Tuesday 16 December 2025
مجتمع

فاجعة أسفي تستدعي الاستعانة بالمتخصصين ووثائقهم ومراجعهم التاريخية... المؤرخ كريدية نموذجا (مع فيديو)

فاجعة أسفي تستدعي الاستعانة بالمتخصصين ووثائقهم ومراجعهم التاريخية... المؤرخ كريدية نموذجا (مع فيديو) المؤرخ إبراهيم كريدية، ومشهد من فيضانات أسفي

من الأسئلة الحارقة التي انتصبت أمام جريدة "أنفاس بريس" ونحن نتابع ونرصد مخلفات كارثة فيضانات الأحد الأسود بمدينة أسفي وخسائرها البشرية والمادية الجسيمة، كان سؤال: "لماذا لم ينتبه القائمون على تدبير الشأن الوطني والمحلي للمصادر التاريخية التي وثقها المؤرخون في سياق تزيل أوراش السياسة العمومية وخصوصا على مستوى التحدير من استغلال الأماكن الخطيرة ذات الصلة بمختلف أنواع الكوارث الطبيعية؟

في هذا السياق كان من الواجب الاتصال والاستماع لصوت الباحث المؤرخ الأستاذ إبراهيم كريدية، المتخصص في التاريخ المحلي والجهوي بالنظر إلى إصداراته وكتابته الغزيرة عن حاضرة المحيط، وصلحائها، وبادية أسفي وما إليها، دون الحديث عن مواضيعه الشيقة التي يشتغل عليها بقناته الخاصة، الثقافية والفكرية على منصة يوتوب.

من المعلوم أن الكاتب والمؤرخ إبراهيم كريدية كان قد نقّب وبحث في تاريخ فيضان "وَادِي الشَّعْبَةْ"، وخصص لموضوعه "فيديو" منذ سنة 2022، وضعه على قناته، من أجل أخذ العبرة، والحيطة والحدر من خطورة ذاكرة هذا الوادي الثائر، الذي وصفه نفس المؤرخ بقوله: "إن حضور خطورة وَادِي الشَّعْبَةْ بهذا الخطر، وبهذا الوقع الكبير، جراء أضراره في الذاكرة الشعبية الجمعية عبر العصور والدول، كان من أقوى الأسباب التي دفعت الإخباريين والمؤرخين إلى ربط اسم أسفي باسم الواد في أصله ومنطوقه الأمازيغي "أسيف" وتفسير ذلك بوجود وَادِي الشَّعْبَةْ، الذي يَعْبُرُ المدينة بمجراه الأسفل".

شرح وتفسير وتعريف معنى "وَادِي الشَّعْبَةْ"

عند تفحصه وتشريح عبارة "وَادِي الشَّعْبَةْ" وجد المؤرخ والباحث الأستاذ إبراهيم كريدية أن الوادي هو شكل من أشكال جريان الماء السّطحي، مثل النّهر والغدير والسّيل، وهو يطلق على المسيلات المائية السّطحية الموسمية، بالمناطق الجافة.

وأوضح بأن القواميس الأجنبية تذهب إلى القول بأن "الوادي" هو مصطلح جغرافي مغاربي يخص فقط بلدان المغرب العربي، وخاصة بلدان المغرب والجزائر وتونس. حيث يسمح المناخ المتوسطي الرّطب بوجود جريان سطحي يعبر عنه، بمصطلح "الْوَادْ" مثل وادي تانسيفت، ووادي أم الربيع، ووادي أبي رقراق بالمغرب، ووادي شيلف بالجزائر، ووادي مجردة ووادي سريانة بتونس.

وجاء في لسان معجم العرب، لابن منظور، شرح لعبارة "الشِّعَبْ" ولعبارة "الشُّعْبَةْ" فأورد بشأن العبارة الأولى أن "الشِّعَبْ" هي ما انفرج بين جبلين ـ أي ما يصطلح على تسميته بالوادي ـ وأورد هذا المعجم بشأن شرح العبارة الثانية "الشُّعْبَةْ" أنها تعني المسيل الصغير ـ أي نهر بصبيب ضعيف ـ وأكد بأن هذه الشروح، تتفق مع الواقع الجغرافي والطوبوغرافي لـ "وَادِي الشَّعْبَةْ" وللمنطقة التي يجري فيها، والتي تعرف شعبيا باسم "الشَّعْبَةْ". فالشَّعْبَةْ تمثل سفحان منفرجان متقابلان، ببطنهما ـ أي بأسفلهما ـ يوجد مجرى مسيل صغير موسمي الجريان.

ذاكرة ونوستالجيا "الوادي" بأسفي

وأشار في معرض حديثه، على أن هذه "الشَّعْبَةْ" كانت في الماضي، عامرة بالسكان، وكانت جنباتها غنية بالبساتين والأشجار المثمرة، وكان عامل أسفي يشملها بسلطانها الإداري والجبائي. مستشهدا بأنقاض منازل وسواني مازالت تشهد على ماضيها الأخضر الزّاهي.

وأوضح كريدية، على أن "وَادِي الشَّعْبَةْ" كمسيل صغير، أو كـ "نُهَيْرْ" ـ أي نهر صغير ـ أو كـ "غدير" هو واحد من ثلاث أودية كانت موجودة بمحيط أسفي، وهي وادي "الَبَاشَا"، ووادي "إِغْزَرْ"، ووادي "الشَّعْبَةْ".

اسم "وَادِي الشَّعْبَةْ" موجود في الجزائر وليبيا

في معرض حديثه عن تاريخ هذا الوادي، أكد المؤرخ الباحث الأستاذ إبراهيم كريدية بأنه كان يعتقد أن وَادِي الشَّعْبَةْ هو اسم شعبي حديث وبديل لاسم قديم، تلاشى واختفى، وتم نسيانه، ولكن اعتقاده سرعان ما ضعف لما وجد مثل هذا الاسم يطلق في الجزائر وفي ليبيا. حسب بحته وتنقيبه التاريخي والجغرافي. حيث وجد بأن "وَادْ الشَّعْبَةْ" في بطنة في الأوراس بالجزائر، ووجد أيضا "وَادْ الشَّعْبَةْ" في ليبيا.

تعرف على خصائص "وَادِي الشَّعْبَةْ"

ومن خصائص هذا الوادي ـ حسب كريدية ـ فهو مَسِيل أو نهر صغير، قادم من عيون تَاكَبْرُوتْ شرق مدينة أسفي. يشق مجرى ضيق عبر الشَّعْبَةْ لينتهي في المحيط، على طول مسافة تقدر بحوالي 12 كلم، ويشهد عمق مجراه واتساعه على أن صبيبه كان دوما ضعيفا، قياسا إلى نظيره في الأنهار المجاورة، كنهر أم الربيع، ونهر تانسيفت. وأضاف نفس المتحدث موضحا بأن جريان "وَادْ الشَّعْبَةْ" كان في الماضي يستمر لعدة شهور وربما أكمل السنة. مؤكدا على أنه عاين هذا المشهد منذ طفولته وحتى مع بداية السبعينات خلال القرن الماضي. مشددا على أن "وادي الشّعبة" قد غدى جافََّا تجري فيه المياه فقط وقت سقوط المطر، إما لساعات أو لأيام معدودات.

من هنا كان يعبر "وادي الشَّعبة"

واسترجع الباحث المؤرخ إبراهيم كريدية مشاهد من الماضي لمجرى الأسفل لـ "وادي الشّعبة" حيث كان يخترق "بَابْ الشَّعْبَةْ" في اتجاه البحر حيث مصبّه، مستحضرا تحصينه من طرف البرتغاليين الذين حفروا قناة نقلوا إليها مجرى النهر، ليسير بمحاذاة الأسوار من الخارج حتى البحر.

سيول "وادي الشَّعبة" المباغتة والكاسحة والمدمِّرة

أكد إبراهيم كريدية، على أن هذا الوادي كان مصدر خوف كبير وترقب دائم، عند ساكنة مدينة أسفي، بسبب ما كان يتجمع فيه من مياه سيول "الشَّعْبَةْ" والمناطق المجاورة في السنوات المطيرة. حيث كانت تندفع بكميات كبيرة وبقوة وسرعة نحو المدينة العتيقة. فتصيبها بفيضانات مباغتة، وكاسحة، ومدمرة، كانت تغرق أحيائها ومنازلها ومتاجرها بالمياه والأوحال، وتزهق الأٍرواح، وتفسد الأموال، والسلع والأثاث، وتتسبب في هدم الأسوار، والدور، وفي نفوق الدواب، وحتى المسجد الأعظم والمدرسة العتيقة والزاوية الناصرية لم يسلموا من أضرار هذه السيول المدمرة. إذ كانت المياه والأوحال تغمر المسجد الأعظم وتفسد خزانة كتبه وأفرشته، وتتسرب إلى المدرسة العتيقة والزاوية الناصرية.

في سياق متصل أورد الباحث والمؤرخ الأستاذ إبراهيم كريدية أربع أمثلة من فيضانات القرون الثلاث الماضية التي عرفتها أسفي بسبب "وَادْ الشَّعْبَةْ" وهي كالتالي:

أولا: فيضان واد الشعبة في سنة 1205 هجرية الموافق لسنة 1791 ميلادية

في هذه الفترة هاجم وادي الشعبة بسيوله في منتصف الليل، وسكانه نيّام، وأغرق في رواية عما يزيد عن 20 نفرا، وفي رواية أخرى ما يزيد عن 100 من الأنفس.

ثانيا: فيضان واد الشعبة سنة 1272 هجرية الموافق لسنة 1855 ميلادية

فيها اعترض موج البحر تصريف المياه القادمة مع السيول، مما أدى إلى غمر المياه لوسط المدينة بعلو كبير اضطر معه السكان إلى استعمال المراكب في التنقل. وعجيب هذا الفيضان أنه لم يغرق ويقتل سوى شخصا واحدا واسمه "عَيْصُوتْ"، وهو من السكان اليهود، فتم التأريخ لهذا الفيضان باسمه إذ أطلق عليه "حَمْلَةْ عَيْصُوتْ".

ثالثا: فيضان وادي الشعبة سنة 1319 هجرية الموافق لسنة 1901 ميلادية

في هذه السنة غمرت المياه القوية جميع دروب المدينة العتيقة، بل تجاوزت المياه باب الرباط بما يسمى حاليا ساحة الاستقلال، وبسببها أفلس التجار، والحرفيين جراء إتلاف سلعهم، وضياع محترفاتهم، حتى أن أحد علماء المدينة وهو الفقيه أحمد ابن علي الصويري، رقَّ لحالهم، وكاتب السلطان المولى عبد العزيز ملتمسا عونه لهؤلاء المتضررين.

وأورد نفس المتحدث مما جاء في الرسالة الموجه للسلطان بالقول:

"أن السيل أذهل الأذهان، فقد أقبل يملأ السهل والجبل، فأعفى هذا البلد من بعض آثارها، وهدَّ بعض من أسوارها، وفاض الماء حتى على الأموال فأغرقها، ودفت حوانيت بالحجارة والرمال، وقلع جل مصارعها ـ أي أقفالها ـ واكتسح ما فيها، واضمحلت نعمة أربابها، ودخل لبعض الدور، وأفسد القماش والزروع، ـ أي مخزونها من الحبوب والمواد الغذائية ـ فصار الناس لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، ولا يحكمون تدبيرا، ولا يملكون قليلا ولا كثيرا، ولا من ينفع خرقهم ويسد ثلبتهم إلا اللجوء إلى الله، ثم إلى باب سيدنا المنصور بالله يطلبون تسليفهم من بيت المال عمره الله".

رابعا: فيضان واد الشعبة سنة 1346 هجرية الموافق لسنة 1927 ميلادية

كان هذا آخر فيضان يضرب مدينة أسفي، نظرا لهول أضراره، حيث صار الآسفيون يؤرخون به لأحداثهم بتسميته "عَامْ الدِّيـﮜَا". فقد داهم هذا الفيضان المدينة، وفاجئ سكانها، وأغرقها بمياهه بحيث لم يذخر دارا ولا متجرا ولا مسجدا ولا مدرسة.

واستشهد في هذا السياق بمقال صدر وقتئذ بجريدة "لُوبْتِي مَارُوكَانْ" الاستعمارية، التي تناقلت خبر هذا الفيضان، حيث جاء فيها:

"أنه بعد يوم وليلة، من المطر الغزير، هاجم واد الشعبة، بحمولة قوية من المياه والأوحال المدينة، وذلك في الثانية صباحا من يوم الإثنين 21 نونبر 1927، في وقت كان فيه الظلام حالكا، والناس نيام، فبلغ علو الماء في بعض الأماكن المترين والنصف، فجرف كل من كان نائما بالشارع. وأمكن إحصاء 7 من القتلى، كما جرف عددا من دواب الخيل، وأفسد كل سلع المتاجر المتراصة على طول زنقة باب الشعبة، بما تقدر قيمته بعدة ملايين من الفرنكات".

وبسبب هذه الأضرار يقول الأستاذ إبراهيم كريدية، سجلت سلطات الحماية الفرنسية من أجل حفر وتعميق وتبليط القناة أول مجرى اصطناعي ابتداء من جْنَانْ الْفَسْيَانْ حتى البحر، وتم تحريف القناة في اتجاه وادي الشَّعبة، لتستوعب مياهه وقت الفيضان، وتحمي المدينة من عبثه وأضراره.

وقد جاء هذا الإصلاح الذي اكتمل سنة 1928، بعد تأخير امتد لـ 15 سنة، حين قدم الآسفيون للمقيم العام "ليوطي" عند زيارته لمدينتهم مطلع سنة 1012، مطلبا بخصوص هذا الخطر المتكرر، ضمنوه في رسالة جاء فيها:

"اعلم دام سعدك، أن بلدنا ـ أي مدينة أسفي ـ تأتيها السيول، تهجم عليه، وتمر بوسط البلد، وفي بعض السنين يكثر المطر ويعظم السيل، وقد يصل إلى السور، ويبيد السلع ويتلف النفوس كما وقع في بعض السنين القريبة، وغير خاف في نظرك أن هذا مما يهتم به ويقدم على كل شيء وقبل جميع الإصلاحات".