Saturday 26 July 2025
منبر أنفاس

جمال المغربي: غزة بين العقيدة والدم.. قراءة في مشروع التطهير الإقليمي وأبعاده القانونية

جمال المغربي: غزة بين العقيدة والدم.. قراءة في مشروع التطهير الإقليمي وأبعاده القانونية جمال المغربي
لم يعد ما يجري في غزة يقرأ ضمن حدود المواجهة العسكرية التقليدية. لقد تجاوزت الأحداث منطق الحرب والردع إلى مشروع متكامل يروم نفي الوجود الفلسطيني من الجغرافيا، لا عبر الإبادة الكاملة، بل بالإزاحة القسرية والتطهير الإقليمي. وسط صمت دولي وتواطؤ معلن أو مبطن، تتكرس آليات إيديولوجية تستند إلى الدين لتبرير المذبحة، وتفعل تشريعات وسياسات لصياغة واقع ديمغرافي جديد.
من الضروري، إذن، مقاربة هذا الواقع من خلال أدوات علمية دقيقة ومفاهيم قانونية واضحة، بعيدا عن الخطاب العاطفي المحض أو اختزال المسألة في ثنائية "إرهاب" و"دفاع عن النفس". ما يحدث يستدعي تفكيك البنية الأيديولوجية التي تحكم المشروع السياسي الصهيوني، لا سيما في صورته الدينية، وتحليل السياسات التي تنفذ على الأرض عبر أدوات الدولة.
التمييز بين "الإبادة الوجودية" التي تستهدف القضاء على شعب بأكمله، و"الإبادة الإقليمية" التي تسعى إلى تطهير مساحة جغرافية من مكون عرقي أو ديني، هو مفتاح جوهري لفهم طبيعة الجرائم الجارية. هذا التفريق لا ينقص من خطورة الحدث، بل يظهر وجها جديدا للجريمة، أكثر تدرجا ودهاء.
وإذا كانت المحكمة الجنائية الدولية قد بدأت بالتحقيق، فإن الثقل الأخلاقي والمعرفي يقع على عاتق المثقف، الأكاديمي، والصحفي الحر، من أجل توضيح المفاهيم وفضح الانزلاقات الإعلامية التي تفرغ الكلمات من معانيها. الصراع في فلسطين لم يكن يوما صراع حدود فقط، بل صراع وجود ومعنى وهوية.
من هنا تنبع ضرورة هذا النص، كمساهمة في إعادة التوصيف القانوني والفكري لما يحدث في غزة والضفة، وتحديد طبيعة المشروع الصهيوني الديني، وتقديم قراءة متأنية لظاهرة "التطهير الإقليمي" في ضوء القانون الدولي.
الجزء الأول: الصهيونية الدينية وتحول العقيدة إلى أداة سلطة
نشأ التيار الديني داخل الحركة الصهيونية باعتباره قوة داعمة لمشروع الاستيطان، لكنه تحول في العقود الأخيرة إلى قوة سياسية فاعلة لها دور مباشر في الحكم والتشريع. أحزاب مثل شاس، الصهيونية الدينية، وعظمة يهوديت لم تعد هامشية، بل صارت شريكة في صياغة السياسات الأمنية، التعليمية، والديموغرافية.
هذه التيارات تحمل فهما لاهوتيا للأرض، يجعل من فلسطين "أرضا موعودة" لا مجال فيها للآخر. هذا التصور لا يقتصر على الإيمان الديني، بل يتمأسس في خطاب سياسي يبرر الإقصاء والضم والمصادرة، ويعتبر الفلسطيني غريبا عن الجغرافيا حتى لو ولد فيها.
انطلاقا من هذا التصور، تبرر كل أشكال العنف بوصفها تنفيذا لإرادة إلهية، بل يتم تصوير المستوطن كجندي عقائدي يعيد الأرض لأصحابها الأصليين حسب الفهم التوراتي. يصبح القتل أداة تطهير، والتهجير وعدا بالخلاص.
الأخطر هو تقنين هذه الرؤية من خلال قوانين مثل "قانون الدولة القومية لليهود" لعام 2018، الذي يقصي غير اليهود من حقوق المواطنة المتساوية، ويعلي من شأن المشروع الديني على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
هكذا تتحول الدولة من إطار سياسي إلى ذراع تنفيذية لعقيدة ترى في الوجود العربي على الأرض "نجاسة سياسية" يجب تطهيرها، ليس بالمجادلة الفكرية، بل بالعنف المنظم.
الجزء الثاني: سياسة الضم ومحو الفلسطيني من الجغرافيا
الضم ليس قرارا إداريا أو تفاوضا على حدود، بل هو مشروع هندسة سكانية يروم تحويل الأرض ومحو أثر الفلسطيني فيها. قرار الكنيست في يوليو 2025 بضم أجزاء من الضفة الغربية ليس حدثا منفصلا، بل جزء من رؤية متكاملة.
في الواقع، تستبق إسرائيل عملية الضم الفعلي بالضم الزاحف، عبر إنشاء المستوطنات، وشبكات الطرق الالتفافية، والحواجز، وتحويل الفلسطيني إلى كائن محاصر، لا يتحكم حتى في حركة قدميه. الاحتلال هنا ليس عسكريا فقط، بل هندسي عمراني واستراتيجي.
الضم يرافقه خطاب تحقيري للفلسطيني، ونزع لشرعية وجوده التاريخي، حتى أن بعض الساسة الإسرائيليين وصفوا الفلسطينيين بأنهم "طارئون مؤقتون". هذا التوصيف لا يخلو من دلالات تطهيرية، لأنه يجعل وجود الآخر غير قابل للدوام.
من جهة أخرى، يمنح الضم للمستوطن مكانة قانونية أعلى من المواطن الفلسطيني في نفس الأرض. نرى قانونين مختلفين، ومحاكمتين، وموازنات غير متساوية، ومستوطنين يتمتعون بالخدمات بينما يحرم السكان الأصليون منها.
ما يحدث في الضفة ليس توسعا جغرافيا عشوائيا، بل بناء لنظام فصل عنصري مرجعيته دينية، يستخدم القوة لطرد الفلسطيني من أرضه دون أن يطرده رسميا، بل عبر تفريغ المعنى من الحياة هناك.
الجزء الثالث: غزة نموذج التطهير الإقليمي
منذ أكتوبر 2023، تتعرض غزة لحملة عسكرية غير مسبوقة، تبرر بأنها رد على هجوم، لكنها في الواقع تتخذ طابعا انتقاميا جماعيا يستهدف البنية التحتية والسكان المدنيين بلا تمييز.
القصف لا يميز بين مدارس ومستشفيات، ولا يبقي على أي حي سكني دون دمار. يمنع دخول الغذاء والدواء، وتقطع الكهرباء والماء، ويحاصر مليونان ونصف إنسان بهدف دفعهم نحو الهرب أو الانهيار الداخلي.
الخطاب السياسي المرافق للعملية يظهر نوايا أبعد من الرد العسكري. وزراء وأعضاء كنيست دعوا صراحة إلى تهجير سكان غزة إلى سيناء، بل واعتبروا أن غزة يجب أن تفرغ من العرب. هذه ليست تصريحات فردية، بل رؤى سياسية متكررة.
ما يجري في غزة يظهر بوضوح الفرق بين إبادة وجودية تهدف إلى إفناء شعب بأكمله، وإبادة إقليمية تستهدف نفيه من مساحة جغرافية معينة، وهو ما ينسجم تماما مع التعريف القانوني للإبادة كما ورد في اتفاقية عام 1948.
ليست المشكلة فقط في حجم الدمار، بل في النية السياسية التي تقف خلفه، وهي نية التطهير. هذا ما يجعل ما يحدث في غزة جريمة إبادة جماعية بمنطق القانون، حتى لو لم يستخدم هذا المصطلح رسميا بعد.
الجزء الرابع: الإبادة الإقليمية كتصنيف قانوني واجب
تنص اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 على أن تحقق جريمة الإبادة لا يشترط أن يطال الجماعة المستهدفة بأكملها، بل يكفي أن ترتكب أفعال تدميرية بحق جزء منها، متى توفرت النية المبيتة. هذا الجزئي هو ما ينطبق على الحالة الفلسطينية اليوم.
حين تستهدف جماعة إثنية أو دينية داخل حدود جغرافية معينة بهدف تهجيرها أو إفنائها من تلك المنطقة، فإن ذلك يعد إبادة وفق القانون الدولي، خاصة إذا ترافق بالفعل المادي مع نية معلنة.
في حالة غزة، تتوفر كل العناصر: القتل الجماعي، الحصار، تدمير الخدمات الأساسية، والمنع المتعمد للمساعدات، بل والتصريحات الرسمية التي تدعو إلى الإزاحة الجماعية. هذه كلها أدلة على مشروع إبادة جزئية.
القانون لا يفرق من حيث الجريمة بين الإبادة الوجودية والإقليمية، فكلاهما يصنفان جريمة ضد الإنسانية. التفرقة هنا ليست لتبرير الجريمة، بل لفهم شكلها وتنظيم آليات الرد القانوني والحقوقي.
من واجب القانونيين والإعلاميين والمثقفين الإلحاح على هذا التصنيف، حتى لا يسقط الضمير العالمي في فخ الصياغات اللينة، التي تعفي الجناة من المحاسبة باسم غموض المفاهيم.
الخاتمة
ما يجري اليوم ليس مجرد تصعيد، بل إعادة صياغة لمشروع سياسي قديم بأدوات أشد تطرفا وبدعم رسمي غير مسبوق. الصهيونية الدينية ليست مجرد تيار فكري، بل هي الآن السلطة، والميدان، والقانون. والمشروع الذي تديره يهدف إلى تطهير الأرض من أصحابها الشرعيين.
التطهير ليس دائما بالصوت العالي. أحيانا يتم بالحصار، وأحيانا بالقانون، وأحيانا بالخرائط. لكن النتيجة واحدة: غياب الفلسطيني، لا جسديا فقط، بل قانونيا ورمزيا. والإفلات من العقاب ليس إلا تمهيدا لمجازر أخرى.
من المهم، إذن، أن نعيد صياغة المصطلحات، أن نسمي الأشياء بأسمائها: ما يحدث في غزة والضفة هو إبادة إقليمية تنفذها دولة عضو في الأمم المتحدة، مدعومة بتحالفات كبرى، لكن ذلك لا يعفيها من المساءلة.
القانون الدولي ليس مثاليا، لكنه أداة. والضمير الإنساني ليس كافيا، لكنه واجب. ولعل هذا النص يساهم في إعادة البوصلة نحو جوهر القضية: فلسطين ليست مسألة جغرافيا، بل سؤال عدالة.
• رابط المقالة الأصلية باللغة الفرنسية : 
https://jamaghribi.fr/gaza-et-la-tentation-genocidaire-lideologie-du-sionisme-religieux-au-coeur-de-la-guerre/