Friday 31 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

بنرهو مصطفى: من الوساطة المرفقية إلى الوساطة الثقافية والتربوية مسلك نحو ادماج الشباب

بنرهو مصطفى: من الوساطة المرفقية إلى الوساطة الثقافية والتربوية مسلك نحو ادماج الشباب بنرهو مصطفى

 يشهد مفهوم الوساطة في السياق المغربي تحولاً عميقاً يعكس التحول في علاقة الدولة بالمجتمع، وفي تمثل الأدوار الجديدة للمرفق العمومي في حياة المواطنين، وخصوصاً فئة الشباب.  خاصة عندما نتحدث عن إدماج الشباب في المجتمع. فبعد أن ارتبطت الوساطة في بداياتها، بالبعد المرفقي الإداري الذي يسعى إلى تبسيط الخدمات العمومية وتسوية النزاعات بين الإدارة والمواطنين، بدأت تأخذ اليوم أبعاداً جديدة تتجاوز الطابع التقني والإجرائي لتلامس المجال الثقافي والتربوي والاجتماعي، باعتبارها أداة لإعادة بناء الثقة وترميم الفجوة القائمة بين الشباب والإدارة.

 

لقد كانت الوساطة المرفقية، في أصلها، مقاربة تهدف إلى تحسين جودة العلاقة بين المرتفق والمرفق العمومي، عبر تسهيل الولوج إلى الخدمات وتسوية الخلافات بأساليب ودية وغير قضائية. غير أنّها بقيت رغم أهميتها، مقاربة محدودة بحدود المنظور الإداري البحت، لأنها تشتغل في الغالب على الأعراض وليس على الأسباب. فالمشكل الحقيقي الذي يعمّق الهوة بين الشباب والإدارة لا يرتبط فقط بصعوبة المساطر أو ضعف التواصل، بل بمسألة أعمق تتصل بضعف الثقة، وغياب الإحساس بالمشاركة والانتماء، وتراجع دور المرافق العمومية كمجالات تربوية وثقافية تتيح للشباب التعبير عن الذات والانخراط في الشأن العام. من هنا يبرز التحول نحو الوساطة الثقافية والتربوية باعتبارها أفقا جديداً للفعل العمومي، يعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع من خلال الثقافة والتربية لا من خلال الإدارة فقط. إنها وساطة تعنى بالإنصات للشباب وتأطيرهم، وتمكينهم من أدوات الفهم والمبادرة والمشاركة. فالمؤسسات الثقافية ودور الشباب والمراكز التربوية، حين تُدار بروح الوساطة، تتحول إلى فضاءات للحوار والتفاعل والإدماج الاجتماعي، لا مجرد فضاءات لاستهلاك الترفيه، لان الوساطة الثقافية والتربوية تُعيد الاعتبار للبُعد الإنساني في السياسات العمومية. فهي تحول المرفق العمومي من سلطة تمارس التسيير إلى شريك ينتج الثقة والمواطنة، وتعلم الشباب أن الإدارة ليست خصماً بل حليفاً في بناء المصلحة العامة. بهذا المعنى، تتجاوز الوساطة الثقافية مجرد نقل المعلومة أو تبليغ القرار، لتصبح فعلاً تربوياً يعيد بناء الثقة والقيم المشتركة، ويمنح للثقافة وظيفة تنموية حقيقية.

 

وتعتبر الوساطة الثقافية عملية تربط بين المجال الثقافي والمجتمع، وتستخدم بوصفها أداة لتجديد العلاقة بين الشباب والثقافة، ومن صميم اختصاص القطاع الحكومي والجماعات الترابية وضع برامج للوساطة الثقافية لمواجهة أشكال الإقصاء الثقافي الذي يطال فئات واسعة من الشباب، وفي المقابل يقع على عاتق جمعيات المجتمع المدني الثقافية والتربوية مسؤولية تكثيف التفاعل مع الشباب، في سياق تطوير أدوات واستراتيجيات تعزز نقل الثقافة والأنشطة التربوية وتقريبها من الشباب.

 

وعندما تتحول الوساطة إلى ممارسة يومية داخل المرافق والمؤسسات، تصبح أداة فعالة للإدماج الاجتماعي، لأنها تقرب الإدارة من الواقع الاجتماعي، وتفتح أمام الشباب مسارات جديدة للمشاركة الثقافية والمواطنة الفاعلة. كما تسهم في بناء جسور بين المدرسة والمجتمع المدني، بين الثقافة والسياسة، وبين الفن والتربية، بما يجعل الفعل الثقافي أداة للحكامة لا مجرد ترف رمزي..

 

إن هذا التحول في معنى الوساطة يفرض على السياسات العمومية أن تتبناه كخيار استراتيجي، من خلال تكوين وسطاء ثقافيين وتربويين مؤهلين، قادرين على الإنصات للشباب بلغة يفهمونها، وعلى تيسير الحوار بين الأفراد والمؤسسات، وعلى تحويل القرب إلى مشروع دائم لا مجرد شعار. فالمجتمع الذي لا يملك قنوات وساطة فعالة، هو مجتمع مهدّد بالقطيعة والتوتر وفقدان الثقة في الدولة والمؤسسات.

 

إن رهان الوساطة الثقافية والتربوية اليوم هو إعادة بناء العلاقة بين الشباب والمرفق العمومي على أساس القيم والمعنى، والمسؤولية المشتركة. فالوساطة لم تعد مجرد آلية لتصريف الخلاف أو تيسير الخدمة، بل أصبحت أفقاً لبناء التعايش الاجتماعي والإدماج الثقافي، وإطاراً لإعادة إنتاج الثقة في زمن تتراجع فيه ثقة الأفراد بالمؤسسات. إنها في نهاية المطاف، فعل تربويّ يربط الإدارة بالإنسان، ويحول الخدمة العمومية إلى تجربة مواطنة.