Wednesday 3 December 2025
كتاب الرأي

عثمان بن شقرون: الفيسبوك.. منطق المنصّة وتحوّلات الذات

عثمان بن شقرون: الفيسبوك.. منطق المنصّة وتحوّلات الذات عثمان بن شقرون
لم يعد الفيسبوك مجرّد وسيط اجتماعي عابر؛ لقد بات نموذجاً تمثيلياً مفصلياً لفهم البنية الذهنية للإنسان المعاصر وطبيعة تصدّعاته الحديثة. إن المنصّة لم تُغيّر من طبيعة البشر بقدر ما كشفتها وأجلت ما كان يتوارى في طبقات اللاوعي أو يتخفّى داخل آليات الحياة اليومية، ليخرج إلى السطح باعتباره «محتوى» مُتداولا. لذلك، فالنظر إلى الفيسبوك بوصفه تقنية هو تبسيط يطيح بجوهر الظاهرة الإبستمولوجي. إنّه في حقيقته نظام إدراكي متكامل يشتغل على إعادة تشكيل علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين، ويفرض منطقاً جديداً على كيفية رؤيتنا لمعايير القيمة والوجود.
 
حين انتقل ملايين العرب من ثقافة الشفاهي إلى الكتابي عبر الفيسبوك، لم يكن الأمر نقلة تقنية بل تحوّلًا في تمثّل الذات. لقد وجد الفرد فضاءً يُمكّنه من التفجير اليومي للذات عبر سيرة مجهرية تُكتب على شكل يوميات، معوّضاً بذلك الفراغ البنيوي للواقع: فراغ الاعتراف وفراغ الإصغاء. إلا أن هذا الفضاء شهد تراجعاً لسطوة الكلمة المتأملة لصالح حضور الصورة الطاغي، لتصبح الكتابة مجرد تعليق توضيحي للإطار البصري الذي يحتضنها. هذا التحول يتماشى مع منطق الاستهلاك السريع وثقافة العرض التي تهيمن على المنصة. هذا الكشف عن الذات هو في جوهره إسقاط مُصمَّم لغاية توليد التفاعل، وليس تحقيقاً للاعتراف الحقيقي؛ فالمنصة لا تقدّم سوى اعترافاً سريعاً وقابلاً للتصريف على هيئة نقرة، لا يشبع الجوع العميق للأصالة، بل يُدمنه الفرد عوضاً عن ذلك.
 
يُقال إن الفيسبوك فتح الباب للجميع كي يكتبوا ويعبّروا عن أنفسهم. لكن ما حدث فعليًا هو تلاشي الفوارق بين الخطاب المنتج الذي يتطلب جهداً تأملياً، والخطاب العابر الذي يولد بضغط اللحظة. لم تعد القيمة معياراً للحقيقة أو العمق، بل الظهور البصري والانتشار نفسه صار قيمة مُقاسة رقمياً. وهذا ما يجعل المنصّة أشبه بـ "سوق رموز" لا يتحكم فيها العرض والطلب البشري القائم على الجودة، بقدر ما تتحكم فيها آليات الخوارزمية. هذه الخوارزمية لا تقرأ المعنى ولا تحتفي بالمرجعية، بل تُكافئ الانفعال المباشر والصورة الصارخة والاستجابة الانفعالية على حساب التفكير المتأني، لأنها مصممة لتحقيق أقصى درجات الانخراط والإلهاء. إنّها ديمقراطية معلّقة، تمنح الجميع حق الكلام، لكنها تفضل وتُكافئ المحتوى السطحي والسريع الذي يحقق "التضخم الإحصائي للذات" ويُبقي العين مشدودة إلى الشاشة، بينما تدفن أدوات التفكير الهادئ والنقاش المتعمق في بحر من الإشعارات والتفاعلات الزائفة.
 
ليس باب الصداقة في الفيسبوك علاقة متينة أو عضوية، بل هو تعبير صريح عن هشاشة بنيوية مضاعفة. إنه محاولة دائمة لجمع "رأس مال اجتماعي مُعلَّب" وإعادة بناء شبكة من الروابط الرمزية تعوّض ما تهدّم في الواقع الاجتماعي من تفكك أسري وتقلّص للفضاء العمومي. وما يبدو رابطاً إنسانياً هو في جوهره آلية هروب من عزلة مُضاعفة. إنها عزلة الواقع الملموس وعزلة الشاشة التي توفّر وهم الانتماء. هذه العلاقات لا تُبنى على الثقة المتبادلة بل تُدار بـحذر مستمر؛ فالصديق الرقمي هو شاهد على الأداء الاجتماعي بقدر ما هو شريك عاطفي، مما يفرض على المستخدم فلترة دائمة لما يُنشر لتجنب سوء الفهم أو الحكم. ولهذا، تتحول الصداقة إلى علاقة منفعة تمثيلية أكثر منها علاقة مشاركة أصيلة. هذه الشبكة، رغم اتساعها الرقمي، تفشل في توفير الدعم الحقيقي في اللحظات الحرجة، لأنها تنتمي إلى منطق الصورة والظهور وليس إلى منطق الغياب والاحتواء، لتترك الفرد وحيداً داخل حشد افتراضي صاخب.
 
ورغم ادعاء المنصّة الحياد التقني، فإنها أصبحت مسرحاً مكشوفاً يعيد إنتاج البنى التقليدية للعلاقة بين الرجل والمرأة بشكل أكثر تعقيداً وأقل مساءلة. إنها هندسة رقمية تتيح انفلاتاً من العواقب الاجتماعية عبر التخفّي خلف الأسماء المستعارة أو الشاشات، حيث يُعاد تدوير السلطة الأبوية من خلال أدوات رقمية مثل الملاحقة والتحرّش والابتزاز الإلكتروني، مما يمنح هذه الممارسات شكلاً جديداً من التطبيع. لم يُلغِ الفيسبوك الصراع الجندري، بل أعاد صياغته في قالب يكرّس نزعة التشييء؛ فتحت ضغط أداء الأنوثة في هذا الفضاء البصري، حيث تتحوّل الذات إلى سلعة عرض مرئي يمكن استهلاكها والتخلص منها بسرعة نقرة واحدة. هذا الأداء يتطلب مجهوداً مستمراً لتقديم نسخة مثالية، مما يفاقم من الاستغلال الذاتي للجسد والصورة. إن غياب الحضور المادي ووهم الأمان يرفع حواجز الحياء والمساءلة، مما يجعل الخداع أكثر أناقة والرغبة أكثر انفلاتاً، ويجعل من المنصة ساحة يومية لتداول الرموز السلطوية والانتهاكات بعيداً عن عين المجتمع المباشرة.
 
في النهاية، لا يكشف الفيسبوك عن المستخدم بقدر ما يدفعه ويُحفّزه إلى الكشف عن نفسه. تعمل المنصة كمختبر ضخم للسلوك الإنساني، لكنها مختبر يفرض قواعد التجربة على عينات البحث نفسها. كل منشور هو عملية إسقاط مُصمَّمة بعناية، لا لتفريغ المكبوت، بل لتوليد الرد والفعل. وكل تفاعل هو شكل مبطّن من أشكال طلب الاعتراف، حيث يصبح "الوجود" مُساوياً لـ "الظهور". لا تقول لنا المنصّة من نكون في دواخلنا، بل تقول لنا كيف نريد أن نُرى وكيف يجب أن نُؤدّي دورنا الاجتماعي للحصول على القبول الرقمي. وهنا تكمن وظيفتها الأعمق: إنها جهاز لفهم البنية المتصدّعة للذات الحديثة، فهي تُحوّل الذات من كيان داخلي معقد إلى سلسلة من البيانات القابلة للقياس والتوجيه. هي ليست مجرد فضاء للكلام، بل نظام إدراكي يفرض شروط الوجود التمثيلي ويجعل المستخدم في حالة مراقبة ذاتية مستمرة، يسعى فيها لتقديم أفضل نسخة مُعدّلة وقابلة للتداول من ذاته.
في النهاية، لا يمكن اختزال الفيسبوك في خانة الإنجاز التقني أو الفشل الاجتماعي. إن المنصّة تمثل تحولاً إبستمولوجياً حاسماً في طريقة رؤية الإنسان لنفسه؛ فهي نظام يفرض منطق الكمّ على الكيف، ويستبدل الاعتراف الأخلاقي بـالاعتراف الزائف والقابل للتصريف، ويُعمّق العزلة البنيوية تحت وهم الانتماء. لم يغير الضوء الأزرق العالم؛ هو فقط أضاء المناطق التي كان الناس يفضلون بقاءها في الظل، كاشفاً عن عمق هشاشة الذات الحديثة وجوعها الدائم للاعتراف السريع. لكن التكلفة الحقيقية ليست في الكشف، بل في قبولنا لطبيعة هذا التمثيل السطحي بديلاً عن الحقيقة المعقدة لوجودنا وتصدّعاته.