الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: إيران بين الطموحات النووية وأطماع الريادة الإقليمية

عبد القادر زاوي: إيران بين الطموحات النووية وأطماع الريادة الإقليمية

انطلقت مجددا المفاوضات بين إيران ومجموعة الدول الأعضاء الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا (5+1) حول البرنامج النووي الإيراني تنفيذا لآخر اتفاق بين الطرفين يقضي بتمديد مهلة التفاوض إلى نهاية شهر يونيو 2015. وقد جاء هذا التمديد بالتراضي العام لتفادي إعلان الفشل، خصوصا وأن كلا من طهران والعواصم المعنية وبصفة خاصة واشنطن مقتنعة بأن الأشواط التي قطعت جيدة، وتمس جوهر البرنامج، ولا يمكن التفريط فيها.

أكثر من ذلك، يعتقد الطرفان أن النقاط التي تم التفاهم حولها جوهرية وواعدة وتستحق أن تمنح فرصة إضافية يمكن العمل خلالها على إرساء المزيد من أسس الثقة والشفافية بينهما، أملا في تذليل العقبات المتبقية في طريق الوصول إلى المبتغى المتمثل في منع إيران من تطوير أسلحة نووية بما يطمئن الدول الغربية وحلفائها في المنطقة وبصفة خاصة إسرائيل ودول الخليج، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية عن طهران وتطبيع العلاقات معها، والسماح لها باستخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية.

وفي معلومات مستقاة من مصادر روسية مشاركة في المفاوضات، فإن المسائل العالقة بين الطرفين ليست كلها تقنية صرفة. يعزز ذلك ما تداولته أوساط إسرائيلية رسمية عن أن 80% من الخلافات حول مكونات البرنامج النووي الإيراني قد وجدت حلا لها بما في ذلك القدرة على تخصيب اليورانيوم عبر السماح لطهران بالحفاظ على عدد كبير من أجهزة الطرد المركزي يفوق الستة آلاف، والوصول إلى نسبة تخصيب في حدود 20% على حد قول أفرايم كام مدير معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي.

ولم يفوت المسؤول الإسرائيلي المذكور المناسبة ليشير إلى أن هذا العدد الكبير من أجهزة الطرد المركزي بإمكانه أن يتيح لإيران الوصول إلى العتبة النووية في ظرف أشهر معدودة متى ما اتخذت القيادة السياسية في طهران قرار تصنيع القنبلة، تماما كما هو الشأن بالنسبة لكل من ألمانيا واليابان.

وأضاف بأن المواضيع المتبقية هامشية للغاية أبرزها مدة الاتفاق التي تصر واشنطن على أن تكون 20 سنة ، فيما تلح طهران على ألا تتجاوز 5 سنوات تتم بعدها إزالة القيود على البرنامج النووي في صيغته السلمية على أن يظل خاضعا لرقابة وتفتيش شفافين من طرف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي ستتعهد إيران بالتجاوب مع طلباتها بشكل كامل.

مصادر خليجية مطلعة أكدت هي الأخرى على أن المسائل التقنية العالقة في البرنامج النووي الإيراني باتت ضئيلة جدا، مشيرة بقلق إلى:

- تجاهل الإدارة الأمريكية لهواجس دول الخليج الرافضة لمبدأ التخصيب داخل إيران، والمحذرة من عواقب بيئية سلبية لمفاعلات إيران المقامة على مياه الخليج التي تشكل تحليتها مصدرا رئيسيا لتزود هذه الدول بالمياه الصالحة للاستعمال، ومن قدرة إيران على إخفاء نواياها، مذكرة واشنطن والغرب بأنه لولا منظمة مجاهدي خلق لما اكتشف العالم سنة 2002 بأن إيران تقوم سرا ببناء مصنع لتخصيب اليورانيوم في منطقة ناطانز وبناء مفاعل نووي آخر في آراك.

- احتمال أن يتم التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق في نهاية مارس 2015، والتوقيع النهائي في نهاية مدة التمديد (30 يونيو2015).

إن هذا اليقين المشترك خليجيا وإسرائيليا يجد سندا له في الدعوة التي وجهها رئيس مجلس النواب الأمريكي جون بوينر إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للحديث أمام الكونغرس بمجلسيه حول أسباب معارضة إسرائيل للاتفاق النووي المرتقب بين إيران ومجموعة (5+1) دون التنسيق مع البيت الأبيض، كما تقتضي الأعراف الدستورية الأمريكية.

وبديهي أمام تحدي كهذا أن يعتبر الرئيس باراك أوباما الدعوة ليس فقط دعما لنتنياهو في حملته لانتخابات الكنيست المزمع إجراؤها في 17 مارس، وإنما أيضا فرصة لتقوية المعارضين للتسوية المحتملة مع إيران من أعضاء الكونغرس لنسف هذه التسوية أو دفع الإدارة الأمريكية إلى المزيد من التشدد في المفاوضات خاصة في الشق المرتبط بالجدول التزامني لتنفيذ الاتفاق وبالتطورات الداخلية الإيرانية، وتلك الإقليمية الجارية أطوارها في الشرق الأوسط حيث تتصادم مواقف الطرفين الأمريكي والإيراني في أكثر من ساحة، ولكنها تلتقي في بعض آخر منها.

- فيما يتعلق بالجدول التزامني يدرك الجانب الأمريكي مدى حيويته للجانب الإيراني الذي يبدو حريصا على ضرورة التخلص من العقوبات والمرور إلى التطبيع الكامل للعلاقات فور توقيع الاتفاق، وذلك لاعتبارات داخلية، لأن الرئيس حسن روحاني وفريقه التفاوضي لا يمكنهما تسويق الاتفاق شعبيا مع بقاء سيف العقوبات فوق رقابهم، لاسيما وأن صقور الحرس الثوري ينتظرون أي هفوة منهم لنسف أطروحتهم بالكامل.

والواضح أن شعور الرئيس روحاني بثقل ضغوط صقور الحرس الثوري هو الذي يدفعه إلى قطع الطريق عليهم باستغلال أي مناسبة تتاح له لتجديد تساؤله عن أسباب ما يسميه المعاملة التمييزية السلبية والقاسية حسب رأيه التي تخضع لها إيران رغم أنها أبدت حسن نيتها نوويا بالانضمام إلى كافة معاهدات حظر الأسلحة النووية والكيماوية عكس إسرائيل، وحتى مصر بالنسبة للسلاح الكيماوي.

والواضح أن ضغوط صقور الحرس الثوري بدأت تؤتي أكلها. هذا ما يمكن أن يستشف من التصريحات الأخيرة للإمام علي الخامنئي، الذي أعلن أنه يفضل عدم التوصل إلى اتفاق من التوصل إلى اتفاق سيء يتعارض مع مصالح الأمة الإيرانية، مستبقا أي تهديد غربي بتشديد العقوبات بالتأكيد على أن طهران لن ترضخ، وتملك وسائل عديدة للتخفيف من وطأة العقوبات إذا فشل المفاوضون الإيرانيون في رفعها.

وخلافا لذلك، فإن الإدارة الأمريكية تلح على أن تكون هنالك مهلة زمنية بين التوقيع والتطبيع لاختبار النوايا الإيرانية من جهة ولتسهيل تمرير اتفاق كهذا أمام الكونغرس من جهة أخرى، خاصة وأن هذا الأخير بات تحت سيطرة الجمهوريين المعروفين بالعداء الشديد لإيران المتأهبين لتشديد العقوبات عليها في أقرب فرصة ممكنة تناغما مع الرغبات الإسرائيلية وإحراجا للرئيس باراك أوباما، الذي هدد باستخدام سلطاته الدستورية لوقف العقوبات المشددة إن اتخذت.

ومن المرجح أن في هذا المعطى الأخير يمكن أن نجد تفسيرا لإصرار وزير الخارجية الأمريكي جون كيري على أن واشنطن ترفض أي تمديد جديد لمهلة التفاوض ما لم يتم التوصل إلى اتفاق إطار واضح على الأقل قبل 31 مارس 2015، وذلك خلال لقائه مع نظيره الإيراني مؤخرا على هامش مؤتمر الأمن العالمي في ميونيخ.

- أما ضغط التطورات الداخلية الإيرانية على المفاوضات فيبدو جليا من خلال الخرجة الإعلامية الأخيرة لمرشد الثورة، التي تعكس قلقا من تضاعف التأثيرات السلبية للعقوبات النوعية المفروضة على طهران؛ وهي عقوبات أضرت كثيرا بمعاملات إيران المالية والمصرفية، وخاصة بصادراتها النفطية التي تفاقمت معاناتها نتيجة التدهور الكبير في أسعار النفط في السوق الدولية، علما بأن مداخيل النفط تمثل أزيد من 70% من مداخيل الميزانية الإيرانية.

ولذلك لم يكن مستغربا أن تصدر تحذيرات شديدة اللهجة من طهران ضد ما أسمته التلاعب المقصود بأسعار النفط، لاسيما وأن الحكومة الإيرانية أقرت ميزانية سنة 2015 على أساس سعر 75 دولار لبرميل النفط الواحد حتى تتمكن من الحفاظ على توازناتها المالية وتأمين تمويل المشاريع التنموية وتقديم المزيد من الخدمات الاجتماعية للشعب وتطوير الاستثمارات الخارجية ماليا وسياسيا أيضا من خلال مواصلة تمويل القوى الإقليمية المساندة لها في مواجهة التحديات التي تتعاظم أمامها. ولاشك أن أسعارا دون الخمسين دولار للبرميل ستكون مرهقة جدا للمالية العامة الإيرانية ستدفعها حتما للمزيد من التقشف في برامجها الداخلية وطموحاتها وأطماعها الخارجية.

- وغير خاف في هذا المجال أن إيران تبذل مجهودا ماليا وعسكريا ضخما من دون أن يتراءى لها بصيص أمل في نهاية الأفق بنجاح ولو نسبي لمشروعها الهيمني. نعم لقد تمكنت طهران من أن توسع دائرة نفوذها في اليمن بعد استيلاء الحوثيين على السلطة وتسييرهم للمشهد السياسي هناك، كما أنها أصبحت حليفا موضوعيا وميدانيا للولايات المتحدة الأمريكية في محاربة داعش، ولكن كلفة هذه الإنجازات إن صحت تسميتها كذلك كبيرة.

1/ رغم استثماراتها الضخمة في حلفائها السياسيين والميليشيات الشيعية بالعراق، لم يعد لإيران اليد الطولى في الأوضاع هناك، حيث حرمها تمدد داعش بين شرق سوريا وغرب العراق من التواصل الترابي مع حليفها النظام السوري، وحيث تتسارع العودة الأمريكية بقوة إلى الساحة العراقية بطلب ومباركة هذه المرة من كافة القوى السياسية العراقية بمن فيهم حلفاء طهران، وكافة القوى الإقليمية الأخرى بشكل يمثل اعترافا من الجميع بأن واشنطن وحدها القادرة على تعبئة العالم ضد داعش وهزمها.

وإزاء تطور كهذا لم يعد بوسع رئيس مجلس الشورى الإيراني السيد علي لاريجاني أن يتبجح بأن من يساعد في إخراج العراق من حالة التفكك أصحاب النفوذ فيه وهم حسب رأيه الإيرانيون والأمريكان. فها هي الدول الإقليمية السنية التي سعت طهران لطردها من العراق أو على الأقل تحجيم نفوذها، وخاصة السعودية وتركيا تثبت ولو من خلف الستار قدرتها على منع إيران من الاستئثار بالقرار العراقي وتوظيفه كما تشاء.

2/ نفس الشيء بالنسبة لنزولها بكل ثقلها في دعم النظام السوري الذي يمثل العمود الفقري لمشروعها السياسي بالمنطقة على أساس ما نقل عن الإمام علي خامنئي بقوله إما أن تظل سوريا كما كانت أو لن تكون لأحد. فمع طول مدة الحرب الأهلية السورية لم تعد طهران تخفي الإرهاق المالي والسياسي الذي يسببه لها هذا الدعم اللامشروط، خاصة وأن مستقبل نظام بشار الأسد حتى في الحلول السياسية المقترحة يتميز بعدم اليقين، ما يجعل كل القضايا ذات الصلة بالصراع في سوريا مرشحة للتمديد والتأجيل وتواصل عدم الاستقرار الضاغط ماديا وماليا على إيران.

وفي المعلومات الواردة من لبنان، فإن تهاوي قيمة الليرة السورية من 175 ليرة للدولار الواحد إلى 230 ليرة في أقل من أسبوع مطلع شهر فبراير الجاري مرده ليس فقط إلى انهيار مقومات الاقتصاد السوري الصناعية والزراعية والسياحية، وإنما إلى رفض طهران مؤخرا تجديد خط ائتماني لتزويد حكومة دمشق بالوقود. 

كل ما سبق لا يعني أن إيران ستتوقف عن استغلال أوراقها الإقليمية في مفاوضاتها النووية. وهذا ما يتضح من إعادة تسخين الساحة البحرينية، ومباركة التمدد الحوثي في اليمن، وسرعة ثأر حزب الله لمقاتليه الذين اغتالتهم إسرائيل صحبة ضابط إيراني كبير في الجولان، زيادة على فتح جبهة عسكرية واسعة جنوب سوريا تمتد من درعا على حدود الأردن إلى القنيطرة في الجزء المحرر من الجولان بمحاذاة مستوطنات إسرائيل في الهضبة المحتلة بشكل بدأت تنظر إليه تل أبيب بعين الشك والريبة، والمزيد من القلق والتأهب.

وفي هذا السياق من المستبعد أن تقبل طهران بالتخلي عن الغموض في الجانب العسكري من برنامجها النووي إلا بالاعتراف بها كدولة محورية قوية وذات كلمة مسموعة في شؤون منطقة الشرق الأوسط. ولذلك، رغم النوايا الطيبة التي يوزعها الرئيس روحاني ووزير خارجيته، فإن سياسات إيران في العالم العربي ستظل تحت سيطرة صقور الحرس الثوري باعتبارها ورقة أخرى لدغدغة العواطف القومية لدى الشعب الإيراني إذا ما سحبت ورقة الملف النووي الذي تقدمه طهران كنوع من الكبرياء القومي الذي استغلته جيدا في امتصاص الغضب الشعبي من الأوضاع المعيشية الصعبة وفي التغطية على القصور الذي شاب سياسات رجال الدين منذ استيلائهم على السلطة.

ولا شك أن إيران لن تفرط بسهولة في هذا الدور التعبوي لعامل امتلاك التكنولوجيا النووية، ولن تتنازل عنه إلا بثمن باهظ. ولعل هذا ما يفسر توقعات نائب القائد العام للحرس الثوري العميد حسن سلامي بحدوث مواجهة عالمية ضد إيران، المستعدة حسب رأيه لتدمير حاملات الطائرات الأمريكية المرابطة في الخليج حال نشوب الحرب.

إن مثل هذه التصريحات وبالحدة التي تقال بها تولد الانطباع بأن إيران قوية بشكل يفرض على الغرب التفاوض معها، ولكن إصرار رئيسها بدعم من المرشد الأعلى على مواصلة التفاوض وإعطاء الدبلوماسية وقتها يشي بوجود نقاط ضعف تفرض حاجة طهران إلى المفاوضات وقبول مبدأ تقديم التنازلات.

وبما أن إسرائيل هي الأكثر تحركا لإجهاض أي اتفاق محتمل بين إيران والغرب، فمن المرجح أن إسكات اعتراضاتها يتطلب تنازلات جمة لصالحها. وبتشريح كل المعطيات الصادرة من إسرائيل سياسيا وأكاديميا يمكن القول بأن تل أبيب لن تقبل بأقل من سحب أي تهديد محتمل ولو من بعيد لأراضيها من طرف حزب الله في شمالها بضمانات ترابية في منطقة شبعا وجنوب سوريا، ومن حركة حماس انطلاقا من قطاع غزة، خصوصا بعد أن أثبتت الأحداث مؤخرا عودة نوع من الدفء إلى علاقات إيران مع قيادة حماس.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن طهران لحد الساعة ترى في إسرائيل سرطانا في المنطقة ينبغي استئصاله، وأن القضية الفلسطينية من ثوابت سياستها الإقليمية التي لا تستطيع التخلي عنها خشية فقدان مصداقيتها المتضررة كثيرا من اصطفافها إلى جانب النظام السوري بدوافع مذهبية، وضياع ما تبقى لها من تعاطف شعبي واسع في العديد من الدول العربية، يتضح حجم الإشكالية التي تواجهها طهران من أجل الوصول إلى اتفاق مع الغرب بشأن برنامجها النووي.

فهل ستسعفها نظرية التقية في تبرير ما لا يبرر؟ إن غدا لناظره قريب.