الواد لا ينسى مجراه الطبيعي. سواء في سفح الجبل أو منحدرات وشعاب الهضاب...هو بطبعه ثائر ضد كل من يحاول أن يسطو على مساحاته وتحويلها إلى مصالح ومنافع خاصة دون مراعاة لتقلبات الطبيعة ومجالها المقدس.
استحضر هنا والآن كيف اختار القائمون على تشييد مقر عمالة اليوسفية الحديثة النشأة وسط مجرى "واد كشكاط" الذي تروي قصصه الطبيعية مشاهد وصور ضاجة بالمآسي والفواجع حين يثور ويأتي محملا بالأحجار والأشجار والحيوانات والبضائع التي يجدها على جنبات ضفافه. وهل ننسى عدد الوفيات التي قيد لها أن تودع الحياة غرقا.
"واد هارون" المتشبع بحسن الجوار مع واد أم الربيع، هو الذي حمل اسم "واد الشعبة" بأسفي، حيث كان يدق ناقوس الخطر منذ عقود. وكان يمر مثل "ثعبان الكبرا" الخطير. يهدد ولا يلدغ. كان يحدث الرعب في نفوس ساكنة المدينة القديمة وشارع الرباط ويترك أثره بجانب ضريح الولي الصالح سيدي بو الذهب...كانت رسائله التهديدية واضحة وغير مشفرة. لكن "كم حاجة قضيناها بتركها"...حتى انكشف هول المصيبة.
يوم الأحد الأسود بحاضرة المحيط كان هيجان "واد الشعبة" ثورة حقيقية ضد القائمين على تدبير الشأن المحلي، بفعل منسوب فيضانات التساقطات المطرية. حيث هجمت مياهه الغزيرة دون رحمة ولا شفقة على البيوت الهشة و المتهالكة؛ والمحلات التجارية... وحملت معها كل الممتلكات والتجهيزات والسلع والبضائع...حاصرت الصغار والكبار والكهول والعجزة...نساء ورجالا...لقد أزهقت الأرواح في غفلة من الجميع.
مشاهد الأحد الأسود نقلت مأساة نساء تكلى..شباب يتوجع ويتألم...عويل ونداءات استغاثة تطالب بالتدخل العاجل....موتى داخل محلات الذهب...مفقودين حاولوا إغاثة أقربائهم...مياه غمرت كل المساحات...اختناقات مجاري الصرف الصحي...زعيق منبهات سيارات الاسعاف والشرطة والقوات المساعدة...فعلا كانت مشاهد تعلن أن أسفي تعيش النكبة.

للأسف، حتى مزهريات الفخار تكسرت وانتشر حطام الطين هنا وهناك...فيضانات جارفة محملة بكل شي، ثَقُلَ أو خَفَّ وزنه...غَلَا أو رَخِصَ ثمنه. لقد كانت رائحة الموت تنتشر في كل ركن وزاوية. فكيف للملائكة أن تحلق فوق سماء أسفي المنسي والمنكوب. وحدها شذرات من غناء العيطة الحصباوية تعيد صياغة رثاء الفقدان الصعب في زمن اللامبالاة.


