إذا كنتَ تريدُ أنْ تحقِّق شيئًا تبتغيه لنفسكَ في الحُكم أو في الجلُوس على مِقعدِ السُّلطة، لماذا تتغطَّى بالدين؟
إنه ليس ستارًا أو غِطاءً تُنزلُه، أو تلتحفُه، كي تمُرَّ، ويعتبرَكَ الناسُ تقيًّا، ورعًا، إمامًا، مُرشدًا، عالمًا، فقيهًا، شيخًا، وأنتَ في الأساسِ بعيدٌ كل البُعدِ عن هذا.
أنتَ كأسلافكَ تقتلُ، وتُمثِّل بالجُثثِ، وتقطعُ الرؤُوسَ، وتحملُها هدايا إلى قائدكَ ليرضَى عنكَ، ويتأكَّدَ أنك ستُحْيى الدينَ، كما أنكَ أيضًا تنبشُ القبُورَ، وتُخْرِجُ الجُثثَ منها، فتصلبها على أبوابِ المدينةِ، ثم تحرقها بعد ذلك، كأنكَ لا تعرِفُ أنَّ المسلمين (جميعًا) إخوةٌ في الدين.
أنتَ، ومنْ معكَ، تدفِنُونَ الناسَ أحياء، بعدما تطْمِرُون عليهم الترابَ، وإنْ لم تفعلوا ذلك ضربتُم أعناقَهُم، لأنَّهُم كما تعتقدون خارجُون من الدين، إذْ لم أر إجبارًا على عبادةِ الله، واستذلالاً للمسلمين من إخوتِهم، الذين هم من المُفترضِ أن يكونُوا مسلمين، كما هُو حادثٌ الآنَ، وإنْ كان بطبيعةِ الحالِ لهُ جُذورٌ عميقةٌ في أزمنةٍ إسلاميةٍ سابقةٍ، ليس مع العامةِ فقط، ولكنْ امتدتْ إلى الفقهاء والعلماء والفلاسفة والمُتكلمين والشُّعراء، وليست محن أحمد ابن حنبل، والحلاج، وشهاب الدين السُّهروردي وابن رُشْد، وابن المُقفَّع، والكِنْدي، والرازي، وابن سينا، وابن خلدُون، ومئات غيرهم صُلِبُوا وعُذِبُوا، وقُطِّعت أوصالُهم، وأُحْرِقُوا، وضُرِبُوا على رؤُوسِهم بالكُتبِ التي ألَّفُوها حتَّى فقدُوا أبصارَهم، وألقوا في السجون، وسحلوا أمام العامة في الميادين ببعيد.
يُمكنُ لك أن تحتجَّ بأية طريقةٍ مناسبةٍ لك، تبتكرُها أو تُكرِّرها أو تستنسخُها من آخر أو مماثلٍ لكَ في مكانٍ ما، ولكن ابتعدْ عن أن تُكفِّرُ مُخالفيك، فالجهاد الذي تدَّعيه الآنَ لا يعني القتلَ والسَّفكَ والسَّبي والحَرْقَ، واستحلالَ أموالِ المسلمين وغير المسلمين، وليس فيه تكفيرُ المسلم، لأنَّك لا تعلمُ إنْ كانت الجنَّةُ ستخلُو منه أم لا، وهو قد يكونُ أفضلَ منك عند الله دينًا وخُلُقًا.
كأنكَ لم تقرأ دينَك كما ينبغي لتلميذٍ يدرُسُ في مدرستِه، وليس كـ «شيخٍ» يُسمِّى نفسه مُجاهدًا في سبيلِ الله.
تحرَّرْ من نزعتِك التكفيريةِ التي تستشري في كلِّ دولِ العالم الإسلامي بمِلله وطوائفِه وأعراقِه ولغاتِه، لأنني أعرفُ أنك تُخفى مصالحَك الذاتيةَ وراء هذه النزعةِ.
أعرفُ أنك تحنُّ إلى العهد المُحمدي، وإلى زمنِ الصحابةِ، وإلى عُصُور الخلافةِ الإسلاميةِ، وتريدُ استعادةَ الأمجادِ الماضيةِ، وإحياء تُراثِ الأسلاف المُتشددين، وتتركُ ما لا يتوافقُ مع ضيقِ صدرِكَ، وقصر قامتك، والقوة التي انقضتْ ودالتْ، والدولة الإسلامية التي تفكَّكتْ، وانهارت، بعد أن كانت في عزِّ ازدهارها.
سنختلفُ كثيرًا حول التاريخِ، خُصوصًا تاريخ الخلافةِ الإسلاميةِ، حيث مع الأمويين والعباسيين شهدت الخلافةُ «أزهى» عُصور القتلِ والتعذيبِ، حتى طالت الاغتيالاتُ الخلفاءَ أنفسهم، إذْ كانوا يقتلُون بعضهم البعض، أو يقومُ بذلك زوجاتهم أو أمهاتهم أو آباؤهم أو أقرباؤهم أو العاملون في بلاطهم.
قلْ لي ما السبيلُ؟ وهل أنتَ راءٍ أنَّ ما تفعله هو الحلُّ الناجي الناجع النهائي المُؤدِّي إلى تقدُّم الأمة، ورفعة شأنها، ومُجاوزة محنها وفقرها وتخلفها، وأنك بذلك تعز الإسلامَ والمُسلمين؟
اعلمْ إذن أنك شوَّهتَ الدينَ الإسلاميَّ كثيرًا، وجعلتَ كثيرينَ حولَ العالمِ يقولون «الحمدُ الله أننا قرأنا عن الدين الإسلامي قبل أن نرى المُسلمين»، لأنك، باختصارٍ شديدٍ وبساطةٍ أشدّ، أسوأ مثالٍ على المسلم.
لماذا لا تقبلُ أن تعملَ أنت وجماعتُك، أو تنظيمُك، أو تيارُك، أو أنصارُك أو أي اسمٍ تتخفَّى وراءه على خدمةِ المُسلمين وبناء مجتمعاتهم، دون أن يكونَ لك هدفٌ في الاستيلاءِ على السُّلطة، كي تحكُم وتتمكَّن، لماذا إذا كنتَ تبغي الدينَ أن تذهبَ إليه مباشرةً، على الأقلِّ ستُثاب، ويكون لك أجران وليس أجرٌ واحدٌ، وتكونُ قريبًا من الجنة؟
المجالُ، فعلاً، فسيحٌ لتعملَ، ولن يعترضك أحدٌ سواء أكنت في مصر أم في ليبيا أم في العراق أم في تركيا أم في باكستان، أم في أفغانستان أم في غيرها من دول العالم الإسلامي.
اعملْ ولكن اعرفْ أنَّ هناك دياناتٍ أخرى موجُودةً في العالمِ كاليهوديةِ والمسيحيةِ والبُوذيةِ والهندُوسية والكُنفشيوسية وغيرها، ومن يدين بها أضعاف من يدينونَ بالإسلام.
أنت، بالتأكيد، تجعلُني أرتابُ في «مشروعك» الذي لا يبتغى إصلاحًا ولا تجديدًا، بل ما هُو إلا ردَّةٌ إلى الماضي الأسوأ، لأنه مبنىٌّ على مفاهيمَ مغلُوطةٍ للدين ونُصُوصٍ منزُوعة من سياقاتها وأحاديث في أغلبها ضعيفةٌ ولا سندَ لها، وكذا على الاستبدادِ والتسلُّط، وحِكْرِ العقيدةِ، واحتقارِ المُختلف معك، بل والتخلُّص منه، وليس مُجرَّد إقصائه فقط.
تذكَّر أنك تحملُ فأسًا لتهدم الدينَ بسلوكِكَ البعيدِ، تمامًا، عن ما حضَّ عليه ونادى به الدينُ، لأنك تستخدمُ الدين لهدفٍ سياسيٍّ محضٍ، وتُصارعُ طَوال الوقتِ على السُّلطة.
إنك فقط لم تعُد تُكفِّر مُسلمًا ما، ولكنَّك، أيضًا، صرتَ تُكفِّرُ الفِرقَ الأخرى وتحتقرُها وتفضحُها، وتُشوِّهها، وتقولُ بما ليس فيها، وتدَّعي عليها، وهى أيضًا تبادلُك التكفيرَ، وكُتب المِلَل والنِّحَل والفِرَق ليست ببعيدةٍ عن الأذهان، إذ تمتلئُ بتُهم التكفيرِ والزندقةِ.
أنتَ من الخوارج الجُدد الذين هُم أصحابُ استباحةِ الحُرمات، وقتلِ النساء وبيعهن كجوَارٍ في سُوقٍ عامة ينصبُونها لغرضٍ كهذا، كما أنهم يستحلُّون أموالَ المُسلمين وفُرُوج نسائهم، ويُفسِدُون في العبادِ والبلادِ، وهم عندي أفسقُ خلق الله في هذا الزمانِ، وليسوا سوى أنجاسٍ أرجاسٍ، فالآخر عندهم فاسقٌ، مُخلَّدٌ في النَّارِ.
والله سبحانه وتعالى لم يخُص أحدًا مِنكُم بعظمةٍ أو تفوقٍ أو عُلو كعبٍ، ولم يمنحْ أحدكم وحيًا أو توكيلاً لينُوبَ عنه في الأرضِ، بل أنتم رأيتُم في أنفسكم أنكُم مُنقذُو المُسلمين من الضلال، وأنتُم مُخالفون، أساسًا، لصحيحِ الدين، فكلنا من أهلِ القِبْلَة، ولا نحتاجُ مُرشدًا ولا إمامًا، إذْ فُطِر الإنسانُ على المعرفة، وتبيان الصحيحِ من الخاطئ، والتعامل بعُمقٍ معَ ما يعتقدُهُ من دينٍ.
لا يحتاجُ المسلمُ لكي يكُونَ مُسلمًا من أهلِ القِبلَة، أنْ يكفِّرَ من اختلفَ معه على مذهبه، لأنَّه يعبدُ إلهًا واحدًا، وغير زائغٍ عن الحقِّ، وليس من أهلِ الضلالةِ، أو خارجًا عن المِلَّةِ، بل التكفير متبادلٌ بين جماعاتِ الإسلام السياسي وبعضها البعض.
من يمتلكُ الحديث باسم الله، أو باسم الدينِ، أو باسم أهل السنة والجماعة، ويمارس اضطهادًا ضد من يغايرونه في الاعتقاد أو المذهب أو حتى في المذهب الواحد نفسه؟
هناك تكفيرٌ مُتبادلٌ بين المسلم وأخيه المسلم من قِبَلِ جماعاتِ التكفيرِ الإسلامية، فمنهم من يرى أن كُلَّ المسلمين ارتدُّوا بعد رسُول الله، وينبغي عليهم الاستتابة، والعودة من جديدٍ إلى الإسلام، وإلا وجب مُحاربتهم وقتلهم.
في كتابه «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة» يذكُر الإمام أبو حامد الغزالي، وهو أحد الذين كَفَّرُوا غيرهم، وطاله التكفيرُ ذاته، «... ولا ينجِّيكَ من هذه الورطة إلا أن تعرف حدَّ التكذيبِ والتصديقِ، وحقيقتهما فيه، فينكشف لك غلو هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضًا».
والتاريخ الإسلامي يعيدُ نفسه في مسائل تكفيرِ المسلمين بعضهم بعضًا.
(عن "المصري اليوم")