في الرابع عشر من دجنبر 2025، عاشت مدينة آسفي—وتحديدًا مدينتها العتيقة—مأساة تفوق الوصف. فقد اجتاح فيضان وادي الشعبة المكان، جارفًا في طريقه الأرواح والذكريات والدكاكين والمعالم. حصيلة ثقيلة ومفجعة: عشرات الضحايا حاصرتهم المياه، وخسائر مادية جسيمة أصابت قلب المدينة التجاري والتاريخي والهويّاتي.
بالنسبة لي، لا تمثل مدينة آسفي العتيقة مجرد فضاء عمراني أو خبرًا عاجلًا يتداوله الإعلام؛ إنها جزء من ذاكرتي الشخصية. فقد نُسجت سنوات الطفولة الأولى في أزقتها: درب القنصلية الفرنسية (Derb Lqounsou francisse)، ودرب الجامع الصغير (Derb Jame Sghir)…
أتذكر مواكب حمّادشة أعلى تنجرفت وإيقاعات “السواكن”، وعيساوة ونوباتهم الصوفية مساء كل أربعاء بعد صلاة العصر.
ولا يزال بعض أفراد أسرتي يقيمون هناك إلى اليوم. لذلك، لا أراقب هذا الحدث من بعيد؛ بل أعيشه إحساس.
إزاء هذه الفاجعة، عُقد اجتماع طارئ لتقييم الوضع الإنساني وحجم الأضرار البنيوية بموضوعية. وكان الهدف مزدوجًا: تسريع إيصال المساعدات الاستعجالية، ثم التفكير في حلول تنموية مستدامة تعيد الحياة والمعنى لمدينة آسفي العتيقة، هذا الفضاء العريق ذي القيمة التاريخية والتراثية والهويّاتية والاقتصادية التي لا تُقدّر بثمن.
وفي هذا السياق، أود أن أعبّر عن:
- أصدق التعازي لأسر الضحايا الذين فقدوا ذويهم جرّاء الفيضان، مع التمنيات بالشفاء العاجل للمصابين؛
- تقديرٍ خاص للتدخل السريع والفعّال للسلطات الترابية ومصالح الدولة، ولمجموعة OCP، وللجمعيات غير الحكومية التي عبّأت جهودها بسرعة إلى جانب الساكنة المتضررة؛
- ارتياحٍ لقرار النيابة العامة فتح تحقيق لتحديد المسؤوليات في حال ثبوت أي تقصير بشري.
ولحسن الحظ، لم تمضِ فترة طويلة على هذه الكارثة وعلى حداد مدينة بأكملها، حتى جاءت التوجيهات الملكية—المتضمنة في بلاغ رئاسة الحكومة بتاريخ 18 دجنبر 2025—في الوقت المناسب لتجسّد إحدى القيم الجامعة لدى المغاربة: التضامن.
موضوعيًا، يندرج بلاغ رئاسة الحكومة ضمن مقاربة شمولية ومتناسقة تقوم على محورين:
- تدخل فوري عبر تقديم مساعدات مالية للمتضررين—تصل إلى 30 ألف درهم لإصلاح المحلات والدكاكين؛
- إطلاق دراسة شاملة لتأمين الموقع وتثمين المدينة العتيقة داخل الأسوار، وكذا تلة الخزّافين، باعتبارهما فضاءين تراثيين حيّين.
ويُعزّز هذا المحور الأخير ويُرسّخ الهوية الجديدة لآسفي كـ«مدينة مبدعة» في مجال الخزف، وهو اللقب الذي منحته لها منظمة اليونسكو في السنة نفسها.
غير أن هذا الزخم التضامني—على أهميته—لا يخلو من انزلاقات. فالبعض، من المنبع إلى المصب، يوظّف الكرم الجماعي لأغراض دعائية، مُغلِّفًا مبادراته بخطاب إنساني أو أبويّ غالبًا ما يكون مرتبكًا، وأحيانًا غير لائق. وفي المقابل، يستكين آخرون إلى منطق الاتكالية، تغذّيه ذهنية ضحية تنتهي إلى إنكار الكرامة الذاتية.
والحال أن الكرامة يجب أن تظل البوصلة. دائمًا.
هنا، دون شك، تكمن حجر الزاوية في المقاربة المغربية الجديدة التي تحملها الصوت الملكي: تضامن فاعل، مسؤول، يحترم الإنسان. تضامن يُسهم في النهوض دون أن يُنقص من قدر أحد. وكما شدّد بلاغ رئاسة الحكومة بتاريخ 18 دجنبر 2025، فإن كلمة واحدة تتصدّر صميم التكفّل بضحايا فيضانات آسفي: الكرامة.
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً
70. =ﺍﻹﺳﺮﺍﺀ
الدكتور سعيد لقبي، جامعة القاضي عياض

