الرسالة الملكية التي وجهها أمير المؤمنين الملك محمد السادس، إلى علماء الأمة مؤخرا، بمناسبة مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجسد مبدأ الاستمرارية على نهج الأسلاف في خدمة الدين والدفاع عنه، والتعريف به وبأحكامه، وتعظيم حرماته، ونشر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله للعالمين بشيرا ونذيرا، وبالتالي فإن هذه الرسالة تعد واسطة عقد سلسلة الرسائل ذات الحمولة والغرض الديني، التي أصدرها أمراء وملوك الدولة المغربية الشريفة، منذ نشأتها إلى الآن، حيث يكشف التاريخ الحافل لهذه الدولة، عن عدد من الرسائل التاريخية الفارقة التي كان لها الأثر الكبير في ثبات الهوية الإسلامية للمملكة المغربية الشريفة واستقرارها وتكاملها.
فهذه المملكة المغربية الشريفة التي يقارب تاريخها، ثلاثة عشر قرنا من الزمن، أسست أول ما أسست، من قبل المولى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عام 172 للهجرة، على ما أعلنته رسالته إلى الأمازيغ المغاربة، وفيها يعلن المبادئ الفلسفية لهذه الدولة وملخص ما جاء فيها: «أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم" ثم بعد ذلك يدعوهم إلى : "إحياء السنة وإماتة البدعة وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد" ثم ذكرهم بمن قد مضى وغبر، وما أحدثوه من الفتن ونقض عهود الله، وقتل بني نبيه صلى الله عليه وسلم: " فقد نبذوا الكتاب والإسلام، فلم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه" وهكذا استمرت الرسالة في شرح أهداف الدعوة الإدريسية القائمة على نشر الإسلام " والعدل في الرعية والقسم بالسوية " والمجاهرة لأهل العداوة والعصيان باليد واللسان، " بالدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة والنصيحة والحض على طاعة الله والتوبة عن الذنوب بعد الإنابة والإقلاع والنزوع عما يكره الله، والتواصي بالحق والصدق والصبر والرحمة والرفق، والتناهي عن معاصي الله كلها والتعليم والتقديم لمن استجاب لله ورسوله حتى تنفذ بصائرهم وتكمل وتجتمع كلمتهم وتنتظم".
وهكذا استمر المولى إدريس الأكبر في بيان منهجه وما يقوم عليه من مبادئ قويمة لإصلاح المجتمع وجمع كلمته، على أساس عهد الله وميثاقه والاستجابة والطاعة لصاحب النسب الشريف والمحتد النبوي المنيف المولى إدريس الأكبر.
فالرسالة كما نرى من حيث مضمونها تقوم على الدين وعلى تعظيم حرماته وعلى جمع الكلمة على أساسه، وهو الأساس نفسه الذي قامت عليه دولة الأشراف العلويين بعد قرون على ذلك، وهو المبدأ نفسه الذي لا زالت هذه الدولة تقوم عليه وتحفظ أمانته، وهو ما أكدته الرسالة الملكية إلى العلماء المشار إليها سابقا.
فرسالة المولى إدريس هذه، أرست معالم المهمة التي التزم بها الإمام إدريس الأكبر أمام المغاربة، ومما التزم به؛ تثبيت الهوية الإسلامية للدولة المغربية القائمة على الكتاب والسنة، والإمامة من سلالة العترة النبوية الشريفة القادمة من المشرق، ممثلة في المولى إدريس الأكبر، ومن يأتي بعده من هذه السلالة، وما هي إلا سنوات مرت على هذه الرسالة، حتى كانت هذه الهوية التي أعلنت في تلك الرسالة كمبدأ دستوري للدولة المغربية، قد ترسخت وأصبحت أساسا فاعلا، ومحركا محوريا في جميع النشاطات الهادفة إلى حماية المصالح الحيوية لهذه الدولة، ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها، وجاءت مناسبة تأكيد هذه الهوية بعد ذلك، على لسان وارث سر المولى إدريس الأكبر، نجله المولى إدريس الأصغر، الذي وقف أمام وفود القبائل المغربية التي جاءت مبايعة له بمدينة وليلي، وخاطبهم بعبارة جامعة بليغة، استلهم فيها ما التزم به والده، لكن بعبارة يمكن اعتبارها من جوامع الكلم، التي لا تصدر إلا عن رجل خبر الحياة، وفهم السياسة واستوعب النظام الدستوري الذي أرست معالمه الشريعة الإسلامية، بما اشتمل عليه من بيان أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فكيف إذا كانت هذه العبارة بما تضمنته وببلاغة نظمها، صادرة عن شاب زكي وفتى يافع لا يتجاوز عمره أحد عشر ربيعا، ومما قاله: " أيها الناس، إنا قد ولينا هذا الأمر الذي يضاعف للمحسن فيه الأجر، وللمسيء الوزر، ونحن ولله الحمد على قصد جميل، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإن ما تطلبونه من إقامة الحق، إنما تجدونه عندنا." وكيف لا يكون الحق معه وهو يستمد من نصوص الشرع؛ كتابا وسنة، ويسير على نهج جده صلى الله عليه وسلم وأبيه وسائر أجداده الأشراف من قبله؟ فقد كانت هذه الكلمة البليغة مثار عجب من قبل الناس في ذلك الوقت، شاهدين له بالفصاحة وثبات الجأش ورباطته، على حداثة سنه، وقلة سني عمره، ولا عجب في ذلك، فإن هذا الشبل من ذلك الأسد.
فبعد هذه الرسالة الأولى وتأكيدها من قبل هذا النجل الزكي، بدأ المغاربة يتعرفون على هويتهم الدينية، ويلقنونها لأبنائهم وبناتهم، ويطبعونها بخصوصياتهم القائمة على الولاء لآل البيت النبوي، المؤسسة على ثوابت ترسخت مع مرور الزمن، وهي العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف السني، وإمارة المؤمنين، فقد وجد المغاربة شخصيتهم في هذه الثوابت وتحقق بها أمنهم واستقرارهم، لأنها تناسب طبيعتهم وطريقة تفكيرهم، القائمة على الحرية في الاعتقاد والاقتناع.
وعبر الحقب والقرون التي مر منها التاريخ المغربي، ترسخت هذه الثوابت واستقرت وأصبحت من المبادئ المجمع عليها من قبل جميع المغاربة، ولا يسمحون بأي مساس بها، لأنها أساس الاستقرار والاستمرار، وعندما حاول بعض حكام الدولة المغربية، المس بالوحدة المذهبية للمغاربة القائمة على المذهب المالكي، في عهد الدولة الموحدية، التي كانت متبعة للمذهب الظاهري، الذي ارتضاه لهم المهدي بن تومرت، لم يستطيعوا، فقد كان فقهاؤهم يُحكمون الرأي فيما يَعرض لهم من قضايا، متجنبين مذهب مالك ومُتهمين فقهاءه بالجمود والتعصب، غير أن خلفاء الموحدين شعروا بعد ذلك بأن الحزمية لا تناسب طبيعة المغاربة، المتأثرين بالمذهب السني على طريقة الإمام مالك، وهذا يدل على تجدر المذهب المالكي لدى المغاربة، وأنهم لا يعرفون مذهبا غيره، لما يمتاز به هذا المذهب من انفتاح على غيره من المذاهب، ولما يمتاز به كذلك من قابلية للتطور والتجديد، ومواكبة مستجدات العصر، ويمتاز كذلك بمرونة في معالجة كثير من القضايا، هذا بالإضافة إلى ميله إلى الأخذ بمبادئ السماحة واليسر والتوسط والاعتدال في تقرير الأحكام، كما أشرنا إلى ذلك في المقالة السابقة، وغير ذلك من المميزات والخصائص، ولا شك أن طبيعة هذا المذهب هي التي جعلت المغرب ملاذا للقاصدين من كل الأمصار والأقطار، وخصوصا من الأندلس وإفريقيا، للدراسة وطلب العلم بالقرويين بفاس، التي تعد إحدى مراكز العلم الأقدم على مستوى العالم، وقد ساهمت بشكل كبير في سيادة ثقافة التعايش السلمي، والميل إلى تقبل الآخر واحتضانه، واحترام خصوصياته الدينية، وعدم التعرض له بالإساءة أو الإرغام على الرجوع عن رأي أو تقبل ما لا يعتقد.
وقد مرت سنوات طويلة جدا وقرون عديدة عن ترسخ هذه الهوية الدينية، القائمة على الثوابت المشار إليها، منذ رسالة المولى إدريس إلى الآن، ولا زالت هذه الهوية الدينية للدولة المغربية، في تمام قوتها ونضجها، وفاعليتها ونجاعة دورها، في ترسيخ وحدة الأمة المغربية واستقرارها وأمنها، وحفظها من أي خطر ناتج عن التيارات الفكرية الخارجية، وتأثيراتها الهدامة، وما الرسالة الملكية الموجهة إلى العلماء، بمناسبة مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد خير البرية، ورسول الله إلى كافة البشرية، إلا دليل قاطع على فاعلية هذه الهوية، وحيويتها وقوتها، وكونها قائمة على دور إمارة المؤمنين في أداء واجب حراسة الدين، وحماية الملة في أصولها ومقدساتها، وما تقوم عليه، وبهذا يحصل الاستمرار على ما أرساه المؤسس الأول، ويتحقق بذلك الوفاء لصاحب الرسالة الأعظم صلى الله عليه وسلم، وتحصل بذلك البركة على يد مولانا أمير المؤمنين سليل الشرف النبوي، في تحقيق ثمرات ميراث جده، في نفع البرية وصلاح الرعية، ومثل هذا لا تمد الأعناق إلى غيره، وإنما يجب أن تمد الأعناق إليه، طلبا للحق الذي أجراه الله على يدي وراث نبيه صلى الله عليه وسلم من آل بيته، باعتبار ذلك من نعم الله التي لا بد من شكره عليها، مصداقا لقوله تعالى: " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم"