أثار اللقاء التشاوري حول التنمية الترابية المندمجة، المنظَّم بمقر ولاية العيون، نقاشًا واسعًا حول طبيعة ونوعية الحضور، ما دفع والي جهة العيون الساقية الحمراء، عبد السلام بيكرات، إلى الرد بشكل مباشر على الانتقادات، عقب مداخلات عشرين متدخلاً، مؤكدًا أن الحاضرين لا يمثلون إقصاءً لأي طرف، بل هم نواة أولى لحوار موسع، داعيًا إلى تبليغ الغائبين بأن باب المشاركة مفتوح للجميع.
هذا التوضيح أثلج صدور الحاضرين، وقطع مع كل التأويلات التي تُبخس المجهود الذي بذلته الإدارة الترابية لإنجاح هذا اللقاء، حيث أشرف الوالي شخصيًا على التحضير، إلى جانب الكاتب العام للعمالة وباشا المدينة، في تعبئة دقيقة شملت مختلف الفاعلين المحليين. وقد تم اعتماد منهجية انتقائية في استدعاء الفاعلين المدنيين، حيث تم التركيز على الجمعيات النشيطة في المجالات المعنية بالتشخيص، بما يتماشى مع المحاور الستة المخصصة للتشاور.
صباح يوم الاثنين 17 نونبر 2025، ستبدأ أشغال الورشات القطاعية التي ستحتضنها مقرات عمل المسؤولين الإداريين المباشرين، الذين سيشرف كلٌّ منهم في مجال اختصاصه على هذه الورشات، حيث أُسندت ورشة التربية والتكوين لمدير الأكاديمية الجهوية، ورشة الصحة بقيادة المدير الإقليمي، ورشة التشغيل والاستثمار بتأطير مدير المركز الجهوي للاستثمار، ورشة الماء تحت إشراف مدير وكالة الحوض المائي، ورشة التأهيل الترابي بتأطير مدير الوكالة الحضرية، وورشة التعليم العالي والتكوين المهني تحت إشراف المدير الجهوي للتكوين المهني.
هذه الورشات، إذن، تمثل امتدادًا عمليًا للقاء العام، وتُنتظر منها مخرجات قابلة للتنفيذ تُترجم في برامج تنموية مندمجة.
في اعتقادنا، وفي خضم هذا الحراك التشخيصي المجالي لإقليم بحجم مدينة العيون، تبرز الأسئلة الحارقة التي لا يمكن تجاهلها: من سيُقرر فعلاً في هذه اللقاءات؟ هل المشاركة مفتوحة أم انتقائية؟ وهل ستُفضي هذه الورشات إلى تغيير حقيقي في السياسات أم مجرد تمرين بروتوكولي؟ وهل المواطن، الذي يُفترض أن يكون محور التنمية، سيجد نفسه ممثلًا أم متفرجًا؟
اللقاءات التشاورية، في ظل التوجيهات الملكية، لم تعد مجرد تمرين إداري، بل أصبحت اختبارًا حقيقيًا لمدى نضج الفاعلين المحليين، وقدرة الدولة على الإنصات، وتجاوز البيروقراطية الإدارية في شموليتها. ففي خطابه أمام البرلمان بتاريخ 10 أكتوبر 2025، أكد الملك محمد السادس أن المغرب بحاجة إلى جيل جديد من برامج التنمية الترابية، يقوم على العدالة المجالية، والنجاعة، وتجاوز ثقافة الخطط الورقية. وهذا ليس مجرد توجيه، بل تشخيص واقعي لما عاشته البلاد لعقود، بشهادة أعلى سلطة في البلاد.
جهة العيون الساقية الحمراء وجهة الداخلة وادي الذهب تُعدّان نموذجًا لتجسيد هذه الرؤية الملكية، حيث رُصدت استثمارات ضخمة في البنيات التحتية، والموانئ، والطرق، والتعليم، والصحة، ضمن البرنامج التنموي للأقاليم الجنوبية الذي انطلق منذ سنة 2015. وقد حققت الجهتان مؤشرات تنموية متقدمة مقارنة بباقي الجهات، لكن التحدي اليوم لم يعد في حجم الاستثمار، بل في كيفية تدبيره، ومردوديته، وأثره على المواطن.
في هذا السياق، تعيش اللقاءات التشاورية تقييمًا لمحطة يُفترض أن تكون مهمة، خاصة أنها جاءت نتيجة حراك مجتمعي خرج إلى الشارع مطالبًا بحقوق اقتصادية واجتماعية مشروعة، حيث استجابت الدولة لهذه المطالب إيجابًا، وبإطلاق مشاورات على مستوى الوطن بغاية رسم خطة عمل مبنية على المقاربة التشاركية. لحظة مفصلية في علاقتها بالمجتمع المحلي، إذ لم تعد مجرد واجهة شكلية لإضفاء طابع تشاركي على تدبير وتنزيل السياسات العمومية، بل تحولت تدريجيًا إلى فضاء يعكس دينامية جديدة في تمثيل المصالح المحلية وصياغة الأولويات التنموية.
هذا التحول لا يرتبط فقط بإرادة الدولة في تجديد أدوات التخطيط، بل أيضًا بتغير ملموس في طبيعة الفاعلين المنخرطين في هذه اللقاءات، فقد بدأت النخب التقليدية، التي طالما احتكرت الحديث باسم الساكنة، تفقد بريقها أمام صعود فاعلين جدد من المجتمع المدني، شبابًا ونساءً، يحملون خطابًا أكثر واقعية وأقل ضجيجًا، ويراهنون على الكفاءة بدل الولاء، وعلى التأثير بدل التمثيل الرمزي.
ومن اللافت أن أقلية محلية، وإن كانت محدودة من حيث العدد، قد أبانت عن استعداد لافت للانخراط الواعي في هذه اللقاءات. هذه الأقلية لا تكتفي بالحضور، بل تُسائل المضامين، وتطالب بالوضوح، وتدعو إلى ربط الأقوال بالأفعال. إنها أقلية تؤمن بأن التنمية ليست مجرد مشاريع إسمنتية، بل مسار تراكمي من الثقة، والمحاسبة، والتخطيط المشترك. غير أن هذا الوعي الجديد يصطدم أحيانًا بواقع إداري لا يزال مترددًا في تقاسم السلطة، وبثقافة سياسية تعتبر التشاور مجرد إجراء بروتوكولي لا يغيّر في جوهر القرار شيئًا.
إننا اليوم أمام فرصة تاريخية لصياغة نموذج تنموي خاص بالأقاليم الجنوبية. تحديات التشغيل والسكن بالإقليم كانت حاضرة بقوة، حيث أشار المشاركون إلى ارتفاع معدل البطالة مقارنة بالمعدل الوطني، كما نبهوا إلى إشكالية الأراضي غير المستغلة التي يملكها أفراد منذ سنوات دون توظيفها في مشاريع تنموية، مما يعرقل دينامية الاستثمار ويؤثر سلبًا على فرص التشغيل بالجهة، ويُعد في الآن ذاته رافعة للاندماج الوطني، ودليلًا عمليًا على جدية مبادرة الحكم الذاتي.
لكن هذا النجاح يمر عبر شرط أساسي: إرادة وطنية جماعية تُلغي ثقافة الأنا، وتُعلي من شأن المصلحة العامة. فالمسؤولية لم تعد مركزية فقط، بل أصبحت موزعة: على المنتخب أن يكون في مستوى التمثيل، وعلى الإدارة أن تتخلى عن منطق الوصاية، وعلى المجتمع المدني أن ينتقل من الاحتجاج إلى الاقتراح، وعلى المواطن أن يُمارس مواطنته بوعي ومساءلة.
الرهان اليوم لا يكمن فقط في تنظيم لقاءات تشاورية، بل في جعلها لحظة حقيقية لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين من يقرر ومن يُفترض أنه يستفيد. وهذا يتطلب إرادة سياسية واضحة، وإطارًا مؤسسيًا ضامنًا، وأساسًا ثقافيًا يعيد الاعتبار للثقة كشرط أولي لأي تنمية مندمجة. فبدون ذلك، ستظل هذه اللقاءات مجرد مناسبات موسمية، تُلتقط فيها الصور وتُنسى فيها الوعود. الورشات ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لبناء تعاقد تنموي جديد، أكثر واقعية، وأقرب إلى المواطن، وأصدق تعبيرًا عن مغرب السيادة والحكم الذاتي.
فهل سينجح المسؤولون، كلٌّ من موقعه، في تنزيل التوجيهات الملكية السامية، وتطمينات الوالي بيكرات لساكنة الإقليم، بأن التشخيص سيعبر حقيقة عن إرادة واختيارات وطموحات ساكنة هذه الربوع؟
هذه مسؤوليتنا، ورسالتنا الإعلامية تفرض علينا ألا نسكت عن الحق، وأن نقول الحقيقة تنويرًا لمجتمع ينشد تعزيز الديمقراطية المحلية، برسالة مهنة نبيلة إسمها الصحافة.
نأمل ذلك... صادقين.
نأمل ذلك... صادقين.