لازلت أذكر، صبيحة يوم سادس نونبر 1975، حين اجتازت المسيرة الخضراء الحدود الوهمية ووجد المتطوعون والمتطوعات أنفسهم، بعد حوالي عشرين كيلومتر، أمام جدار رملي، يعلو لأزيد من متر ونصف يحتمي وارءه الجنود الإسبان.. كان سلاحهم باديا للعيان... دبابات مصفحة وعربات عسكرية ضخمة، بل كنا نرى بالعين المجردة أعشاش وضعت فيها رشاشات ضخمة.
كان عشرات الآلاف من المدنيين قد جاؤوا لتحرير وتوحيد بلادهم تقابلهم قوة عسكرية استعمارية على استعداد لإطلاق النار. هكذا كنا نشاهدهم وهم على بعد قرابة مائة متر وكانوا بدورهم يتساءلون ما العمل مع هذه القوة البشرية المستعدة للتضحية والاستشهاد.
تفضل أهل تافيلالت فأعطوني حنبلا» أي زربية تقليدية قديمة، ألقيت بجسدي عليها، بعد تعب المشي لمدة ست ساعات في شمس حارقة وأرض مليئة بالأحجار.... وسط التوتر والترقب... لما كان ينتظرنا ذلك الصباح، الذي انطلقت فيه المسيرة الخضراء، واجتازت الأسلاك، وسط تظاهر وطني وديني، وترديد لما ألفه المغاربة حين يستعدون للمواجهة.
قضيت الليلة الأولى في ترقب لما قد يحدث.. لازلت أذكر أن المتطوعين بمجرد وصولهم قبالة الجدار العسكري نصبوا خيامهم واستعدوا في انتظار كل التطورات المحتملة ... كنا نسترق السمع المعرفة ما يجري في أكادير، حيث الحسن الثاني... فمن هناك من تلك المدينة، أمر بانطلاق المسيرة ... ومن أكادير افتتح خطابه يوم خامس نونبر بالآية الكريمة... «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ.. غدا تنطلق المسيرة ... وهكذا كان...
قضى المتطوعون الليلة الأولى فوق أرض الصحراء، في عمق يعكس الإرادة في التحدي وتحطيم الحدود..... طيلة الليلة لم يتم المتطوعون بل نظم كل إقليم سهرة موسيقية تختلف عن الأخرى حسب الجهات والأقاليم.... كانت ليلة غريبة... كان الناس قرب جدار العسكر الإسباني يغنون ويرقصون، وأتساءل كيف كانت وضعية الجنود الإسبان، وأصابع أيديهم على زناد إطلاق النار ؟ ماذا كان شعورهم وأصداء الأغاني تغطي الأجواء ؟ كانوا يتساءلون عن رسائل هذا المهرجان وسط الظلام والتوتر وعدم الاكتراث لما قد تحمله الساعات القادمة.
قمت بجولة عبر مخيمات الأقاليم، وربما لأول مرة شعرت بغنى التراث المغربي الأصيل، ويتنوع الأنغام واللغات والملابس والرقصات.. كان واضحاً أن هذه الفرحة، حول مواقد الحطب المشتعلة، هي تأكيد للعزم على مواصلة التعبئة.. لم يكن سراً أن هذه الأنغام والرقصات مشعل للحياة واستعداد للتضحية.. أغاني قبل الشهادة.. شهداء الصحراء سيرحلون وهم يغنون فرحا بعودة الأرض والكرامة...
على "حنبل" أهل تافيلالت قضيت الليلة، أراقب النجوم وأشعر أني في قلب المعركة، وأن الساعات القادمة قد تكون حاسمة.. لم أكن على علم بما يجري في أكادير وكواليس الحكم ولكني كنت على اقتناع بأن الحسن الثاني لم ينم هو الآخر.. كان على علم أن شعبه لن يطمئن حتى يستعيد الصحراء وأن المسؤولية جسيمة وحياة عشرات الآلاف بين يديه، مستعد أوامره بل مستعدة للتضحية الكبرى.
في الصباح، إذا أمكن القول بأنه كان هناك اءت سيدة تحمل كأسي شاي وقطعة خبز وقليل من الزيت وقدمتها لي ولصديقي بنعيسى الفاسي رحمه الله كنا جائعين متأثرين بموجة برد فاجأتنا ليلاً مما على حنبل» أهل تافيلالت قضيت الليلة، أراقب النجوم وأشعر أني في قلب المعركة، وأن الساعات القادمة قد تكون حاسمة.. لم أكن على علم بما يجري في أكادير وكواليس الحكم ولكني كنت على اقتناع بأن الحسن الثاني لم ينم هو الآخر.. كان على علم أن شعبه لن يطمئن حتى يستعيد الصحراء وأن المسؤولية
جسيمة وحياة عشرات الآلاف بين يديه مستعدة لتطبيق أوامره بل مستعدة للتضحية الكبرى.
جسيمة وحياة عشرات الآلاف بين يديه مستعدة لتطبيق أوامره بل مستعدة للتضحية الكبرى.
في الصباح، إذا أمكن القول بأنه كان هناك صباح، جاءت سيدة تحمل كأسي شاي وقطعة خبز وقليل من الزيت وقدمتها لي ولصديقي بنعيسى الفاسي رحمه الله كنا جائعين متأثرين بموجة برد فاجأتنا ليلاً مما ضاعف من متاعبنا ونحن بدون غطاء...
تساءلت... والآن ما العمل؟ وكم سنقضي في وضعية ما هي بالسلم وما هي بالحرب؟ فجأة حلقت في الأجواء طائرة صغيرة بمحرك واحد في مقدمتها.. كان واضحاً أن أحد ركابها يوجه رشاشته نحو المتطوعين . صاح الجميع «الله أكبر مشيرين إلى الطائرة بعلامات الاحتجاج.. ردّد الجميع الإسبان يستعدون للهجوم... انسحبت الطائرة وبعد ساعة عادت إلى التحليق وهي تحمل لا فتة كبيرة كتب عليها التلفزة الإسبانية... وتبين أن ما توهمناه رشاشاً، كانت كاميرا يصوبها نحونا مصور صحفي.
هكذا قضينا أربعة أيام نراقب الجدار العسكري الإسباني وننتظر أخبار أكادير.. فجأة استمعنا إلى خطاب التاسع من نونبر 1975 من أكادير دائما.. قال الملك... أنا سأعود إلى مراكش وأنتم ستعودون إلى منطلقكم»، ومعنى ذلك أننا سنغادر أرض الصحراء... سنقطع العشرين كيلومترا هذه المرة في الاتجاه المعاكس.. كان علينا أن نتراجع عما حققناه.
لم نفهم هذا القرار بل رفضه البعض وبكا آخرون واستسلمت الأغلبية وتلك قصة أخرى....
لم نفهم هذا القرار بل رفضه البعض وبكا آخرون واستسلمت الأغلبية وتلك قصة أخرى....

