة تابعة تسلسليا وإداريا للسلطة التنفيذية وهي وزارة الداخلية.

ولما كان القانون الجنائي هو الأكثر تعبيرا عن القيم الاخلاقية للمجتمع الذي صدر فيه، فإن هذا المجتمع ينتظر عادة من القضاء، عندما يتم انتهاك هذا القانون، أن تكون أحكامه إما رادعة وتشفي غليله بأن لا تستثني أحدا، أو ينتظر منه من جهة أخرى أن يبرز استقلاليته وقوته ودفاعه عن التطبيق السليم والمنطقي والعادل للقانون إذا ما تم المساس تعسفا بحرية مواطن ما، أثناء جريان مسطرته أمام الجهات التي تعمل تحت إمرة أو ضغط السلطة التنفيذية، لذلك فالقضايا الجنائية ستظل دائما ذات حساسية خاصة نظرا لوجود سلطة أخرى وهي التنفيذية تزاحم القضاء من جميع الجهات وخلال جميع المراحل وهو ينظر فيها.

وعليه فإن القضايا الجنائية تكون للأسباب المبينة أعلاه خاصة مزاحمة السلطة التنفيذية للقضاء أثناء مباشرتها، دائما هي الأكثر عرضة للتأثير عليها سياسيا خاصة وأن السلطة التنفيذية، تمثل عادة توجها سياسيا أو إيديولوجيا ما، تريد أن تكرسه على أرض الواقع وباستعمال جميع الطرق الممكنة، أحيانا قد يضمر هذا التأثير نوعا من تصفية الحسابات أو شد الحبل مع الخصم المعارض..

+ إلى جانب السلطة التنفيذية، يبرز الإعلام كسلطة رابعة، كيف يؤثر على القضاء؟

- فعلا، يواجه القضاء تأثيرا كبيرا من الإعلام الذي اشتد خلال السنوات الاخيرة بفعل الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي خاصة عبر العالم الافتراضي للفايسبوك مثلا، والذي بواسطته أصبح بإمكان أي مواطن أن يعبر عن رأيه ويوصله إلى أكبر عدد من الأشخاص يفوق عددهم بكثير عدد الذين يعرفهم في عالمه الواقعي، بل أكثر من ذلك يدخل معهم في نقاش حوله قد يمتد لساعات، فبفضل هذا العالم الجديد أضحى كل مواطن يتوفر على حساب به وكأنه يتوفر على قناة إعلامية حرة، وخاصة يحملها معه أينما حل ويعبر فيها عن رأيه وموقفه لغيره وقت ما شاء. كما أن هذه الوسيلة أصبحت أكثر الملاجئ لمن يريد أن يشهر بقضية ما أو يدعو فيها المتضامنين مع رأيه إلى التجمع والتظاهر والاحتجاج علنا. هكذا تطورت هذه الوسائل الجديدة إلى أساليب ضغط زادت من حساسية القضايا الجنائية التي يخضع الإثبات فيها، وهذا هو الإشكال، إلى القناعة الوجدانية للقاضي وهو ما يجعل عمل القاضي هنا وصورة القضاء عموما على المحك.

+ لكن لماذا في نظرك هذا الضغط الجماهيري على القضاء، هل يعود السبب لفقدان الثقة؟ أم توجيه القضاء لصالحه؟

- الواقع هو أن ما يدفع عادة الجمهور إلى الاحتجاج وممارسة نوع من الضغط على القضاء يعود لسببين: أولها نقصان أو ربما انعدام ثقته فيه للأسباب المبينة أعلاه ولأسباب أخرى، ثانيها هو أن مسألة التمييز بين الظلم والعدل خاصة في القضايا الجنائية أمر لا تختص به جهة القضاء وحده، بل الجمهور برمته أو كما عبر عن ذلك فيليب ميلانكتون 1497/1560 وهو أحد منظري الفكر القانوني الحديث: "التمييز بين العدالة والظلم هو نوع من المعرفة الطبيعية أعطانا الله إياها" فالجمهور، بحكم الطبيعة غير التقنية للقضايا الجنائية، تكون عادة في متناول فهمه، باستطاعته وباستعماله فقط لمنطقه العادي أن يميز في الأدلة المقدمة فيها بين دليل مقبول وبين آخر لا يستساغُ عقلا ومنطقا. إن مشاركة الجمهور للجهاز القضائي في تقصي العدالة في القضايا الجنائية عبر الموازنة بين أدلة الإثبات المعروضة هو ما جعل بعض الأنظمة القضائية خاصة النظام الأمريكي يأخذ بنظام المحلفين في القضايا الجنائية كحل ذكي يُطَمئِن الجمهور على أن العدالة سيحققها بنفسه، ومن ثم يبقى جهاز القضاء في منأى عن أي اتهام له بالتحيز أو خضوعه للضغط من أية جهة كانت، فهؤلاء المحلفون هم فقط أشخاص عاديون من المجتمع، لا يشترط فيهم أي تكوين قانوني، لكن دورهم هو مشاركة القاضي قناعته الوجدانية في إصداره الحكم بالإدانة أو البراءة حتى لا يكون مستبدا في قراره الجنائي ويكيف القانون والأدلة المعروضة عليه حسب هواه. ولقد دلت التجربة على أن المجتمع لا يجد ظلما أشد من حرمان شخص من حريته تعسفا ودون موجب قانوني مقبول وكذلك من تطبيق القانون على هذا واستثناء ذاك دون توضيح سبب قانوني لإعفائه.

+ في مثل هذه التأثيرات على القضاء، من السلطة التنفيذية والإعلام والجمهور، كيف يتعامل القاضي مع هذه القضايا التي تكون ذات خلفية سياسية؟

- لا مفر للقاضي في مثل هذه الحالة، أن يتعامل مع هذا النوع من القضايا بالتشبث بتطبيق القانون، أن يعتبر القضية كأي قضية أخرى، أن يتعامل معها مثلما تعامل مع القضايا الأخرى المماثلة حتى لا يكون هناك تناقض في الأحكام التي يصدرها، خاصة وأنه ليس من الصعب رصد تناقض أي قاض في أحكامه التي يصدرها في القضايا المعروضة عليه لأنها عادة تكون قضايا متشابهة في وقائعها عموما وفي الأدلة المتوفرة فيها. وهنا يكون دور المحامي محوريا في تنبيه هيئة الحكم إلى ما أصدرته سابقا من أحكام طالت وقائع متشابهة أو اعتمدت فيها المحكمة وسائل إثبات موازية انتهت بها إما إلى تبرئة المتهم أو إدانته، فعادة ترسم كل  هيئة حكم خطة تعاملها مع القضايا المعروضة عليها يجدر ألا تخرج عنها، بأن تأخذ مثلا بنوع محدد من وسائل الإثبات فيما تستبعد وسيلة محددة ما، فالتناقض في إصدار أحكام في قضايا متشابهة في وقائعها وفي الأدلة المعروضة فيها، يعد أكبر دليل على عدم نزاهة المحكمة، يعد دليلا كذلك على غياب مبدأ سيادة القانون وعلى انعدام المساواة بين المواطنين أمام القضاء، يدل كذلك على نوع من الانتقائية في تطبيق القانون الذي يجب أن يطبق بعدالة، وإلا صار تطبيقه في حالة العكس، نوعا من "السخرية" كما عبر عن ذلك أحد المفكرين.

+ هل هناك محددات لهذا القاضي أو ذاك في التعامل مع مثل هذه القضايا؟

- طريقة تعامل القاضي مع النوازل المعروضة عليه تحددها في هذا الخصوص درجة تكوينه القانوني ومدى اتساع ثقافته العامة، تحددها كذلك مدى قوة شخصيته وصلابته وعدم انهيار ضميره خاصة أمام تلك القضايا التي تكون محط تتبع من قبل وزارة العدل بصورة خاصة باعتبارها، وإلى حدود اليوم، لا زالت تمثل السلطة التنفيذية كجهة وازنة وذات تأثير، داخل جهاز القضاء بل أكثر من ذلك و كما قلت سابقا، تكون هي من جهزت، وبشكل كلي تقريبا، القضية الجنائية التي ينظر فيها.

من جهة أخرى، قد يحدث أن تكون بعض القضايا موضوع ضغط شعبي، سواء جاء هذا الضغط بصورة علنية في شكل احتجاج أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي الذي أصبح يشكل مؤخرا الطريقة الغالبة. ولأن القضاء في بلادنا مازال يبحث على استقلاليته وما زال لم يحظ بعد بالثقة الكاملة فيه، فقد أضحى من السهولة التشهير بأي قضية معروضة أو حكم صدر. وعملية الضغط هاته قد تكون ذات خلفية قانونية حقوقية كأن يلاحظ وجود خرق سافر للقانون أو انتهاك لحق من حقوق الإنسان، وقد تكون أحيانا مجرد خلفية سياسية تعبر عن إيديولوجية ما تريد أن تفرض توجهها على القرار القضائي. المهم هو أن القضاء هنا يجب عليه أن يتمسك بالتطبيق القانوني السليم، فقد يحدث أن يتم الضغط في قضية ما يراد فيها إطلاق سراح شخص معتقل، في حين أن وما جرى به العمل في قضايا مشابهة يقول عكس ذلك. وقد يحدث كذلك أن ينتظر الجمهور إدانة شخص ما، لكن وسائل الإثبات المقدمة في قضيته والتي يعتقد الجمهور أنها كانت كافية لإدانته تكون غير مقبولة قانونا لانعدام توفر شروطها الشكلية كاملة، وهنا يجب على المحكمة أن تعلل قرارها بما يكفي حتى تدحض عن نفسها كل شبهة انحياز أو تطبيق مشوه للقانون من شأنه إثارة الرأي العام واستفزازه.

+ هنا تبرز أهمية تعليل الأحكام، وعادة يتم تقييم الأحكام القضائية من قبل الجمهور، دون الرجوع للحيثيات..

- نعم، يبقى تمسك القاضي بالتطبيق السليم والمنطقي للقانون مع تعليل القرار الصادر تعليلا كافيا، هو السبيل الوحيد لمواجهة مثل هاته الأوضاع التي تتعرض فيها بعض القضايا لمحاولات الضغط لتوجيهها إلى نحو معين سواء كان هذا الضغط سياسيا أو شعبيا..

 

والمقصود بتعليل الحكم تعليلا كافيا، أن يكون مبنيا على تفسير منطقي للنصوص القانونية المطبقة على وقائع القضية بحيث أن كل من يقرأه بعد تحريره كتابة من طرف القاضي، بما في ذلك المواطن بسيط التكوين، يقتنع بصوابه نظرا لانسجام مجريات الأحداث المتتالية الواقعة فيه مع ما انتهى إليه الحكم الصادر من إدانة أو تبرئة. أما إذا غاب هذا الانسجام، فالحكم يكون ضربا من "السخرية" على العدالة واستفزازا بليدا ومضحكا للرأي العام...