Tuesday 16 December 2025
كتاب الرأي

أنور الشرقاوي: الغدة الدرقية.. حين يختلّ المزاج ويصبح المريض عرضة لإستشارات طبية نفسية غير ضرورية وغير مجدية

أنور الشرقاوي: الغدة الدرقية.. حين يختلّ المزاج ويصبح المريض عرضة  لإستشارات طبية نفسية غير ضرورية وغير مجدية الدكتور أنور الشرقاوي
كثير من المرضى يُعالجون نفسانيا لسنوات من اضطرابات المزاج، بينما يكون السبب في الأصل هرمونيًا.
تشخيص الغدة الدرقية قد يجنّب المريض أحيانًا تيهًا نفسيًا لا يدعو لكشف طبي نفساني. 
هناك نوبات غضب تندلع بلا سبب واضح.
وأحزان لا يسبقها حزن.
ونوبات من الابتهاج المفرط تتصاعد فجأة… ثم تنهار دون إنذار.
يُلام التوتر، أو الطبع، أو التقدّم في السن، وأحيانًا تُلصق التهمة بالجنون.
ونادرًا ما تُوجَّه الأنظار إلى غدة لا يتجاوز وزنها بضعة غرامات، تستقرّ في أسفل العنق، صامتة لكنها صاحبة سلطة خفية: الغدة الدرقية، كما يوضح الدكتور فؤاد الرقيوق، رئيس الجمعية المغربية لأمراض الغدد الصماء.
عندما تختلّ وظيفة هذه الغدة، لا يهتزّ الجسد وحده.
بل يضطرب المزاج.
وتتغيّر نظرة الإنسان إلى العالم.
وتتبدّل طريقته في الحب، والانفعال، والبكاء، والضحك.
في حالة فرط نشاط الغدة الدرقية، أي الزيادة في إفراز هرموناتها، يندفع العقل بسرعة مفرطة.
يصبح التوتر دائمًا.
وأبسط تأخير يُستقبل كإهانة.
تسبق الكلماتُ التفكير، وتنفجر المشاعر بلا ضابط.
يقلّ النوم، ويتسارع الكلام، وتُعاش الحياة بوتيرة مفرطة…
ثم يأتي الإرهاق فجأة، قاسيًا، وغير مفهوم.
وعلى النقيض، تؤدي قصور الغدة الدرقية، أي نقص إفراز الهرمونات، إلى بطء ثقيل ومتسلّل.
تصبح الأيام مثقلة.
وتتراجع مشاعر الفرح.
ويفقد العالم ألوانه.
تتسلل كآبة صامتة لكنها عنيدة، كثيرًا ما تُخطئ وتُشخّص على أنها اكتئاب.
ينغلق المريض على نفسه، دون أن يدرك السبب الحقيقي.
كثير من الشخصيات العالمية الشهيرة عاشت هذه العواصف الهرمونية دون أن تعرف مصدرها.
باربرا بوش، زوجة رئيس أمريكي سابق، عانت لسنوات من العصبية المفرطة، والإرهاق الشديد، واضطرابات عاطفية، قبل أن يُشخّص لديها داء باردو Basdow، وهو أحد أشكال فرط نشاط الغدة الدرقية.
وقد اعترفت لاحقًا بأنها ظنت طوال تلك السنوات أن ما تعانيه مجرد “إجهاد عصبي”.
جيجي حديد، أيقونة الموضة العالمية، كشفت أنها عاشت تقلبات حادة في المزاج، وقلقًا دائمًا، وهشاشة عاطفية، قبل أن تكتشف إصابتها بالتهاب الغدة الدرقية لهاشيموتو، وهو أحد أشكال قصور الغدة الدرقية.
خلف الأضواء والمنصات، كانت غدة مختلّة تتحكم في الإيقاع الداخلي لحياتها.
حتى أوبرا وينفري، الإعلامية الأشهر عالميًا، روت كيف أن قصور الغدة الدرقية غير المشخّص ألقى بظلاله على طاقتها، وأثر على مزاجها، وغيّر علاقتها بذاتها، إلى حدّ أنها لم تعد تتعرف على نفسها.
هذه القصص ليست مجرد حكايات شخصية.
إنها تجسيد حيّ لما يردّده أطباء الغدد الصماء منذ عقود.
يقول البروفيسور شلومو ميلمد، أحد أبرز أعلام الغدد الصماء في لوس أنجلوس:
«الغدة الدرقية أشبه بقائد أوركسترا عاطفية. عندما يختلّ إيقاعها، لا تفسد نغمة واحدة فقط، بل تختلّ سمفونية الشخصية بأكملها».
أما البروفيسور باولو بيك-بيكوتسو، المرجع العالمي في أمراض الغدة الدرقية في ميلانو، فيؤكد حقيقة أساسية:
«كثير من المرضى يُعالجون لسنوات من اضطرابات نفسية، بينما يكون السبب في الأصل هرمونيًا. تشخيص الغدة الدرقية قد يجنّب المريض مسارًا علاجيًا نفسانيا خاطئًا».
ويذكّر البروفيسور أنتوني ويتمن، الرئيس السابق للجمعية البريطانية للغدة الدرقية، بحقيقة غالبًا ما تُنسى:
«الغدة الدرقية لا تفرز فقط هرمونات الاستقلاب.
إنها تؤثر في الدماغ، والناقلات العصبية، والمشاعر، ونظرة الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين».
هنا تكمن قسوة هذه الاضطرابات.
المريض يبدأ في الشكّ في ذاته.
والمحيط يفسّر ما يحدث على أنه طبع صعب، أو هشاشة نفسية، أو أزمة عابرة.
وقليلون فقط يدركون أن مصدر هذا الاضطراب بيولوجي، قابل للقياس، وقابل للعلاج.
أحيانًا، تحليل دم بسيط يكفي لكشف الحقيقة.
ومع العلاج المناسب، تستعيد المشاعر توازنها.
يهدأ الغضب.
تخفّ الكآبة.
وتعود الطاقة.
ويستعيد المريض صورته الحقيقية.
الغدة الدرقية صغيرة، غير مرئية، وكثيرًا ما تُنسى.
لكن عندما تختلّ، تذكّرنا بحقيقة أساسية: الجسد والروح يتحدثان اللغة الهرمونية نفسها، كما يشير الدكتور حمدون الحساني، طبيب مختص في أمراض الغدد الصماء.
وأحيانًا، فهم تقلب المزاج لا يتطلب أكثر من الإصغاء إلى غدة تطلب أن تُسمَع.
 
الدكتور أنور الشرقاوي / خبير في التواصل الطبي والإعلام الصحي