Monday 8 December 2025
مجتمع

أنور الشرقاوي : حكاية مؤلمة لطبيبة في القطاع الخاص.. من مخلفات حقبة الكوفيد من جهة والجهل بالقانون من جهة أخرى

أنور الشرقاوي : حكاية مؤلمة لطبيبة في القطاع الخاص..  من مخلفات حقبة الكوفيد من جهة والجهل بالقانون من جهة أخرى الدكتور أنور الشرقاوي، خبير في التواصل الطبي والإعلام  الصحي 
إنّها حكايةٌ حقيقية.
واقعة مغربية.
حدثت في زماننا هذا 
وهي، قبل كل شيء، حكايةٌ موجعة.
قصةُ طبيبةٍ قضت ثلاثين عامًا تخدم أهلَ حيّها في عيادتها الصغيرة الخاصة … ثم وجدت نفسها، في عام 2025، أسيرة جهلها ببعض القوانين، وأسيرة سنوات الجائحة وتداعياتها.
كانت تلك الطبيبة تحتفظ بعيادتها المتواضعة في قلب حيّ شعبي،
بابٌ أنهكته الفصول، مصباحٌ يصارع العتمة، وبساطٌ مرَّت عليه آلافُ الخطوات وآلافُ الحكايات المبلّلة بالقلق والوجع.
ثلاثون سنة…
عمرٌ كامل،
نَفَسٌ طويلٌ يختلط بأنين المرضى وابتسامات الأطفال.
مرَّ من بابها نساءٌ خائفات، وأطفالٌ محمومون، وعُمّالٌ أنهكتهم لقمة العيش.
عالجت الجميع كما تُعالج الأم أبناءها،
لم تبخل بساعةٍ ولا بليلٍ، ولا ترددت حين كان لو كان المقابلُ يتلخص في " الله يرحم الوالدين ".
كان أهالي الحيّ ينادونها: "لالة الطبيبة".
وكان هذا اللقب وحده يكفيها،
حين تضيق الحياة وتقف نهايةُ الشهر مثل جدارٍ أصمّ.
ثم جاءت سنواتُ كورونا.
ذلك الزمن الذي أُغلقت فيه الأبواب كما تُغلق الجفون المذعورة.
سكت الحيّ،
توقّفت الأزقة عن التنفّس،
وشعرت الطبيبةُ، هي أيضًا، أن روحها تضعف…
لا بسبب الفيروس،
بل بسبب ثلاثين عامًا حملت فيها أوجاع الآخرين فوق كتفيها.
توقفت عن العمل.
أغلقت العيادة كما تُغلق دارٌ عجوز تنتظر من يعيد إليها الحياة.
ذهبت لتستريح… وقد ظنّت أنّ العمر سيُعطيها أخيرًا ما حُرمت منه.
لكن السنوات مرّت،
وحلّ البريد مكان المرضى.
رسالة بعد أخرى،
حتى جاءت تلك «الصفعة» الإدارية:
37 ألف درهم.
متأخرات إيجار.
متأخرات ماء.
متأخرات كهرباء.
كانت العيادة المغلقة، مثل شبحٍ جائع، تبتلع الفواتير دون أن يدخلها أحد.
فتحت الرسائل ويدُها ترتجف.
وفي شتاء 2025، نطقت القوانين ببرودها المعهود:
إن لم تُسدّد…
فالسجن بانتظارها.
نعم، السجن لطبيبةٍ خدمت الناس ثلاثين عامًا.
سجن… من أجل ماءٍ لم تشربه، وكهرباءٍ لم تُضئها، وإيجارٍ لم تسكنه.
امرأةٌ و طبيبية تصارع ،
أوراقٌ تتراكم،
ودَينٌ أثقل من صدرٍ أنهكه الزمان.
كان وجهها تلك الليلة وجهَ امرأةٍ لم تُدّخر لها دروسُ الحياة شيئًا.
أعطت كثيرًا…
بل أكثر مما يحتمله قلبٌ يريد فقط أن يشيخ بسلام.
وحين انتشرت قصتها بين الأطباء،
انتشرت مثل موجةٍ صامتة.
انخفضت رؤوسٌ،
واشتعلت قبضاتٌ من الغضب.
ثم نهض رجل.
طبيبٌ مثلها.
أخٌ في المهنة والإنسانية.
رفض أن يرى كرامتها تُسحق تحت حذاء البيروقراطية.
سدّد دينها…
وأنقذها من مهزلةٍ كانت ستزجّ بطبيبةٍ في السجن لأنها لم تدفع فواتير عيادةٍ مغلقة منذ سنوات.
ومع ذلك، يبقى السؤال… سؤالٌ لا يريد أن يهدأ:
 هل يُعقَل، في عام 2025، أن طبيبةً قضت ثلاثين عامًا تخدم حيّها لا تستطيع أن تدّخر ما يحمي شيخوختها؟* 
هل يُعقَل أن الطبّ الحرّ، الذي كان رمزًا للكرامة والاستقلال، أصبح طريقًا لا يَعِد حتى بتقاعدٍ كريم؟
إنها حكايةٌ حقيقية.
حكايةٌ مغربية.
حكايةُ زمننا.
وحكايةٌ… بكل أسف… مأساوية.