Wednesday 29 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

بنسعيد الركيبي: الشرعية القبلية في بناء السيادة المغربية على الصحراء

بنسعيد الركيبي: الشرعية القبلية في بناء السيادة المغربية على الصحراء بنسعيد الركيبي
حين يتحدث المحللون والمهتمون بنزاع الصحراء، كثيرا ما يغفلون الركيزة الأولى التي شكلت هوية المجال وحددت مصيره قبل أن تتدخل الجغرافيا السياسية الحديثة وهي القبائل الصحراوية. فقبل الخرائط الاستعمارية، كانت هذه القبائل هي من ترسم الحدود الواقعية، وتحسم الولاءات وتؤسس شرعية الدولة في امتدادها الطبيعي جنوبا. ولذا فإن الحديث عن السيادة في الصحراء لا يمكن أن يفهم خارج سياق العلاقة التاريخية التي جمعت هذه القبائل بالمخزن المغربي عبر قرون من البيعة والانتماء والمشاركة في الدفاع عن التراب الوطني.
 
فمنذ القرن السابع عشر، ارتبطت كبريات القبائل الصحراوية - كالرقيبات، وأولاد دليم، وأيت باعمران، وأولاد تدرارين، وأيتوسى وآيت لحسن وإيزركيين - بعلاقات مباشرة مع الدولة المركزية في فاس ثم مراكش. هذه العلاقة لم تكن شكلية ولا رمزية، وإنما كانت مؤسساتية وشرعية. إذ كانت البيعة للسلطان تتجدد دوريا في شكل وفود قبلية، ومراسلات مكتوبة وإرسال للضرائب والزكوات، مقابل الحماية والرعاية. فكانت تلك البيعة تعبيرا عن مفهوم السيادة في صيغته التاريخية المغربية المتميزة ، حيث الدولة تبنى من الأطراف نحو المركز عبر شبكة من الولاءات المحلية التي تشكلت حول الشرعية الدينية والسياسية للعرش العلوي.
 
وقد أثبتت الوثائق الدبلوماسية التي عرضها المغرب أمام محكمة العدل الدولية سنة 1975 أن رؤساء القبائل الصحراوية كانوا مرتبطين بمؤسسات الدولة المغربية، وأن السلطان كان يعين القضاة والقياد ويمنح ظهائر التعيين في سوس والصحراء كما يمنحها في باقي مناطق البلاد. لذلك خلصت المحكمة نفسها إلى أن “روابط الولاء بين الصحراء والدولة المغربية كانت موجودة قبل الاستعمار الإسباني”.
 
وبعد الاستقلال تعززت طبيعة هذه العلاقة ولم تتغير. ومنذ عودة هذا الإقليم التحق الآلاف من أبنائها، بمؤسسات الدولة، من الجيش إلى الإدارة إلى التمثيلية البرلمانية. وهكذا انتقلت الشرعية من المستوى الرمزي إلى مستوى المشاركة السياسية، فأصبح أبناء القبائل هم من يسيرون شؤون الأقاليم الجنوبية بأنفسهم. معبرين بذلك عن انخراطهم في المشروع الوطني. كما أصبح صوتهم حاضرا في الدبلوماسية الموازية من خلال شيوخ القبائل الذين يمثلون المغرب في المؤتمرات الدولية. وهذه الدينامية جعلت من “القبائل” فاعلا سياسيا معاصرا يجسد في الميدان مبدأ “تقرير المصير الداخلي” الذي هو جوهر مبادرة الحكم الذاتي المغربية.
 
وفي الجهة الأخرى يواصل خصوم الوحدة الترابية محاولة اختزال الصحراويين في جماعات معزولة داخل تندوف، متجاهلين أن الغالبية الساحقة من أبناء القبائل يعيشون في مدن مغربية مزدهرة ويتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة، ويشاركون في كل مظاهر الحياة العامة.
 لقد فشل الخطاب الإنفصالي ومناصروه لأنه تجاهل الحقيقة السوسيولوجية: من يعيش في الأرض هو من يملك الكلمة فيها، ومن يشارك في عمرانها لا يمكن أن يختزل في سردية منفية.

 
إن الشرعية القبلية ليست مجرد تراث اجتماعي، بل أساس سياسي وأخلاقي لسيادة المغرب على صحرائه. فالدولة المغربية لم تأت إلى الصحراء كغالب أو كقوة استعمارية، وإنما استرجعتها بصفتها وارثة لعقد اجتماعي قديم ربط القبائل بالعرش. هذه الشرعية المتجذرة في الوجدان الجماعي للصحراويين تفسر لماذا ظل الولاء للوطن قائما رغم عقود من التآمر والدعاية.
 
 ومع التحولات التي يعرفها الملف داخل مجلس الأمن، تعود القبائل الصحراوية إلى الواجهة بوصفها صاحبة الشرعية الأصلية. فهي التي تمنح السيادة معناها الواقعي، وهي التي حسمت الإنتماء منذ زمن بعيد حين اختارت المغرب بيتا ووطنا. ومهما حاولت السياسة أن تغير الموازين، يبقى صوت التاريخ أصدق. فمن بايع لا ينكر بيعته، ومن عاش في الأرض لا يتنكر لترابها.