الثلاثاء 30 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

عبدالواحد غيات: جيوسياسة الغذاء في زمن الحروب.. أوكرانيا وكشف الاختلالات البنيوية للنظام الغذائي العالمي

عبدالواحد غيات:  جيوسياسة الغذاء في زمن الحروب.. أوكرانيا وكشف الاختلالات البنيوية للنظام الغذائي العالمي عبدالواحد غيات
 ملخص:

تتناول هذه الدراسة دور الأمن الغذائي كعنصر بنيوي في معادلات القوة والاستقرار الدوليين، متخذة من الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها المستمرة حتى عام 2025 حالة للدراسة. يحلل البحث كيف تحول الغذاء من قضية تنموية إلى أداة جيوسياسية صريحة، وكيف كشفت الأزمة عن هشاشة سلاسل التوريد المعولمة والاختلالات البنيوية في النظام الغذائي العالمي. عبر استعراض المقاربات الواقعية، ومفهوم "الأمننة"، ونظريات الاقتصاد السياسي الدولي، يجادل البحث بأن الأزمة الراهنة ليست مجرد نتيجة لنقص المحاصيل، بل هي نتاج لـ "تسليع الغذاء" واحتكار القوى الكبرى والشركات العابرة للقارات لهياكل الإنتاج والتوزيع. تخلص الدراسة إلى ضرورة الانتقال نحو حوكمة دولية أكثر عدالة تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة لمواجهة "الأزمات المركبة" التي يفرضها تداخل النزاعات المسلحة مع التغيرات المناخية.

 

 

مقدمة

أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022 تشكيل أولويات الأجندة الدولية، ليس فقط من خلال تداعياته العسكرية والاستراتيجية، بل أيضاً عبر آثاره الاقتصادية والإنسانية العابرة للحدود. فإلى جانب إعادة إحياء الصراع الجيوسياسي عالي الكثافة في أوروبا، أطلقت الحرب ديناميات جديدة من عدم الاستقرار العالمي، كان من أبرزها تفجّر أزمة غذائية ذات أبعاد غير مسبوقة. وقد كشفت هذه الأزمة عن هشاشة النظام الغذائي العالمي وعن الدور المتزايد للغذاء كعامل بنيوي في معادلات الأمن والاستقرار الدوليين.

لقد أظهرت التطورات المتسارعة في أسواق الحبوب، ولا سيما الارتفاع الحاد في أسعار القمح وتعطّل سلاسل التوريد، أن الغذاء لم يعد مجرد مسألة إنسانية أو تنموية، بل بات عنصراً مركزياً في التفاعلات الدولية ومجالاً للصراع السياسي والاقتصادي. ومن هذا المنطلق، يهدف هذا البحث إلى تحليل الأزمة الغذائية الناتجة عن الحرب في أوكرانيا من منظور العلاقات الدولية، من خلال ربطها بالتحولات النظرية والهيكلية التي أعادت تعريف مفهوم الأمن الغذائي في النظام العالمي المعاصر.

 

إشكالية البحث

ينطلق هذا البحث من الإشكالية التالية: إلى أي حدّ كشفت الحرب في أوكرانيا عن الطابع الجيوسياسي للأمن الغذائي، وعن الاختلالات البنيوية العميقة في النظام الغذائي العالمي، وكيف يمكن فهم هذه الأزمة في ضوء مقاربات العلاقات الدولية المختلفة؟

وتتفرع عن هذه الإشكالية الأسئلة الآتية:

  • كيف تحوّل الغذاء إلى أداة من أدوات القوة في العلاقات الدولية؟
  • ما حدود المقاربة الواقعية في تفسير الأزمات الغذائية؟
  • كيف تسهم مقاربات الأمن الإنساني والاقتصاد السياسي الدولي في فهم أعمق لانعدام الأمن الغذائي العالمي؟

 

أولاً: الحرب في أوكرانيا والأمن الغذائي كقضية جيوسياسية

لم تكن الحرب في أوكرانيا مجرد صراع إقليمي عابر، بل مثلت "زلزالاً جيوسياسياً" ضرب أسس الأمن الغذائي العالمي، محولةً الجغرافيا الزراعية إلى جغرافيا سياسية بامتياز. فباعتبار أوكرانيا وروسيا "سلة خبز العالم" بإنتاج يصل إلى 10% من القمح و15% من الذرة عالمياً، تحولت السيطرة على الموانئ الحيوية مثل ميناء "أوديسا" من هدف عسكري إلى ممارسة صريحة لـ "سلطة الغذاء" (Food Power). هذا الواقع أعاد التأكيد على أن الغذاء مورد استراتيجي يؤثر مباشرة في معادلات الأمن والاستقرار الدوليين، مما جعل مئات الملايين من البشر رهينة لإرادات سياسية متصارعة في قلب أوروبا.  ومع تحول الغذاء إلى أداة ضغط سياسي، برزت إلى السطح معضلة أخرى تتعلق بطبيعة النظام التجاري العالمي الذي تأسس على فرضية التدفق الحر للسلع.

ومع دخول الصراع عامه الثالث في 2025، لم تعد الأزمة مجرد "انقطاع مفاجئ" في سلاسل التوريد، بل تحولت إلى "اختلال هيكلي مزمن". فقد أدى انهيار "مبادرة حوض البحر الأسود لنقل الحبوب" إلى ترسيخ واقع جديد يعتمد على مسارات بديلة أكثر كلفة، مثل الممرات النهرية والبرية عبر أوروبا. والأخطر من ذلك هو التحول البنيوي في الداخل الأوكراني؛ حيث تسببت العمليات العسكرية وتلغيم الأراضي الخصبة في تقليص المساحات المزروعة بالحبوب الاستراتيجية لصالح محاصيل أخرى، مما يعني أن العجز في المعروض العالمي لم يعد مرتبطاً فقط بالموانئ، بل بتآكل القدرة الإنتاجية لواحدة من أهم سلال الغذاء في العالم.

كشفت الأزمة عن المفارقة الخطيرة للاعتماد المتبادل في ظل العولمة؛ حيث وجدت الدول التي أفرطت في الاعتماد على سلاسل التوريد الطويلة نفسها فجأة رهينة لممرات مائية ضيقة مثل مضيقي البوسفور والدردنيل. إن إغلاق الموانئ الأوكرانية والقيود على الصادرات الروسية أطلقت صدمة عنيفة أدت لارتفاع أسعار القمح بنسبة تقارب 50% خلال أسابيع (240-450 دولار للطن)، مما أثبت هشاشة النظام الغذائي المعاصر. هذا الانكشاف الهيكلي يربط بشكل مباشر بين الأمن الغذائي والأمن القومي، إذ لم تعد المسألة تتعلق بالوفرة فحسب، بل بالقدرة على الوصول المادي والسياسي للموارد الحيوية.  بيد أن مخاطر هذا الانكشاف الهيكلي لم تتوقف عند حدود السلع النهائية، بل تجاوزتها لتمس الركائز التقنية لعملية الإنتاج ذاتها.

لم تقتصر تداعيات الحرب على تعطل إمدادات الحبوب، بل امتدت لتضرب "مدخلات الإنتاج" عبر أزمة الأسمدة العالمية، مما يثبت أن الأمن الغذائي بات عابراً للقارات. فمن خلال الارتفاع الجنوني في أسعار الغاز الطبيعي الروسي — المادة الأساسية لإنتاج الأمونيا — انتقلت الأزمة إلى دول بعيدة جغرافياً مثل البرازيل والهند. هذا الترابط العضوي بين الطاقة والزراعة خلق تهديداً بإنتاجية مستقبلية منخفضة، مما يعني أن الصدمة الحالية ليست آنية فقط، بل قد تمتد آثارها لسنوات قادمة نتيجة لتعثر دورات الإنتاج المرتبطة بتقلبات أسواق الطاقة.  وإذا كانت أزمة المدخلات والطاقة قد هددت سلاسل الإنتاج العالمية، فإن ارتداداتها الأكثر تدميراً قد تجسدت في المناطق التي تعاني أصلاً من ضعف بنيوي في أمنها القومي.

وضعت هذه التحولات المتسارعة الدول المستوردة الصافية، وتحديداً في الشرق الأوسط وإفريقيا، أمام تحديات اقتصادية واجتماعية حادة تلامس حدود الاستقرار السياسي الداخلي. فوفقاً لتحذيرات برنامج الأغذية العالمي، باتت ملايين الأنفس مهددة بالجوع الحاد نتيجة العجز عن تحمل تكاليف الاستيراد المرتفعة. إن هذه الأزمة المتفاقمة تؤكد أن انعدام الأمن الغذائي في مناطق النزاع أو الدول الهشة لم يعد قضية تنموية فحسب، بل هو فتيل محتمل لاضطرابات اجتماعية كبرى، مما يجعل من إصلاح النظام الغذائي العالمي ضرورة أمنية دولية ملحة لتجنب انهيارات سياسية واسعة النطاق.

 

ثانياً: المقاربة الواقعية والأمن الغذائي

تُقدم المقاربة الواقعية، ولا سيما الواقعية البنيوية كما صاغها كينيث والتز، 1924–2013) من أبرز علماء العلاقات الدولية في العصر الحديث)، إطاراً تفسيرياً يربط الأمن الغذائي بمسألة بقاء الدولة داخل نظام دولي يتسم بالفوضى وانعدام السلطة العليا. فوفقاً لهذا المنظور، لا يُعد الغذاء مجرد سلعة تجارية، بل هو "مورد سيادي" حيوي يحدد قدرة الدولة على الصمود؛ لذا تسعى الدول جاهدة لتقليص مواطن ضعفها البنيوية عبر تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية. إن تأمين الوصول إلى الموارد الحيوية، وعلى رأسها الغذاء، يقع في قلب الاستراتيجية الأمنية للدول، حيث يُنظر إلى الاعتماد على الخارج في تأمين القمح كنوع من "الانكشاف الاستراتيجي" الذي قد يهدد سيادة الدولة وقرارها المستقل.  ولا يقف هذا المنظور عند حدود التنظير الأكاديمي، بل يجد تجليه الأبرز في السلوكيات السياسية الراهنة التي حولت الموارد الحيوية إلى مخالب استراتيجية.

تُجسّد «حرب الحبوب» في حوض البحر الأسود منطق القوة الواقعي بوضوح تام، حيث تحوّل التحكم في الموانئ وطرق الملاحة وتدفقات الحبوب إلى وسيلة ضغط جيوسياسي تضاهي في تأثيرها القوة العسكرية. ففي ظل الحرب الأوكرانية، لم يعد الغذاء وسيلة للإطعام بل أداة للمساومة السياسية، حيث باتت القوى المتصارعة تستخدم "سلاح التجويع" لتحقيق مكاسب في موازين القوى. وبذلك، انتقل الغذاء من دائرة التعاون الاقتصادي إلى دائرة الصراع الاستراتيجي، ليصبح أداة قوة مشابهة للطاقة، مما يبرهن على أن الدول لا تتردد في استخدام الموارد الحيوية كأوراق ضغط لفرض إرادتها.

إن تحول الغذاء إلى أداة للمساومة لم يغير موازين القوى فحسب، بل أعاد كشف الوجه المظلم للاعتماد المتبادل الذي طالما روجت له النظريات الليبرالية كضمانة للاستقرار.  تكشف المقاربة الواقعية عن هذا الجانب؛ فالدول التي اعتقدت أن التجارة الحرة ستؤمن لها الغذاء وجدت نفسها في مواجهة معضلة أمنية حادة. من منظور واقعي، يُعتبر الاعتماد المفرط على سلال خبز خارجية عائقاً أمام تحقيق توازن القوى، إذ يمنح الدول المصدرة "سلطة هيكلية" تمكنها من التحكم في استقرار الدول المستوردة. هذا الواقع دفع العديد من القوى الإقليمية إلى إعادة التفكير في سياساتها عبر تبني استراتيجيات "الاكتفاء الذاتي"، ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل كضرورة أمنية لضمان عدم تعرض الجبهة الداخلية للاهتزاز نتيجة تقلبات موازين القوى.

ومع ذلك، فإن هذا التركيز الواقعي الصرف على الدولة وحسابات القوى يظل تفسيراً ناقصاً لجوهر الأزمة في أبعادها الأخلاقية. فعلى الرغم من قدرة المقاربة الواقعية على تفسير سلوك الدول، إلا أنها تظل قاصرة عن استيعاب التعقيدات العميقة للأزمات الغذائية، خاصة في أبعادها الإنسانية. فالواقعية تركز على "الدولة" كفاعل وحيد وتتجاهل معاناة "الأفراد" الذين يدفعون الثمن الأكبر. إن إهمال هذه المقاربة لمفاهيم مثل العدالة التوزيعية، والحق في الغذاء، والأمن الإنساني، يجعلها أداة تفسيرية للجوانب الصراعية فقط، دون تقديم حلول للفجوات الهيكلية التي تترك الملايين عرضة للجوع نتيجة حسابات الجيوسياسة الباردة.

 

ثالثاً: الأمننة والأمن الإنساني – توسيع مفهوم الأمن الغذائي

سعياً لتجاوز ضيق المقاربة الواقعية التي تحصر الأمن في البعد العسكري، برزت إسهامات مدرسة كوبنهاغن، وهي واحدة من أهم المدارس الفكرية في العلاقات الدولية، التي أعادت تعريف مفهوم "الأمن" في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وتحديداً باري بوزان وأولي ويفر، عبر مفهوم "الأمننة.  تشرح هذه المقاربة كيف يمكن لقطاعات غير عسكرية أن تتحول إلى قضايا أمنية حارقة من خلال "فعل خطابي" سياسي ناجح. في سياق الحرب الأوكرانية، جرى "أمننة" الأمن الغذائي بوصفه تهديداً وجودياً للاستقرار العالمي، مما سمح للدول باتخاذ إجراءات استثنائية مبررة ذلك بالحاجة لحماية "بقاء" المجتمع من صدمة الانهيار.  وإذا كانت الأمننة تشرح كيف تحول الغذاء إلى قضية سيادية عليا، فإنها تظل تركز على رد فعل الدولة، مما يفتح الباب أمام ضرورة إعادة تعريف الغاية من هذا الأمن من خلال عدسة الأمن الإنساني.

تمثل مقاربة الأمن الإنساني انعطاف جذريّ عبر نقل مرجعية الأمن من "حدود الدولة" إلى "حياة الفرد". ووفقاً لهذا المنظور، لا يُقاس الأمن الغذائي بقدرة الدولة على التخزين فحسب، بل بمدى قدرة الفرد على الوصول إلى غذاء كافٍ دون خوف. إن الحرب في أوكرانيا وضعت هذا المفهوم على المحك؛ فبينما تتصارع القوى العظمى، يركز الأمن الإنساني على "التحرر من الجوع" كحق أساسي. وبذلك، يصبح غياب الأمن الغذائي انتهاكاً للكرامة الإنسانية وفشلاً للحوكمة الدولية.  ولا يمكن فهم هذا التحول نحو الفرد دون استحضار الركائز المعرفية التي أرساها الاقتصادي" أماريتيا سن"،(1933، واحداً من أعظم الاقتصاديين والفلاسفة المعاصرين، ويُلقب بـ "ضمير الاقتصاد" بسبب تركيزه على الجوانب الأخلاقية والإنسانية في علم الاقتصاد). الذي فكك الأسطورة القائلة بأن الأزمات الغذائية هي نتاج لنقص الموارد المادية وحدها.

تؤكد رؤية أماريتيا سن أن الأزمات الغذائية لا تنتج بالضرورة عن نقص الإنتاج العالمي، بل عن اختلالات حادة في "منظومة الاستحقاقات". ففي أزمة 2022، تسببت الهياكل السياسية غير العادلة وارتفاع الأسعار في حرمان الفئات الأكثر هشاشة من حقهم في الوصول للغذاء المتوفر عالمياً. إن هذه الرؤية تعيد توجيه النقاش نحو التوزيع العادل والقدرة الشرائية، موضحة أن انعدام الأمن الغذائي هو نتاج لخلل في النظم الاجتماعية والسياسية وليس مجرد كارثة عسكرية محضة.

هذا الخلل الهيكلي في الوصول إلى الغذاء لا يقف عند حدود المعاناة الفردية، بل يتعداه ليكون المحرك الأساسي لزعزعة الأمن الجمعي.  حيث يربط التوسع في مفهوم الأمن الغذائي بين الجوع وبين اندلاع الأزمات السياسية الكبرى، ويُنظر إليه كـ "مضاعف للمخاطر". فالعجز عن تأمين الغذاء يؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات، مما يمهد الطريق للنزوح والاحتجاجات والعنف المسلح. إن الربط بين "خبز الشعوب" و"أمن الدول" يوضح أن الأمن الغذائي هو الركيزة الأساسية للسلم الاجتماعي، مما يجعل معالجة هذه الأزمة ضرورة ملحة للحفاظ على استقرار النظام العالمي بأكمله.

 

رابعاً: الاقتصاد السياسي الدولي والاختلالات البنيوية للنظام الغذائي العالمي

يوفّر الاقتصاد السياسي الدولي إطاراً تحليلياً ضرورياً لفهم الجذور العميقة لانعدام الأمن الغذائي العالمي، متجاوزاً التفسيرات السطحية التي تحصر الأزمة في مجرد نقص المحاصيل. فبالاستناد إلى أطروحات "سوزان سترينج"، 1998–1923) وتعد الشخصية الأكثر تأثيراً في تأسيس مجال الاقتصاد السياسي الدولي المعاصر).  نجد أن السلطة في النظام الدولي المعاصر لا تقتصر على القوة العسكرية، بل تمتد لتشمل السيطرة على الهياكل الأربعة الأساسية: "الإنتاج، والتمويل، والأمن، والمعرفة". وعند إسقاط هذه الرؤية على المجال الغذائي، يتضح أن الهيمنة تتركز في يد فاعلين يسيطرون على "هيكل الإنتاج والتجارة"، مما يجعل أمن الشعوب الغذائي رهينة لقرارات تُتخذ في مراكز القوى الاقتصادية بعيداً عن الاحتياجات الإنسانية المباشرة.

وتتجسد هذه الهيمنة الهيكلية التي أشارت إليها سترينج بشكل ملموس في الدور الذي تلعبه القوى الفاعلة غير الحكومية في الأسواق العالمية. حيث تتجلى الاختلالات البنيوية في سيطرة حفنة من الشركات متعددة الجنسيات، المعروفة بمجموعة [1]"ABCD"، على أكثر من 70% من تجارة الحبوب العالمية. هذه الهيمنة على "سلاسل القيمة" تمنح هذه الشركات سلطة هائلة في تحديد الأسعار وتوجيه مسارات التجارة. إن الحرب في أوكرانيا لم تخلق الأزمة من عدم، بل كشفت كيف أن تمركز القوة في يد هذه "المجموعة المحتكرة" يجعل النظام العالمي هشاً أمام أي صدمة سياسية؛ حيث تتحول هذه الشركات إلى فاعلين سياسيين غير رسميين يمتلكون القدرة على مفاقمة الأزمات أو تخفيفها بناءً على منطق الربح والمنافسة الجيوسياسية.

بيد أن هذه السيطرة الاحتكارية ليست سوى نتيجة لعملية أعمق تتعلق بطريقة تعريفنا للغذاء داخل المنظومة الرأسمالية العالمية.  وضمن هذا السياق، يمكن الاستعانة بتحليل كارل بولاني، 1964–1886) ويعد أحد أهم المفكرين في القرن العشرين الذين جمعوا بين الاقتصاد، وعلم الاجتماع، والتاريخ) حول مفهوم «السلع الوهمية» لفهم الجذور الفلسفية للأزمة؛ فبولاني يجادل بأن تحويل الغذاء إلى سلعة خاضعة كلياً لآليات السوق الحرة يؤدي إلى اختلالات عميقة. إن "تسليع الغذاء" يعني نزعه من سياقه كحق إنساني وتحويله إلى "أصل مالي" يخضع للمضاربات في البورصات العالمية. هذا التحول النيوليبرالي أدى إلى تعميق الفجوة بين دول الشمال ودول الجنوب، وزاد من تبعية الدول النامية الاستراتيجية للواردات، مما أضعف قدرتها على حماية مواطنيها من تقلبات الأسعار الفجائية.

هذا الواقع الذي شخّصه بولاني يقودنا بالضرورة إلى استنتاجات المقاربة النقدية التي ترى في النظام القائم أداة لإعادة إنتاج الهيمنة.  ختاماً، تدعو المقاربة النقدية لـ روبرت كوكس،  (1926-2018 يُعد أحد أعمدة النظرية النقدية في العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي الدولي)  إلى النظر إلى النظام الغذائي العالمي بوصفه "بناءً تاريخياً" يعكس علاقات الهيمنة، وليس نظاماً محايداً. فوفقاً لكوكس، يتم إنتاج النظام العالمي للحفاظ على مصالح القوى المهيمنة، وما نراه اليوم من انعدام أمن غذائي في دول الجنوب هو نتيجة لسياسات تاريخية فرضت التخصص في محاصيل تصديرية معينة مقابل إهمال المحاصيل الأساسية. إن الحرب في أوكرانيا كشفت القناع عن هذا النظام، مظهرةً أنه نظام هش يخدم استمرارية الهيمنة الاقتصادية، مما يستوجب إعادة التفكير في بناء نظام أكثر عدالة وتعدداً، يتحرر من التبعية القطبية والمضاربات المالية العابرة للحدود.

 

خاتمة: نحو رؤية شاملة للأمن الغذائي العالمي

تُقدم الحرب في أوكرانيا درساً قاسياً للنظام الدولي، مفاده أن الأمن الغذائي لم يعد مجرد مسألة ثانوية أو تقنية، بل صار قلباً نابضاً في معادلات القوة والاستقرار. ومع حلول عام 2025، لم تعد الأزمة الغذائية نتاج الاصطدامات العسكرية فحسب، بل باتت تعبيراً عن "أزمة مركبة" تتداخل فيها الجغرافيا السياسية مع التغيرات المناخية المتسارعة. فقد أثبتت السنوات الثلاث الماضية أن سلاسل التوريد الهشة لا تترنح فقط أمام القذائف والممرات المائية المغلقة، بل وأيضاً أمام موجات الجفاف والفيضانات التي تضرب مناطق الإنتاج البديلة، مما يجعل من "الجوع" تهديداً عابراً للحدود والأنظمة.

ويُظهر هذا التحليل أن المقاربة الواقعية، رغم براعتها في تفسير سلوك الدول وتوظيف الغذاء كأداة للقوة، تظل قاصرة عن مواجهة التحديات البنيوية بعيدة المدى. إن الربط بين "خبز الشعوب" و"استدامة الكوكب" يفرض علينا تبني مقاربات الأمن الإنساني والاقتصاد السياسي الدولي؛ فهي الوحيدة القادرة على كشف هشاشة الاعتماد على "مراكز إنتاج قطبية" وتفكيك سيطرة الشركات الكبرى.

في الختام، إن مستقبل الاستقرار الدولي في عالم 2025 وما بعده، لن يتقرر فقط في ساحات المعارك، بل في مدى قدرة المجتمع الدولي على الانتقال من "جيوسياسة النزاع على الموارد" إلى "حوكمة التضامن الغذائي".  إن مواجهة "مضاعف المخاطر" الناتج عن اندماج الحرب مع المناخ تتطلب إرادة سياسية تتجاوز الحسابات القومية الضيقة، لإعادة تعريف الغذاء كحق إنساني مطلق ومصلحة أمنية عالمية مشتركة، بعيداً عن شبح الأزمات الوجودية التي تهدد السلم العالمي في الصميم.

يتبع.......

[1] Archer Daniels Midland، وBunge، وCargill، وDreyfus.

الدكتور عبدالواحد غيات، أستاذ - باحث في العلوم السياسية، متخصص في العلاقات الدولية