تشكل العلاقات بين المغرب وإسرائيل نموذجا معقدا ينطوي على تداخل المصالح العليا للدولة مع رفض قطاعات من المجتمع، في واقع يعكس التحولات السياسية والجيوستراتيجية التي تمر بها المنطقة. فالرباط، بموقعها الاستراتيجي ودورها المحوري في شمال إفريقيا، لم تغب يوما عن المشهد الدولي كطرف يسعى إلى ترسيخ السلام والاستقرار، وظلت دائمًا في طليعة صف السلام، وهو ما عبر عنه جلالة الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة، مؤكدا التزام المغرب بقضايا السلام العادل، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
إن الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لم يكن تراجعا عن المواقف الثابتة للمملكة، بل خطوة استراتيجية تهدف إلى خلق توازن جديد يمكن المغرب من لعب دور الوسيط الفاعل في محيط إقليمي ملتهب، مع تأكيده الدائم على دعم الشعب الفلسطيني لاسترجاع حقوقه المشروعة، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وفق حل الدولتين المعتمد دوليًا.
من هذا المنطلق، لا يمكن إغفال الدور الهام الذي يمكن أن يلعبه اليهود المغاربة المتواجدون في إسرائيل في دعم مسار السلام، لا سيما أن العديد منهم يتبوؤون مناصب مؤثرة في مؤسسات سياسية واقتصادية وإعلامية داخل إسرائيل. هؤلاء مرتبطون وجدانيا وتاريخيا بأرض أجدادهم، ويحافظون على علاقة احترام عميق مع المغرب ومؤسساته، خصوصا بعد أن أقر دستور 2011 بمكانتهم كجزء من الهوية الوطنية الموحدة، وأحدث مؤسسة دستورية تعنى بحماية الموروث الثقافي اليهودي الذي يُغني الشخصية المغربية.
إن المطلوب اليوم هو أن يعمل مناصرو السلام، من فاعلين مدنيين وسياسيين ومثقفين، على تحويل اليهود المغاربة في إسرائيل إلى قوة سلام حقيقية، تدافع عن حق الفلسطينيين والإسرائيليين في التعايش بأمن وسلام، بدل تركهم فريسة للتيارات المتطرفة التي لا تؤمن إلا بالعنف والإبادة والاقتلاع، مما يزيد من معاناة الفلسطينيين، ويدفع المنطقة نحو مزيد من التوتر وعدم الاستقرار.
وعليه، فإن الواجب يحتّم على دعاة السلام فتح قنوات الحوار والنقاش مع اليهود المغاربة الذين يشكلون كتلة بشرية وازنة داخل إسرائيل، من أجل توجيههم نحو التشبع بثقافة السلام، والانضمام إلى جبهة السلام الإسرائيلية، باعتبار أن التعايش هو الخيار الوحيد لضمان مستقبل آمن ومستقر للمنطقة.
لذلك، فإن مجرد رفض العلاقة مع إسرائيل لن يكون كافيا ولا مجديا، ما لم يترافق مع استراتيجية تهدف إلى تفعيل دور اليهود المغاربة في إسرائيل كأدوات فاعلة في مسار بناء السلام. فالرافضون للعلاقات مدعوون اليوم إلى إعادة النظر في مقارباتهم، والانكباب على دعم جهود هؤلاء من أجل تمكين الفلسطينيين والإسرائيليين معا من حقهم في الحياة الكريمة.
إن تعزيز صوتهم ضمن مناصري السلام داخل إسرائيل وربطه بالموقف المغربي الداعم للسلام العادل، قد يساهم في تغيير موازين القوى لصالح حل شامل ودائم. فالواقع المؤلم الذي يعيشه الفلسطينيون، أمام ضعف موقف المجتمع الدولي، يفرض تبني مقاربات جديدة تقوم على الحوار والتفاهم والتأثير الإيجابي من الداخل، عوض الخطابات المتشنجة التي لا تنتج سوى الفراغ.
ويبقى دور المغرب محوريا، كجسر حضاري وإنساني بين الضفتين، يستند إلى رصيد تاريخي وثقافي وروحي عميق. وعلى جميع الفاعلين، سواء داخل المغرب أو خارجه، أن يساهموا في بناء ديناميات جديدة تجعل من العلاقات المغربية-الإسرائيلية فرصة لتعزيز جهود السلام، بعيدا عن خطابات الرفض العقيم أو الاصطفاف مع التطرف.
في الختام، يظل التحدي الأكبر هو كيفية جعل اليهود المغاربة في إسرائيل قادة ومحركين للسلام، لا أدوات في يد دعاة التطرف والعنف. وهو تحدّ يستدعي تضافر جهود الدولة والمجتمع المدني، ونخب الفكر والسياسة والدين، من أجل تحقيق هذا الهدف الوطني والإنساني، بما يخدم مستقبلا يسوده الأمن والاستقرار في منطقة أنهكتها النزاعات، وتحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى أصوات عقلانية تؤمن بالتعايش وحق الشعوب في تقرير مصيرها، في ظل احترام القانون الدولي، وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني الذي ما زال يناضل من أجل استرجاع حقوقه المشروعة.
إن تحويل الجالية اليهودية المغربية في إسرائيل إلى قوة فاعلة من أجل السلام ليس فقط خيارا استراتيجيا للمغرب، بل واجب أخلاقي وتاريخي، يعكس عمق العلاقة المتجذرة بين هذه الجالية وبلدها الأصلي، ويجسد فلسفة المغرب المتفردة في إدارة علاقاته الخارجية بمقاربة حضارية وإنسانية، لا تنساق خلف ردود الفعل الانفعالية، بل تبحث عن الحلول الواقعية والمستدامة.
د مصطفى عنترة، كاتب صحفي.
د مصطفى عنترة، كاتب صحفي.