الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

عبد الواحد غيات: الحكم الذاتي كخيار سيادي نهائي: قرار مجلس الأمن 2797 وإعادة تشكيل مسار النزاع حول الصحراء المغربية

عبد الواحد غيات: الحكم الذاتي كخيار سيادي نهائي:  قرار مجلس الأمن 2797 وإعادة تشكيل مسار النزاع حول الصحراء المغربية عبد الواحد غيات
ملخص تنفيذي:

إن قرار مجلس الأمن رقم 2797 لم يكن مجرد تمديد تقني، بل كان بمثابة "شهادة وفاة" للأطروحات الانفصالية وإعلان صريح عن انتصار "الواقعية السياسية". لقد نجح المغرب، تحت القيادة الملكية المتبصرة، في تحويل ملف الصحراء من عبء دبلوماسي إلى رافعة استراتيجية جعلت من المملكة قوة أطلسية وإفريقية لا يمكن تجاوزها.

تستعرض هذه الورقة تحولاً بنيوياً في تعاطي المنتظم الدولي مع ملف الصحراء المغربية، معتبرة أن قرار مجلس الأمن رقم 2797 يمثل "منعطف الحسم" الذي نقل النزاع من أفق الانتظارية التقنية إلى واقعية التنزيل السيادي.

 

1. مقدمة تأطيرية

لم يعد النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية مجرد ملف تقني مدرج في أجندة اللجنة الرابعة للأمم المتحدة، بل استحال إلى اختبار حقيقي لمدى قدرة المنظومة الدولية على تبني "الواقعية السياسية" في حل النزاعات المزمنة. يبرز قرار مجلس الأمن رقم 2797 كوثيقة مرجعية تؤسس لقطيعة نهائية مع أطروحات "التقرير التقني للمصير" التي أثبتت عقمها الميداني والسياسي.

وفي هذا السياق، لم يعد من الممكن قراءة اختصاصات اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة (لجنة المسائل السياسية الخاصة وإنهاء الاستعمار) بعيداً عن الدينامية التي أحدثها قرار مجلس الأمن 2797؛ فإذا كانت اللجنة تاريخياً هي المنصة التي شهدت تبلور النقاش حول الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، فإن التحول الراهن يفرض عليها الانتقال من 'الجمود الإجرائي' إلى 'الواقعية السياسية'.

إن تكريس مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد ومستدام، يخرج الملف من دائرة التجاذبات الأيديولوجية داخل اللجنة الرابعة، ويضع المجتمع الدولي أمام حقيقة قانونية وميدانية مفادها أن ممارسة 'حق تقرير المصير' قد تجسدت فعلياً من خلال التمكين السياسي والاقتصادي لساكنة الصحراء المغربية، مما يجعل من المقاربات التقليدية المتجاوزة داخل هذه اللجنة مجرد صدى لماضٍ لا يواكب تطلعات الاستقرار القاري والدولي.

إن هذا القرار لا يتحرك في فراغ، بل هو نتاج تراكمي لـ "الدبلوماسية الملكية الهادئة" التي استطاعت تحويل المبادرة المغربية للحكم الذاتي من "مقترح فوق الطاولة" إلى "القاعدة الوحيدة للحل".

تهدف هذه الورقة إلى تفكيك شيفرات التحول في الموقف الدولي، وتحليل أبعاد الانتقال من شرعية العرض إلى واقعية التنزيل، مع رصد التحديات القانونية والجيوسياسية التي تفرضها المرحلة الجديدة.

 

2. السياق التاريخي والاستراتيجي: من "إدارة الجمود" إلى "مبادرة الحسم"

2.1. فشل المقاربة الاستفتائية (1991-2000): من الطموح التقني إلى الباب المسدود

دخل ملف الصحراء المغربية منذ عام 1991 في دهاليز "مخطط التسوية" الأممي الذي قام في جوهره على فرضية تنظيم استفتاء لتقرير المصير. غير أن هذه المقاربة، التي بدت نظرياً ممكنة، اصطدمت بواقع ميداني وسوسيولوجي معقد أدى في نهاية المطاف إلى إعلان الأمم المتحدة صراحة عن عجزها عن تنفيذه.

تكمن العلة البنيوية في فشل الاستفتاء في "إشكالية تحديد الهيئة الناخبة". فالصحراء، كفضاء جغرافي واجتماعي، تتميز بطابع قبلي عابر للحدود المصطنعة، حيث تعيش القبائل الصحراوية في ترحال تاريخي ممتد بين المغرب وموريتانيا والجزائر ومالي. هذا التداخل جعل من عملية حصر "من هو الصحراوي الذي يحق له التصويت؟" معضلة سياسية وقانونية بامتياز. فبينما كان المغرب يصر على حق كافة الصحراويين (بمن فيهم أولئك الذين نزحوا إلى شمال المملكة أو دول الجوار لأسباب تاريخية) في المشاركة، كانت الأطراف الأخرى تسعى إلى حصر الهيئة الناخبة في قوائم إحصاء عام 1974 الإسباني، وهو إحصاء منقوص ولم يأخذ بعين الاعتبار الحراك الديمغرافي والاجتماعي للإقليم.

لقد استنفدت الأمم المتحدة، عبر لجنة تحديد الهوية، سنوات طويلة وموارد هائلة في فحص مئات الآلاف من ملفات الطعون، لتصل في النهاية إلى "طريق مسدود". ولم يكن هذا الانسداد تقنياً فحسب، بل كان تجسيداً لاستحالة تطبيق آلية "الاستفتاء الإقصائي" في بيئة تتميز بالسيولة الاجتماعية.

في تقاريره الصادرة في تلك الفترة، وتحديداً تقارير الأمين العام للأمم المتحدة والمبعوث الشخصي الأسبق "جيمس بيكر"، بدأ يظهر إدراك دولي بأن الاستفتاء لم يعد "خياراً عملياً"، بل أصبح "وصفة للصراع المستدام" وتفتيت المكونات الاجتماعية، مما دفع بالمنتظم الدولي للبحث عن "الحل السياسي التوافقي" كبديل عن منطق "غالب ومغلوب".

2.2. لحظة التحول في 2007: الحكم الذاتي كتعيير عن "ثقة سيادية"

أدركت المملكة المغربية، برؤية استباقية ثاقبة للمؤسسة الملكية، أن استمرار "حالة الجمود" يخدم أجندات تفتيت المنطقة. ومن هنا، جاء تقديم مبادرة الحكم الذاتي في أبريل 2007 كخطوة استراتيجية جريئة انتقل بها المغرب من "رد الفعل" إلى "صناعة القرار الدولي". لم يكن المقترح تنازلاً ناتجاً عن ضغط، بل كان نابعاً من "ثقة سيادية" وقدرة على المبادرة لإنهاء نزاع طال أمده.

ترتكز هذه المبادرة على ثلاث ركائز استراتيجية تربطها صلة وثيقة بتطور القانون الدولي المعاصر:

ركيزة الشرعية والملاءمة الدولية: ينسجم المقترح المغربي مع مفهوم "تقرير المصير الداخلي". فالقانون الدولي الحديث، وخاصة في تجارب ما بعد الحرب الباردة، بات يميل إلى اعتبار الحكم الذاتي الموسع شكلاً ديمقراطياً وعصرياً لممارسة حق تقرير المصير، مما يحافظ على السلم العالمي ويمنع نشوء كيانات مجهرية فاشلة تهدد الأمن الدولي.

ركيزة الاستقرار الإقليمي: قُدِّم الحكم الذاتي كضمانة ضد "البلقنة". ففي منطقة الساحل والصحراء المشتعلة، يشكل الإقليم تحت السيادة المغربية حصناً مؤسساتياً وأمنياً، بينما يمثل خيار الانفصال مخاطرة بإنشاء "منطقة رمادية" قد تصبح مرتعاً للجماعات العابرة للحدود والتهريب والجريمة المنظمة.

ركيزة وحدة الدولة وتعددية الهوية: يعيد المقترح صياغة مفهوم "الدولة الوطنية" في المغرب، من خلال الانتقال من المركزية الإدارية إلى "الجهوية المتقدمة" والحكم الذاتي. إنه اعتراف بالخصوصية الثقافية والمجالية للأقاليم الجنوبية ضمن إطار "الهوية المغربية الموحدة"، وهو ما يمنح السكان المحليين صلاحيات واسعة لتدبير شؤونهم التشريعية والتنفيذية والقضائية، تحت مظلة السيادة المغربية والوحدة الترابية.

بهذه المبادرة، نجح المغرب في نقل "عبء الإثبات" إلى الأطراف الأخرى؛ فبينما يقدم المغرب حلاً مفصلاً وقابلاً للتطبيق، تظل الأطروحات الأخرى حبيسة شعارات متجاوزة لا تجد لها صدى في الواقع الجيوسياسي الراهن.

 

3. القراءة التحليلية لقرار مجلس الأمن 2797: الانتقال من الوساطة إلى التكريس

يمثل القرار 2797 وثيقة قانونية وسياسية بالغة الأهمية، ليس فقط لأنه يمدد ولاية بعثة "المينورسو"، بل لأنه يرسخ "منطق الحسم" الذي تبناه مجلس الأمن في السنوات الأخيرة. إن قراءة ما بين سطور هذا القرار تكشف عن تحولات جذرية في المرجعية الدولية للنزاع.

3.1. ترسيخ "السمو": المبادرة المغربية كمعيار وحيد للحل

لم يعد وصف المبادرة المغربية للحكم الذاتي بـ "الجدية والمصداقية" مجرد جملة بروتوكولية، بل أصبح في أدبيات مجلس الأمن "توصيفاً قانونياً" يمنح المبادرة المغربية سموًا على ما سواها.

تطور اللغة السياسية (مقارنة بالقرار 1754 وما قبله): عند العودة إلى القرار 1754 الصادر عام 2007 (سنة تقديم المبادرة)، نجد أن المجلس "أخذ علماً" بالمقترح المغربي. أما اليوم، في القرار 2797، فقد تحول "أخذ العلم" إلى "تكريس المرجعية". نلاحظ هنا اختفاءً شبه كامل لمصطلح "الاستفتاء" من المتن السياسي للقرار، حيث لم يذكر إلا كجزء من المسمى التاريخي للبعثة، بينما تهيمن مصطلحات "الحل السياسي، الواقعي، العملي، والدائم" على التوصيات العملياتية للقرار.

إسقاط البدائل: من خلال التشديد على "الواقعية"، يُسقط مجلس الأمن بشكل ضمني كافة الأطروحات التي تفتقر لمقومات التطبيق على أرض الواقع، وعلى رأسها "الاستقلال" أو "الاستفتاء الإقصائي". إن القرار 2797 يضع المجتمع الدولي أمام خيار واحد مصنف كـ "ممكن سياسياً"، مما يجعل من مبادرة الحكم الذاتي "الحل الافتراضي" الذي لا بديل عنه.

3.2. المسؤولية الإقليمية وتحجيم دور "الملاحظ": الجزائر كطرف أصيل

لطالما اعتمدت الاستراتيجية الدبلوماسية للجزائر على مبدأ "الاختباء خلف الستار"، عبر توصيف نفسها كـ "جار ملاحظ" أو "طرف مهتم" فقط. غير أن القرار 2797 جاء ليقطع مع هذا الالتباس القانوني، معززاً توجهاً بدأ منذ عام 2018.

مأسسة "الموائد المستديرة": عبر تجديد التأكيد على صيغة الموائد المستديرة كإطار وحيد للمفاوضات، وبذكر الجزائر بالاسم في كل مرة يتم فيها ذكر المغرب و"البوليساريو" وموريتانيا، يرفع مجلس الأمن الصفة الشرفية عن المشاركة الجزائرية ليحولها إلى "مسؤولية قانونية". إن ذكر الجزائر في متن القرار يضعها أمام التزاماتها الدولية كطرف معني مباشرة بالنزاع، وبمدى إسهامها في إيجاد الحل.

جيوسياسية الجوار وإحراج الهروب من المسؤولية: يوظف المغرب اليوم "الشرعية الدولية" لإحراج منطق التصلب الإقليمي. فالقرار 2797 يرسخ فكرة أن حل النزاع لا يمر عبر "تقرير المصير" كعملية تقنية، بل عبر "التوافق الإقليمي". التحليل السياسي هنا يشير إلى أن المغرب نجح في نقل الملف من "نزاع ثنائي" بين دولة وحركة انفصالية، إلى "نزاع إقليمي" تتحمل فيه الجزائر الجزء الأكبر من المسؤولية السياسية والإنسانية (خاصة فيما يتعلق بإحصاء سكان مخيمات تندوف، وهو المطلب الذي يلح عليه القرار 2797 باستمرار).

الانتقال من "الحياد" إلى "الانخراط": يضغط القرار على الأطراف الإقليمية للانتقال من حالة "عرقلة المسار" إلى حالة "الانخراط البناء". وبموجب هذا القرار، أصبح أي رفض للمشاركة في الموائد المستديرة أو أي محاولة لتغيير قواعد اللعبة الأممية يُصنف دولياً كـ "عرقلة لمسار السلام"، مما يزيد من العزلة الدبلوماسية للأطراف المناوئة للوحدة الترابية للمملكة.

 

4. الرؤية الملكية: هندسة "السيادة الشاملة"

لا يمكن فهم التحولات الكبرى التي شهدها ملف الصحراء المغربية دون استحضار الدور المحوري للمؤسسة الملكية كمهندس للسياسة الخارجية والدفاعية للمملكة. لقد أرست الرؤية الملكية مفهوماً جديداً يُعرف بـ "الدبلوماسية الهجومية المنتجة"، وهي استراتيجية تتجاوز الانتظارية والحياد السلبي لتصنع واقعاً جيوسياسياً جديداً يفرض نفسه على المجتمع الدولي. وتتجلى هذه الهندسة في ثلاثة محاور استراتيجية:

4.1. المحور التنموي: "السيادة عبر النماء" والنموذج التنموي الجديد

اعتمد المغرب، تحت القيادة الملكية، مقاربة تقضي بأن "تثبيت السيادة يبدأ من الداخل". لقد جاء النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية (الذي أُطلق عام 2015 بميزانية ضخمة تجاوزت 7 مليارات دولار) ليعيد صياغة علاقة الساكنة بالمجال.

خلق "الأمر الواقع" الاقتصادي: من خلال مشاريع هيكلية عملاقة مثل "ميناء الداخلة الأطلسي"، الذي صُمم ليكون بوابة اقتصادية للقارة نحو الأمريكيتين وأوروبا، و"الطريق السريع تزنيت-الداخلة" الذي يربط المغرب بعمقه الإفريقي، تحولت الصحراء من منطقة "نزاع" إلى "قطب استثماري".

عقلانية البقاء: هذه الاستثمارات جعلت من الانفصال خياراً "غير منطقي" من الناحية الاقتصادية والبراغماتية؛ فالبنية التحتية المتطورة، وربط الإقليم بشبكات الطاقة الدولية، وتوطين صناعات الهيدروجين الأخضر، خلقت مصالح اقتصادية مشتركة للساكنة المحلية مع الدولة المركزية، مما أدى إلى تآكل أطروحة الانفصال التي لا تقدم سوى "نموذج المخيمات" المفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة.

4.2. المحور السوسيولوجي: "البيعة المتجددة والاندماج العضوي للعائلات الصحراوية

لا يستقيم تحليل النزاع حول الصحراء المغربية دون استحضار الدور المحوري للعائلات والقبائل الصحراوية التي اختارت، عن قناعة تاريخية وسياسية، التعايش والاندماج الكامل ضمن الثوابت الوطنية للمملكة. إن هذا التعايش ليس مجرد 'قبول بالأمر الواقع'، بل هو استمرار لروابط البيعة المتجذرة التي تجمع المكون الصحراوي بالمؤسسة الملكية. وتتجلى قوة هذا الاندماج في انخراط الأعيان والوجهاء وكبار العائلات الصحراوية في تدبير الشأن العام، حيث تحولت هذه العائلات إلى قاطرة للتنمية المحلية وضمانة للاستقرار السوسيولوجي. إن مشاركة أبناء هذه العائلات الواسعة في الانتخابات المحلية والوطنية، وتوليهم لمناصب سيادية ودبلوماسية وتمثيلية، يقدّم برهاناً ساطعاً على أن 'تقرير المصير' قد مارسته الساكنة فعلياً من داخل مؤسسات الدولة، محطمةً بذلك السردية التي تحاول تصوير الصحراويين ككيان منفصل عن وجدانه المغربي، ومؤكدة أن الحكم الذاتي هو المظلة الطبيعية التي ستحمي هذا التنوع الثقافي والاجتماعي في إطار الوحدة السيادية.

4.3. المحور الدبلوماسي: "دبلوماسية القنصليات" والاعتراف الميداني

انتقل المغرب من مرحلة استجداء الاعترافات اللفظية إلى مرحلة "الاعتراف السيادي الميداني". شكل افتتاح أكثر من 30 قنصلية لدول من إفريقيا والعالم العربي وأمريكا والكاريبي في مدينتي العيون والداخلة تحولاً استراتيجياً في مسار النزاع.

تجاوز لغة التقارير: إن وجود بعثة دبلوماسية لدولة ما في الإقليم هو "فعل قانوني" يكرس السيادة المغربية على الأرض، ويجعل من أي حديث عن "إقليم غير متمتع بالحكم الذاتي" خطاباً متجاوزاً بالواقع الدبلوماسي. هذا المسار "الميداني" هو الذي مهد الطريق للاعترافات الكبرى (مثل اعتراف الولايات المتحدة، إسبانيا، وفرنسا)، حيث أصبح المجتمع الدولي يرى أن الحل يكمن في التعامل مع "الدولة التي تدبر وتستثمر وتؤمن المنطقة".

4.4. المحور الإفريقي: العودة إلى "العائلة" وعزل السرديات القديمة

شكلت عودة المغرب إلى كنف الاتحاد الإفريقي عام 2017 تحولاً نوعياً في موازين القوى، حيث انتقلت المملكة من استراتيجية "الممانعة من الخارج" إلى "التغيير من الداخل". ولم تكن هذه العودة مجرد استعادة لمقعد شاغر، بل كانت إعلاناً عن انتهاء زمن "الأطروحات الأحادية" وبداية مرحلة التدافع الدبلوماسي لتصحيح المسارات التاريخية.

الاضطراب البنيوي وتفكيك الجمود الدبلوماسي: لقد أحدث الحضور المغربي القوي نوعاً من "الاضطراب الإيجابي" داخل ردهات منظمة الاتحاد الإفريقي؛ إذ نجح المغرب في نقل النقاش حول ملف الصحراء من قوالبه الأيديولوجية المتجاوزة إلى قلب المؤسسة، محولاً القمم الإفريقية إلى فضاءات للمكاشفة القانونية والسياسية. هذا الوضع فرض على المنظمة اختباراً عسيراً للتحرر من "إرث القطبية"، والانتقال نحو واقع جيوسياسي جديد يرفض سياسة الأمر الواقع ويغلّب منطق السيادة الوطنية.

براغماتية المشاريع: "السيادة عبر التنمية: " استند المغرب في عزل السرديات الانفصالية إلى "دبلوماسية الفعل"؛ فمن خلال مشاريع استراتيجية عابرة للحدود كأنبوب الغاز (المغرب-نيجيريا) واستثمارات الفوسفاط السيادية، نجح في ترسيخ قناعة قارية بأن الاستقرار المرتبط بالوحدة الترابية للمملكة هو الضامن الأساسي للتكامل الاقتصادي الإفريقي.

تآكل "النواة الصلبة" للانفصال: إن ما يمنح التفوق المغربي طابعاً حاسماً هو "التصدع الداخلي" في بنية الخصوم؛ فعودة "الرعيل الأول" من المؤسسين والمنظرين لجبهة البوليساريو إلى أرض الوطن، أمثال عمر الحضرمي (المسؤول السابق عن جهاز الأمن العسكري) وأحمدو ولد سويلم (أحد أبرز الوجوه الدبلوماسية السابقة للجبهة)، والبشير الدخيل (أحد الأعضاء المؤسسين) لا يمثل مجرد حالات "عودة فردية"، بل هو تفكيك للمرجعية الفكرية للانفصال.  إن انخراط هؤلاء الرموز في المشروع الوطني هو شهادة حية أمام القادة الأفارقة على تهافت الطرح الانفصالي وغياب مقومات الدولة في "مشروع تندوف".

المرجعية الدولية وحتمية الوحدة: وفي سياق تعزيز طرحه، يستحضر المغرب تجارب دولية معاصرة أثبتت أن الانفصال هو "وصفة للفوضى"، كما هو الحال في نموذجي كتالونيا وكردستان العراق. فمن خلال هذه المقارنة الدولية، يؤكد المغرب للاتحاد الإفريقي أن "الحكم الذاتي" ليس مجرد تنازل سياسي، بل هو صمام أمان يحمي القارة من مخاطر "البلقنة" والتشرذم، ويستجيب لروح القانون الدولي المعاصر الذي يقدس الوحدة الترابية كشرط أساسي للسلم العالمي.

4.5التقاطع الاستراتيجي بين "الدينامية الإفريقية" و"الشرعية الدولية"

إن هذا الاختراق المغربي داخل البيت الإفريقي لم يكن ليحقق غاياته لولا تقاطعه البنيوي مع التحول العميق في عقيدة مجلس الأمن الدولي. فقرار مجلس الأمن رقم 2797 جاء ليتوج هذا المسار، مؤكداً أن 'الحل السياسي الواقعي' هو الكفيل وحده بضمان استقرار المنطقة. وبذلك، يلتقي 'الإجماع الإفريقي' المتصاعد حول مغربية الصحراء مع 'التكريس الدولي' لمبادرة الحكم الذاتي، ليشكلا معاً جداراً دبلوماسياً صلباً يُسقط منطق الانفصال.

إن القرار 2797 يعطي السند القانوني للدول الإفريقية لمواصلة سحب اعترافاتها بالكيان الوهمي، معتبراً أن الانخراط في المقترح المغربي هو انخراط في المسار الأممي نفسه، مما يضع الخصوم في عزلة مزدوجة: قارياً عبر بوابة الاتحاد الإفريقي، ودولياً عبر بوابة الأمم المتحدة."

 

5. الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية: الصحراء المغربية كجسر عالمي ومركز للأمن القومي الدولي

إن التحول الجذري في مواقف القوى الكبرى تجاه مغربية الصحراء يجد تفسيره في التحولات العميقة للنظام الدولي. فالعالم اليوم، في ظل الأزمات الجيوسياسية المتلاحقة، لم يعد يبحث عن حلول "مثالية" أو "شاعريّة"، بل يبحث عن "الاستقرار المنتج". يبرز المغرب هنا كشريك موثوق، وتبرز صحراؤه كمنطقة حيوية للأمن العالمي في ثلاث مجالات أساسية:

5.1. الأمن الطاقي: الثورة الخضراء في الفضاء الأطلسي

في ظل سعي أوروبا الحثيث للتخلص من التبعية الطاقية، برزت الصحراء المغربية كـ "خزان عالمي" للطاقات المتجددة. إن دعم دول مثل ألمانيا وإسبانيا وفرنسا للحكم الذاتي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ:

الهيدروجين الأخضر: تتوفر الأقاليم الجنوبية على مزيج فريد من الإشعاع الشمسي القوي والرياح المستمرة، مما يجعلها من أقل المناطق تكلفة في العالم لإنتاج الهيدروجين الأخضر. هذا "الوقود المستقبلي" هو حجر الزاوية في السياسة الطاقية الأوروبية الجديدة.

الربط القاري: يُنظر إلى الصحراء كمنصة لتصدير الطاقة النظيفة عبر الكوابل البحرية (مثل مشروع الربط مع بريطانيا) أو عبر أنبوب الغاز المغرب-نيجيريا المستقبلي. بالنسبة للقوى الغربية، فإن سيادة مغربية مستقرة على هذا الإقليم هي الضمانة الوحيدة لتدفق آمن ومستدام لهذه الطاقة، بعيداً عن مخاطر "المناطق الرمادية" التي قد تخضع لابتزاز القوى الإقليمية أو الجماعات غير النظامية.

5.2. الأمن الغذائي العالمي: الفوسفاط والسيادة الجيو-اقتصادية

يمتلك المغرب أكبر احتياطي عالمي من الفوسفات، ويتركز جزء حيوي من النشاط الإنتاجي واللوجستي في منجم "بوكراع" بالصحراء المغربية.

سلاسل الإمداد العالمية: في عالم يعاني من شبح المجاعة وتذبذب أسعار الأسمدة، أصبح المكتب الشريف للفوسفاط (OCP) فاعلاً جيوسياسياً يضمن توازن الأمن الغذائي العالمي.

الاستثمار الدولي: القوى الكبرى تدرك أن استمرار النزاع يهدد استقرار هذه السلاسل. لذا، فإن الاعتراف بمغربية الصحراء وتكريس الحكم الذاتي يمنح غطاءً قانونياً ودولياً للشركات العالمية للاستثمار في هذا القطاع الحيوي، مما يعزز قدرة المغرب على تزويد الأسواق العالمية بالأسمدة بأسعار تنافسية ومستقرة.

5.3. الأمن الإقليمي: "صمام الأمان" في مواجهة "البلقنة" والترهيب

تعيش منطقة الساحل والصحراء حالة من السيولة الأمنية غير المسبوقة (انقلابات، انتشار جماعات موالية لداعش والقاعدة، نشاط شبكات الهجرة السرية والاتجار بالبشر).

مكافحة "البلقنة": تدرك واشنطن وباريس ومدريد أن إنشاء كيان هش أو "دولة مجهرية" في الصحراء سيكون بمثابة "هدية جيوسياسية" للجماعات المتطرفة والقوى التي تسعى لزعزعة استقرار شمال إفريقيا.

نموذج "الحكم الذاتي" كبديل أمني: يقدم المغرب خيار الحكم الذاتي كصيغة لإدماج الساكنة في هيكل دولة قوية تمتلك مؤسسات أمنية واستخباراتية مشهوداً لها بالكفاءة دولياً. السيادة المغربية تعني مراقبة الحدود، ضبط السواحل الأطلسية، ومنع تحول المنطقة إلى "ثقب أسود" أمني. هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل القوى الكبرى تنتقل من "الحياد السلبي" إلى "الدعم الصريح"؛ فالصحراء المغربية المستقرة هي ضرورة للأمن القومي الأوروبي والأمريكي على حد سواء.

 

6. التحديات والمرحلة الانتقالية: نحو مأسسة السيادة الذكية

رغم الزخم الدبلوماسي والميداني، يواجه تنزيل خيار الحكم الذاتي تحديات ذات طبيعة تقنية وقانونية تتطلب نفساً استراتيجياً طويلاً، وقدرة على الملاءمة بين القوانين الوطنية والالتزامات الدولية.

6.1. التحدي القانوني: معركة "المشروعية" في المحافل الدولية

تعد الواجهة القانونية، خاصة الأوروبية منها، إحدى جبهات الصراع المفتوحة. فقد شكلت قرارات محكمة العدل الأوروبية بشأن الاتفاقيات الفلاحية والصيد البحري تحدياً للمسار الدبلوماسي.

تحليل قرارات المحكمة الأوروبية: استندت قرارات المحكمة في بعض مراحلها إلى مفاهيم مثل "شعب الصحراء" و"الموافقة" و"الأثر النسبي للمعاهدات". بيد أن الرد المغربي، المسنود بدعم سياسي من دول وازنة كفرنسا وإسبانيا وبريطانيا، يرتكز على أن السيادة هي حزمة متكاملة لا تتجزأ، وأن السكان المحليين يعبرون عن "موافقتهم" من خلال مشاركتهم المكثفة في الانتخابات المحلية والوطنية، ومن خلال انخراطهم في الحياة السياسية والهيئات التمثيلية (الغرف المهنية والمجالس الجهوية).

استراتيجية الرد القانوني: يتبنى المغرب اليوم استراتيجية "قانونية هجومية" تقوم على:

تكريس الأهلية القانونية للمجالس المنتخبة: بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للسكان القادر على إعطاء الموافقة على الاتفاقيات الدولية.

إثبات العائد التنموي: تقديم أدلة رقمية وميدانية تثبت أن عائدات الثروات الطبيعية تُعاد استثمارها بالكامل (وأحياناً بزيادة من ميزانية الدولة المركزية) في الإقليم، مما يسقط حجة "الاستغلال" التي يروج لها الخصوم.

6.2. التحدي المؤسساتي: هندسة الحكم الذاتي وتوزيع السلطات

إن الانتقال إلى الحكم الذاتي يتطلب إرساء بنية مؤسساتية تتسم بالكفاءة والتمثيلية الواسعة.

بناء "البرلمان الجهوي": تمنح المبادرة المغربية لجهة الحكم الذاتي برلماناً محلياً يمتلك صلاحيات تشريعية في مجالات حيوية (السياحة، الثقافة، البيئة، النقل المحلي، والتنمية الاقتصادية). التحدي هنا يكمن في صياغة نظام انتخابي يضمن التوازن بين المكونات القبلية والسياسية، ويسمح ببروز نخب شابة قادرة على تدبير الشأن العام بعيداً عن منطق "الريع".

نظام توزيع الثروات والموارد: يقترح المغرب نظاماً مالياً متطوراً يسمح للجهة بفرض ضرائب محلية والاحتفاظ بجزء هام من عائدات مواردها الطبيعية، مع الاستفادة من "صندوق التضامن الوطني" لضمان التوازن مع باقي جهات المملكة.

المقارنة الدولية (نماذج الألاند وكتالونيا): بينما تعاني تجربة كتالونيا من تصادم مع الدستور الإسباني حول "السيادة"، فإن النموذج المغربي يقدم حلاً استباقياً يدمج الحكم الذاتي ضمن "الثابت الدستوري الملكي"، مما يوفر ضمانة للاستقرار ويمنع النزعات الانفصالية. وفي المقابل، يمكن الاستفادة من نموذج "جزر الآلاند" (فنلندا) في جوانب "الخصوصية الثقافية واللغوية"، حيث نجح المغرب في مأسسة المكون الحساني كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية، مما يجعل الحكم الذاتي المغربي نموذجاً "للوحدة في التنوع" وليس مجرد تفويض إداري.

(6.3) السيادة الإنسانية : تحدي إعادة إدماج الأجيال الناشئة"

"إن العبور نحو الحل النهائي لا يقتصر على كسب المعارك الدبلوماسية فحسب، بل يمتد ليشمل 'معركة العقول والقلوب'، خاصة لدى الأجيال الناشئة التي ترعرعت في بيئة مخيمات تندوف المشحونة بالتلقين الأيديولوجي. ويمثل الحكم الذاتي الإطار الأسمى لتحقيق 'السيادة الإنسانية' عبر استيعاب هؤلاء الشباب وتحويلهم من ضحايا لخطاب الانفصال إلى فاعلين في بناء المستقبل الوطني، وذلك من خلال مقاربة ترتكز على ثلاثة أبعاد:"

البعد النفسي-التاريخي: "الارتكاز على شهادات 'الرعيل الأول' من العائدين لتفكيك سرديات العداء، وإعادة بناء الرابطة التاريخية مع الدولة الأم، مع التركيز على أن المكون الحساني هو ركيزة دستورية ومؤسساتية في الهوية المغربية، مما يمنح هؤلاء الشباب شعوراً بالانتماء لا بالإقصاء."

البعد السوسيو-اقتصادي: تقديم نموذج الأقاليم الجنوبية كـ 'أرض للفرص'؛ حيث يشكل ميناء الداخلة الأطلسي والقطب الجامعي والتقني في العيون بدائل ملموسة لواقع الركود في المخيمات. إن إعادة الإدماج هنا تمر عبر توفير 'الأمل الاقتصادي' الذي يجعل من العودة إلى الوطن خياراً براغماتياً يضمن الكرامة والارتقاء الاجتماعي."

البعد الحقوقي والمواطنة:  إن الحكم الذاتي يمنح هؤلاء الشباب فرصة تاريخية للمشاركة في تدبير شؤونهم المحلية عبر مؤسسات ديمقراطية معترف بها دولياً. وبدلاً من استغلالهم في أجندات 'عسكرة الأطفال' والنزاعات الإقليمية، يفتح لهم المغرب باب المواطنة الكاملة، حيث يصبح 'تقرير المصير' ممارسة يومية من خلال صناديق الاقتراع والمشاركة في برلمان الجهة وحكومتها المحلية."

 

7. التوصيات الاستراتيجية: نحو خارطة طريق لمرحلة "ما بعد النزاع"

بناءً على التحليل السابق لقرار مجلس الأمن 2797 والواقع الجيوسياسي المتغير، تخلص هذه الورقة إلى مجموعة من التوصيات الاستراتيجية التي تهدف إلى تحصين المكاسب والانتقال بالملف من "شرعية المقترح" إلى "فعالية التنزيل":

7.1. مأسسة الحكم الذاتي: من التنظير السياسي إلى الهندسة القانونية

توصي الورقة بضرورة البدء في بلورة "قانون إطار" أو مسودات للقوانين التنظيمية التي ستؤطر الحكم الذاتي، وذلك من خلال:

إطلاق حوار وطني وتقني: يضم فقهاء القانون الدستوري، وخبراء الأنظمة الفيدرالية واللامركزية، والنخب المحلية، لتفصيل اختصاصات "الجهة ذات الحكم الذاتي" بشكل دقيق يمنع أي تداخل في الاختصاصات مع الدولة المركزية (خاصة في مجالات الأمن، الدفاع، والسيادة الخارجية).

الاستباقية التشريعية: إن إعداد مسودات قانونية جاهزة يعزز من مصداقية المغرب أمام المجتمع الدولي، ويظهر أن المملكة لا تطرح شعارات، بل تمتلك "مشروع دولة" متكامل الأركان والقواعد.

7.2. الدبلوماسية الرقمية والحقوقية: معركة السرديات والوعي الدولي

في عصر "ما بعد الحقيقة"، لم يعد الصراع الدبلوماسي محصوراً في ردهات الأمم المتحدة، بل انتقل إلى الفضاءات الرقمية والمنظمات غير الحكومية.

بناء "قوة ناعمة" حقوقية: يجب تجاوز خطاب الدفاع التقليدي نحو خطاب حقوقي هجومي يُبرز المكتسبات الحقوقية في الأقاليم الجنوبية، ويقارنها موضوعياً بالانتهاكات الجسيمة في مخيمات تندوف.

رقمنة المظلومية التاريخية: ضرورة إنتاج محتوى رقمي متعدد اللغات (خاصة باللغات الإنجليزية والإسبانية والصينية) يخاطب الرأي العام العالمي والمنظمات الدولية، لتفكيك السرديات المضللة التي تروجها الآلة الإعلامية للخصوم، والتركيز على إبراز الصحراء كأرض للتنمية والاستقرار والأمان.

7.3. الاستثمار في "رأس المال البشري الصحراوي": صناعة نخبة الحكم الذاتي

إن نجاح أي نظام للحكم الذاتي رهين بوجود نخب محلية تمتلك الكفاءة والشرعية والولاء للمشروع الوطني.

إعداد قادة المستقبل: توصي الورقة بإنشاء "أكاديميات للقيادة" أو برامج تدريبية رفيعة المستوى موجهة للشباب في الأقاليم الجنوبية، لإعدادهم لتولي المهام التشريعية والتنفيذية في برلمان وحكومة الإقليم مستقبلاً.

تعزيز التمثيلية الدولية للصحراويين: يجب إدماج النخب الاقتصادية والسياسية والحقوقية من أبناء المنطقة في الوفود الدبلوماسية المغربية بشكل أكثر كثافة، ليكونوا هم "صوت الحقيقة" الذي يخاطب العالم، مما يسحب البساط من تحت أقدام من يدعون تمثيل الساكنة من الخارج.

 

8. الخاتمة الاستراتيجية: نحو أفق أطلسي متكامل

إن قرار مجلس الأمن رقم 2797 ليس مجرد وثيقة قانونية دورية، بل هو "صك اعتراف دولي" بانتصار منطق الدولة المؤسساتية على منطق الجماعات المسلحة والكيانات الوهمية. لقد أثبتت المملكة المغربية، من خلال تدبيرها لهذا الملف، أنها لا تدافع فقط عن حدودها الترابية، بل تقدم للعالم نموذجاً جديداً لما يمكن تسميته بـ "السيادة التنموية" في القرن الحادي والعشرين؛ وهي سيادة لا تكتفي بالسيطرة الإدارية، بل تدمج المكونات المحلية، وتصون التعددية الثقافية، وتجعل من الاستقرار وسيلة لتحقيق الازدهار المشترك.

8.1. الصحراء كقلب نابض للمبادرة الأطلسية

يأتي قرار 2797 في سياق إطلاق المغرب لـ "المبادرة الدولية لتسهيل وصول دول الساحل إلى المحيط الأطلسي". هذه المبادرة الملكية تحول الصحراء المغربية من "منطقة نزاع" إلى "رئة اقتصادية" لدول حبيسة (مثل مالي، النيجر، تشاد، وبوركينا فاسو).

إن تكريس الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يعني عملياً أن البنية التحتية في الداخلة والعيون ستصبح هي المنصة اللوجستية التي تربط عمق القارة الإفريقية بالأسواق العالمية.

بالنسبة للمجتمع الدولي، فإن دعم المقترح المغربي هو دعم لاستقرار الممرات التجارية الدولية في منطقة "الأطلسي الجنوبي"، وهو فضاء جيوسياسي بات يحظى بأهمية كبرى في الاستراتيجيات الدفاعية والاقتصادية للقوى العظمى.

8.2. الانتقال من "تصفية الاستعمار" إلى "بناء المستقبل"

لقد نجحت الدبلوماسية الملكية في إخراج ملف الصحراء من القوالب الجامدة لمرحلة الحرب الباردة ومصطلحات "تصفية الاستعمار" التقليدية، لتضعه في سياق "بناء الدولة القوية والمندمجة". إن النموذج المغربي يطرح بدلاً عن "الانفصال المفتت" خيار "الحكم الذاتي الجامع"، وهو الخيار الذي يضمن عدم تحول المنطقة إلى بؤرة جديدة من بؤر الدول الفاشلة في إفريقيا.

8.3. كلمة أخيرة

في الختام، إن الحكم الذاتي هو تجسيد لسيادة حديثة ومرنة تستجيب لمتطلبات العصر، وتضع المغرب في موقع "الفاعل المشكل للنظام الإقليمي"، لا "المتلقي للتسويات الإكراهية". إن قرار 2797 يضع الأطراف الأخرى أمام مسؤولية تاريخية: إما الانخراط في قطار التنمية والواقعية السياسية، أو البقاء في عزلة خلف سرديات متآكلة لم يعد العالم، ولا مجلس الأمن، يعيرها اهتماماً.

المغرب اليوم، وهو يمضي في تنزيل هذه الرؤية، لا ينهي نزاعاً طال أمده فحسب، بل يضع حجر الأساس لنظام أمني واقتصادي أطلسي-إفريقي جديد، تكون فيه الصحراء المغربية هي الجسر الرابط بين القارات، وعنواناً للسلام القائم على القوة والشرعية.

 الدكتور عبد الواحد غيات، أستاذ باحث في العلوم السياسية (متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية)