الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

يحيى عمران: بويا عمر.. خدش في وجه الدولة المغربية الحديثة

يحيى عمران: بويا عمر.. خدش في وجه الدولة المغربية الحديثة

في عملية التقصي والبحث في سلم الترقي والتطور التي مرت منها الدولة المتقدمة الآن لتحصل على شهادة الدول الحديثة، سيتوقف المتابع على جملة من المشاريع الإصلاحية والخطط البنائية للعقل والنفس قبل التركيز على الحجر.

ومن بين أهم العوامل المميزة للدولة الحديثة تخليص معتقدات الإنسان بما هو كائن عاقل متطور من شوائب الخرافة وحلقات السحر والبركة.

وهي الخطوة التي استثمرتها أوروبا بعد عصور الانحطاط للقفز من جديد على أعتاب العالم الجديد بمختلف مستوياته العلمية والاقتصادية والاجتماعية والطبية والثقافية.. وخصوصا في ثقافتهم الوطنية المقننة بما هو واقعي ومنطقي، تسمح لها بالتطور والحركة والدينامية، والقدرة على الانخراط في موجة المستجد وكفاءة التحول إلى صيغ عصرية حديثة.

في هذا البلد، الذي ينشد التطور والتميز بين أقرانه من الدول العربية والعالم المتخلف، ثمة سلة مظاهر العار والتخلف والندوب على وجه دولتنا المغربية الحديثة التي نتشدق بها أمام أقراننا بحداثتها المعطوبة وتقدمها الموهوم.

بويا عمر.. الولي الصالح، والضريح  الذي اشتهر منذ القرن 16 بـ "علاج" المرضى الذين يعانون من اضطرابات عقلية ونفسية، يزوره حوالي 30 ألف شخص في السنة منهم 15 ألفا خلال عيد المولد النبوي.

غوانتانامو المغرب، مزار روحي يحج إليه آلاف المرضى النفسيين والعقليين من كل فج عميق، بعد أن يتم رفضهم من لدن الأسرة والمستشفى والشارع، وبعد أن عاشوا اختلالات نفسية وعقلية عجز أمامها الطبيب النفسي في نظر أسر هؤلاء المرضى، ما يقتضي معه  اللجوء إلى سد حاجة الخرافة وضرورة الشعوذة  لفك طلاسم هذا البلاء وفتح مغالقه المحكمة وكشف النقاب عن مجاهله الخطيرة..

فبويا عمر الموجود بضواحي إقليم السراغنة، هو المآل والسبيل إلى الخلاص من كل الهموم والمشاكل بالنسبة لهؤلاء الأسر.

فهو الولي المعالج المخلص من الأمراض والمتحكم في الجن والملائكة على السواء، كما أنه يشكل محركا اقتصاديا استراتيجيا لأمواج من الرافضين والمنددين لمبادرة الكرامة اليوم.

والجدير بالذكر، أن وزارة الصحة أجرت دراسة خلال هذه السنة توصلت من خلالها إلى مجموعة من الحقائق. وخلصت الدراسة أن الضريح يتقاضى في المعدل 786 درهم شهريا كمصاريف للإيواء، لتناهز تكلفة الإيواء السنوية التي يدفعها مجموع النزلاء حوالي 8 ملايين درهم (750 ألف يورو)، حيث صار "المريض العقلي هو محرك الاقتصاد المحلي".

وحسب الدراسة التي أنجزت ميدانيا بمشاركة 20 طبيبا نفساني، ومقابلات مع مختلف المتدخلين، فإن أكثر من 60% من النزلاء تتراوح أعمارهم ما بين 30 و49 سنة، ويشكل الرجال 97% منهم. كما أن 12% منهم أميون و5% لديهم مستوى جامعي.

إن المبادرة التي أقدمت عليها وزارة الصحة تحت يافطة "مبادرة كرامة" لتنقيل أفواج المرضى النزلاء المقيمين بالولي منذ سنين وشهور، أو حتى أيام وساعات، والتي قوبلت باحتجاجات غاضبة لبعض أهالي المرضى النزلاء إلى مستشفيات المدن التي ينحدرون منها تحت إشراف الكاتب العام لوزارة الصحة وبتنسيق مع الأطباء والممرضين المختصين بمجال الطب النفسي، وتحويل البعض منهم إلى مستشفى الطب النفسي ببرشيد، هي مبادرة نستحسنها ونزكيها ونثني عليها، وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه منسق الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة محمد الناصري بناني، ولكن بنوع من الامتعاض، حينما أكد، وفق مصادر صحفية ورقية، على أن الوزارة الوصية تأخرت كثيرا في القيام بهذا الإجراء.

وبالحديث عن مزار "بويا عمر"، فالأمر يستدعي منا فتح الباب على مصراعيه أمام ملف قطاع الصحة النفسية والطب النفسي خصوصا، الذي يشهد نزيفا على مستويات متنوعة، سواء من حيث الموارد البشرية، وأعدادها المعدودة على الأصابع، أو على صعيد المراكز الاستشفائية المحدودة والطاقات الاستيعابية المنعدمة عبر أرجاء المملكة، أم على مستوى أدوية الطب النفسي والتغذية..

اليوم تتعاظم الأزمات النفسية والعقلية في زمن التوترات العصبية الناتجة عن نمط العيش السريع وهيمنة موجة الفردانية وسرعة الحياة وتحولاتها وانزلاقاتها وزئبقيتها الصارخة.

في أوروبا تم الانتباه، ولو بشكل جزئي، إلى هذه التحولات النفسية والعقلية في نمط عيش الأوربي، ليتم الدفع في اتجاه فتح المجال للتكوين والتأطير وتفريخ الأطر للتصدي لما يمكن أن تنتجه هذه التحولات القيمية والفكرية من كوارث وتشظيات وانشطارات نفسية وعقلية.

إذ ثمة هناك في أوروبا أطباء نفسانيون في مختلف المؤسسات التربوية والعسكرية والأمنية بالنظر إلى أهمية هذا الملف في حياة المواطن الأوروبي. في مقابل تقاعس وتماطل وزارة الصحة المغربية في التنقيب في مجاهل الملف وأغواره وتضاريسه المهترئة. لذلك أريد لبويا عمر أن يكون انتصارا للخرافة على العلم بفعل سياسات حكومية متعاقبة وممنهجة للهروب نحو الأمام.

فصل القول، إن المطلوب في هذا الوضع هو ترسيخ هذا الاختيار والتوجه، أي توجه الإرادة السياسية للقطع مع الخرافة واستبدالها بالتفكير العلمي السليم المسنود بتوفير الشروط المادية واللوجيستسكية والتقنية والضمانات القانونية والاجتماعية للحيلولة دون الرجوع إلى الصفر، إلى فشل المبادرة، وإطلاق المرضى والتخلص منهم في الشوارع والساحات العمومية، وبث الإرهاب النفسي في مختلف مناحي حياة المغاربة.

فحذار  من استغلال الخطاب الشعبوي في مقابل تغييب لنظام صحي واضح المعالم.