السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: كوبا وإيران، نهاية ثورتين

دلال البزري: كوبا وإيران، نهاية ثورتين

أراد باراك أوباما، قبل عامين من نهاية ولايته الثانية، أن يكون جديراً بجائزة نوبل للسلام التي نالها في بداية عهده، منذ ست سنوات. فكان قراره بتطبيع علاقات بلاده مع أقدم عدوين لها، كوبا وإيران. ولئن كانت الثورة الاشتراكية الشيوعية الكوبية قد حصلت عام 1959، والثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، فإن تلازم التطبيع الأميركي مع البلدين يعطي للثانية، أي إيران، عشرين عاماً من السماح، قياساً لكوبا المتأخرة عنها؛ إذ تعرضت كوبا للعقوبات الاقتصادية بدءاً من العام 1962، فيما إيران بدأت العقوبات تنهال عليها في نهاية العام الأول من ثورتها، 1979. وقد عرفت كوبا بثورتها المسلحة، وعلّمت شباب العالم الثالث طرق وفنون حرب العصابات، وكان لها صدى قوي عندنا، مع المقاومة الفلسطينية، وصعود مقولة حرب التحرير الشعبية وتبني عاطفي لبطلها الأيقونة، تشي غيفارا، المعروف باشتراكه في الثورة الكوبية، والتحاقه بعد انتصارها بصفوف حرب العصابات في أدغال بوليفيا... وكلها أدبيات ازدهرت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكان لكاسترو فيها، بطل الثورة الكوبية وحاكم كوبا الجديد، كل المجد والكاريزما وسط ثوريي تلك الحقبة. وفي نهاية تلك السبعينات، الثورة الإسلامية الإيرانية لم تكن ترنو إلى أقل من ذلك: المستضعفين، فلسطين، المعادين للامبريالية والصهيونية... كلهم جمعتهم إيران تحت مظلتها، فوجدوا فيها ضالتهم، بعدما استنفدت حركات التحرر العلمانية اليسارية والناصرية مخزونها، وتلاشت وثْبتها.

كوبا، في سياق ثورتها لعبت دوراً يشبه دور القوة العظمى التحتية: تدعم وتدرب وتحتضن حركات التحرر في العالم، تتدخل في أنغولا الأفريقية عام 1975، لإنقاذ الحكومة الماركسية المهددة؛ وذلك بناء على طلب من موسكو، التي تسبّبت لها بالقطيعة مع الولايات المتحدة، بعدما ارتمت في أحضانها. إيران طموحاتها أكبر: نووي، وجماعات مسلحة موالية لها داخل البلدان العربية، وعراقة إمبراطورية تتفاخر بها... ما يجعلها بعيدة شيئا ما عن كوبا من هذه الناحية. ولكنها تعود وتتقاسم معها قدراً من نظامها السياسي: الكوبي علماني وربما إلحادي، دفع الكوبيين إلى الكنائس، والثاني ديني عقيدي متشدد، نفّر الإيرانيين من رجال الدين قبل الدين. وفوق هذه القشرة الإيديولوجية المتباينة، ممارسات واحدة في القمع والسجن والملاحقة والقتل، لا نعرف بالضبط من تفوق على الآخر بشراسته. والمؤكد أن مسألة حقوق الإنسان في كلاهما مطروحة بقوة بين الناس، ولكنها ليست بنداً مندرجاً في مفاوضات التقارب بينهما وبين الولايات المتحدة. فالمشترك بين شعبيهما أن الاثنين، الإيراني والكوبي، يحلمان بهذا التقارب؛ يتشوّقان للانفتاح على المجتمع الاستهلاكي، على فتح الأبواب المالية والتجارية والاستثمارية، على الأسواق الحرة، على الخروج والدخول من البلاد بحرية، على تصريف الأموال في كل بنوك العالم... فيما المشترك بين النظامين الإيراني والكوبي أن هذا التطبيع للعلاقات مع أميركا سوف ينقذهما من مغبة المعاندة الإيديولوجية، والمكابرة الكارثية التي جوعت شعبيهما. الاتفاق مع الحكومتين سوف ينقذ النظامين. وهذا أمر مسبوق؛ فالخطوة التاريخية الجبارة التي اتخذها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، عام 1972، بخرق جدار الصين الشيوعية ومصافحة ماو تسي تونغ شخصياً، أدت إلى تكريس الحزب الشيوعي الصيني حاكما للصين. ولكن منزوعة عنه كل الادعاءات الفكرية السابقة، وكل الخطابة المعادية للأميركيين، تمهيداً للانكباب على الاقتصاد الرأسمالي المعولم المتوحش. جلّ ما سيخسره قادة كوبا وإيران، بعد التطبيع هو ذاك الرأسمال الرمزي الثمين، أي العداء لأميركا، مقابل فوزهم بجنّة الحكم الأبدي.

ولكن هناك فرقا بين كوبا وإيران: ففي حين تخلّت الأولى عن طموحاتها العالمثالثية التحررية، تتأرجح الثانية، من الآن وحتى 30 يونيو، موعد التوقيع على البنود النهائية للاتفاق مع أميركا، بين التشديد والتليين لموقفها منها. وخلف هذا الاضطراب، رهانها الفاشل على أن العرب سيبقون مكتوفي الأيدي أمام توغلاتها العربية. والعرب، بردّهم عليها في "عاصفة الحزم"، لم يتركوا لها مجالا صافيا للتصالح مع الشيطان الأكبر. من هنا تختلف إيران عن كوبا المتنعِّمة بالاستقرار، بأنها لم تحسب أنها تعيش فوق بركان غير نووي، وأنها في منطقة العنف السياسي بامتياز، وأنها تلعب بالنار، إذ تعتقد بأنها سوف تتصالح مع الشيطان الأكبر من دون أي ثمن، لا قنبلتها النووية، ولا الشعوب العربية التي قسمتها واعتقدت أنها بذلك ورقة رابحة في تقاربها مع أميركا.

وفي الحالتين، الكوبية والإيرانية، ومهما كانت النتائج الدقيقة للتطبيع مع أميركا، فإنهما تسجلان نهاية مطاف ثورتين أشعلتا الدنيا.

خاتمة الثورة الثانية، الإيرانية، تفوقت على الأولى، الكوبية، بعشرين عاماً. ربحت عشرين عاما من تجربتها. وهذا إنجاز الزمن المعاصر، السريع، الذي لا ينتظر "مراجعات" نظرية طويلة وعقيمة.