Wednesday 8 October 2025
كتاب الرأي

أحمد المطيلي: لماذا يجب أن تكون العربية لغة التدريس؟

أحمد المطيلي: لماذا يجب أن تكون العربية لغة التدريس؟ أحمد المطيلي
لقد نُشرت أبحاث كثيرة عن ضعف الكفاية اللغوية في اللغة الأصلية وصلته بالتعلم المبكر للغة الأجنبية في المدرسة. والرأي الراجح أن الطفل لا يستطيع أن يشرع في تعلم لغة أجنبية تعلما نظاميا ما لم يتمكن أولا من امتلاك ناصية لغته الأصلية. وذلك أن الاحتكام إلى وحدة لغوية متماسكة يؤهل الطفل لتعلم لغة أجنبية واحدة أو أكثر، ويجنبه التداخل اللغوي الذي يتسبب في قدر من التشتت والاضطراب، ولاسيما في المراحل المبكرة من العمر.
 
وعليه فإن الازدواجية اللغوية التي لا تستند إلى وحدة ثقافية تلم شعث مختلف التشعبات والروافد الثقافية وترسخ السيادة اللغوية داخل الوطن الواحد توشك أن تشوش على الطفل كفايته اللغوية وتبث في نفسه التوجس والتمزق بين مراجع لغوية وثقافية متباينة. وقد يودي ذلك إلى الانكفاء على الذات وكراهية اللغات الأجنبية أو النفور من اللغة الأصلية ذاتها والانغماس التام في اللغات الأجنبية وما يستتبع ذلك من الاستيلاب والتغريب والانسلاخ عن مقومات الهوية الروحية والثقافية للمجتمع بأسره تحت وقع الهيمنة الرقمية والعولمة الثقافية الكاسحة.
 
وتدل كثير من الأبحاث على أن مزاحمة اللغة الأجنبية للغة الأصلية في التعليم أو الاعتماد عليها في تعليم العلوم كما هو الحال في منظومتنا التعليمية كفيل بأن يستتبع مشكلات لغوية شفاهية وكتابية ما فتئت تسترعي انتباه علماء النفس اللغوي. ومن ذلك مثلا :
بطء الكفاية اللغوية لدى الأطفال المزدوجي اللغة بالمقارنة مع الأطفال الذين يتعلمون بلغتهم الأصلية. ومرد ذلك إلى اقتسام الزمن المدرسي بين تعلم لغتهم الأولى واللغة الأجنبية الثانية ودرجة تباين المرجعيات اللغوية والثقافية للغات التي يعايشونها تلفظا وكتابة وتداولا. فبقدر تباعد المرجعيات وتباين نظام الكتابة يتضاعف الجهد الذي يبذله المتعلم وتتباطأ كفايته اللغوية الأصلية. فلا جرم أن يتذيل التلميذ المغربي قائمة الدول المتبارية فيحتل المراتب الأخيرة أو ما قبل الأخيرة في التحصيل الدراسي في القراءة، وهو ما تؤكده الأبحاث المتتالية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
 
ضعف التحصيل الدراسي: لا ريب أن الضعف العام الذي يشكو منه التلميذ المغربي في اللغة الفرنسية يحول بينه وبين تعلم المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء لأن ذلك يُلزمه حينئذ أن يبذل مجهودا مضاعفا ليتمكن أولا من لغة التدريس قبل أن يتفرغ لدراسة المواد المدروسة فهما واستيعابا وتذكرا. وقد بينت الأبحاث التي أجريت عند تعريب المواد العلمية عن تحسن مستوى التلاميذ على نحو ظاهر للعيان في مختلف المواد العلمية.
 
الازدواجية اللغوية النابذة: إذا ما قدر للطفل أن يتعلم لغتين لهما حظوة متكافئة كان أقدر على أن يكتسب مرونة معرفية تميزه عن الطفل الذي لا يتكلم إلا لغة واحدة. والحال أن نظامنا التعليمي إذ يضاعف مُعامل اللغة الفرنسية بالنسبة إلى اللغة العربية في بعض مراحل التعليم إنما يرسخ وضعا دونيا للغة العربية ويكرس ازدواجية لغوية تعزز مكانة اللغة الفرنسية وتحمل المتعلم على تبخيس اللغة العربية والتفريط في تعلمها والتفرغ لإتقان اللغة الفرنسية لاسيما تلاميذ المسالك العلمية.
 
الامتعاض اللغوي: يقصد به ما يضمره الطفل من نفور تجاه تعلم لغة ما ولتكن اللغة الأجنبية الأولى أو الثانية لأسباب عدة نفسية وأسرية وتعليمية فيعرض عنها ولا يجتهد في تعلمها. ومن الطبيعي حينئذ أن يتعذر عليه الاستيعاب والفهم وقد تتدهور حصيلته اللغوية تدهورا لافتا للأنظار. ولعل الامتعاض اللغوي أن يكون أحد الأسباب التي تفضي إلى ارتفاع نسبة التلاميذ الذين "لم يكتسبوا بالمرة طوال سنوات السلك الابتدائي الموارد الضرورية لمتابعة دروس اللغة الفرنسية في السنة السادسة ابتدائي" وفهمها والتعبير بها تحدثا وكتابة[1]. فلا غرابة أن يُضمروا في أنفسهم نفورا من اللغة الفرنسية حتى ليرفضوا تعلمها رفضا تاما ومطلقا.
 
التداخل اللغوي: يتمثل في تداخل البنى التركيبة والدلالية والصواتية للغتين أو أكثر تداخلا تلتبس معه البنى اللغوية فينزع المتعلم منازع شتى تحمله على تلهيج للعربية مثلا أو تفصيح للدارجة وتمزيغ للعربية وتعريب للأمازيغية و"تدريج الفرنسية" وفرنسة العربية. ومن هنا كان منشأ "العرنسية" و"الفرنبية" و"الفرنزية". والأخطر ما في الأمر أن يشمل التداخل اللغوي الجانب الشفاهي والمكتوب معا كاستعمال الحروف اللاتينية لكتابة اللهجات المغربية كالدارجة والشلحية والريفية والسوسية في وسائل التواصل الاجتماعي على نحو غير مسبوق.
 
التشوش اللغوي: ما أكثر ما يصاب المتعلم بنوع من الارتباك والتخبط فلا يدري بأي لغة يتحدث أو يكتب في مواقف التفاعل والتواصل الاجتماعي حتى داخل بيئته الأسرية وفي مجال تخصصه. فقد يُطلب من متعلم كتابة اسمه وتسجيل عنوانه فيحتار بين العربية والفرنسية. وقل مثل ذلك عمن يتقدم لشغل منصب أستاذ في اللغة العربية أو مادة الاجتماعيات مثلا فيشفع طلبه بنسخة من نهج سيرته يرى من الأسلم أن يحررها بالفرنسية لا بالعربية. كل ذلك ينبئ عن تشوش لغوي وافتقار للأمن اللغوي الذي يسم مجتمعا فقد سيادته اللغوية ونسي أصله وفصله.
 
والحق أن فرنسة التعليم والتراجع المريب عن التعريب في السنوات الأخيرة قد أفضيا إلى عجز لغوي مزدوج، وهو عجز يحمل أعدادا متزايدة من أساتذة الجامعات على اعتماد اللهجة الدارجة في الشرح والتفسير لمختلف المواد الأدبية والعلمية على السواء. وأما اللغة الفرنسية فقد يعجب المرء كيف أن السنوات الطوال التي يقضيها التلاميذ على مقاعد الدراسة لا تسعفهم في نهاية المرحلة الثانوية بكتابة جملة مفيدة بلغة موليير. وقد قُدِّر لي خلال مساري المهني نفسانيا وأستاذا زائرا أن قابلت الآلاف من هؤلاء الأطفال والشباب فكان يعز علي أن أرى ما هم عليه من الضعف فأشفق لحالهم.
 
لأجل ذلك كله كان لزاما أن تكون لغتنا الوطنية الأولى لغة التدريس، كيف واللغة العربية لا تقل شأنا عن اللغة التركية والفارسية والأوكرانية والرومانية والسويدية. إنما لا بد من إعدادها وتأهيلها بشتى الوسائل لخوض غمار التعليم الجامعي في جميع أسلاكه وشُعبه. فلم يعد خافيا أن الأصل في التعليم أن يكون باللغة الأصلية للمتعلمين وليس باللغة الأجنبية، وما من أمة ترقت في مدارج الآداب والعلوم والفنون والصنائع وقامت لها قائمة إلا بلغتها. فهذا مطلب حضاري وحتمية تاريخية لا مرد لها طال الزمن أو قصر.
 
وعندي أن التدريس باللغة العربية كفيل بتحقيق جملة من المنجزات أجملها فيما يلي:
تمكن المتعلمين من لغة التدريس وامتلاك ناصيتها قراءة وكتابة ومخاطبة على النحو الذي ييسر عليهم استيعاب مختلف المواد الدراسية بلا استثناء ويمضوا قُدما في مسارهم الدراسي. ومن شأن ذلك أن يقلص نسبة الهدر المدرسي وينتشل من وهدة الضياع كل سنة مئات الآلاف من التلاميذ الذين يتهددهم الانقطاع الدراسي كل سنة.
 
ارتفاع الانتساب إلى المسالك العلمية: لا ريب أن تدريس العلوم باللغة العربية كفيل بأن يجتذب نسبة أكبر من الطلبة الحاصلين على البكالوريا العلمية إلى التخصصات العلمية المناسبة لميولهم ورغباتهم بدل الاتجاه نحو الدراسات الاقتصادية والقانونية كما يحصل منذ عدة عقود. فما أكثر ما تقف اللغة الفرنسية حاجزا أمام التلاميذ للانتساب إلى المعاهد العلمية والتقانية !
 
تعزيز الانتماء الحضاري للمتعلمين: لقد كان تعريب التعليم أحد المطالب الرئيسة التي دعت إليها الهيئات الفكرية والثقافية والسياسية ببلادنا حتى قبل الاستقلال. فهو مطلب عزيز يمس الاعتداد بالذات وبالمنعة الحضارية للأمة ويخلصها من الشعور بالدونية والتبعية الفكرية الذليلة ويحررها من الاستعمار اللغوي البغيض وأذنابه.
 
ترشيد السياسة اللغوية المتبعة في النظام التعليمي في ضوء البحوث الميدانية القائمة على رغبات الأبناء والآباء وكفاياتهم اللغوية ومقتضيات العصر الحديث. فلا يحق بحكم التفاوت الحاصل بين التلاميذ على صعيد الذكاء اللغوي أن يُلزم التلاميذ بازدواجية أو تعددية لغوية موحدة للجميع. ولذا كان لزاما أن تُراجع السياسة اللغوية المتبعة على صعيد القطاعات المعنية بالتعليم والتكوين. والأولى اعتماد الازدواجية اللغوية المخففة (ساعة أو ساعتين في الأسبوع لا أكثر) كما هو معمول به في معظم البلدان المتقدمة حتى يتمرس المتعلم باللغات الأجنبية ولاسيما اللغة الانجليزية تمرسا يحقق تكاملا مع اللغة العربية يُفيد المتعلم في بناء رصيده اللغوي المكتسب ويواكب التطور الحاصل في مجال العلم والتقانة. ولا بأس بعد ذلك في المراحل الثانوية أو الجامعية من تكثيف تعلم اللغات الأجنبية للتلاميذ والطلبة بناء على نوع دراستهم ومبلغ ذكائهم اللغوي.
 
وأما التمادي في اتخاذ الفرنسية -وهي على ما عليه من التعقيد نطقا ونحوا وصرفا- لغة للتدريس بديلا عن اللغة الوطنية فهي جناية في حق الأجيال المتعاقبة من المتعلمين ومخاطرة تتهدد مستقبل البلاد والعباد. وأي جناية أشد وأنكى من أن يقضي الكثرة الكاثرة من التلاميذ السنوات الطوال على مقاعد الدراسة وهم غير متمكنين من لغة أمتهم حتى يتابعوا تحصيلهم الدراسي في المرحلة الثانوية والجامعية ولا هم ملمين باللغة الفرنسية إلماما يقتدرون به على فهم ما يجري في البلدان الأجنبية ! وما الاحتجاجات الأخيرة التي يقودها الآلاف من الشباب في الآونة الأخيرة في مختلف ربوع المغرب إلا إيذانا بالوضع المتردي للتعليم وثورة في وجه الضعف اللغوي المزدوج الذي يستشري كالنار في الهشيم وينذر بالخسران المبين.
 
[1] المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي (2021)، البرنامج الوطني لتقييم المكتسبات لتلامذة السنة السادسة ابتدائي والسنة الثالثة إعدادي. PNEA 2019، تقرير تحليلي. الرباط، الهيئة الوطنية للتقييم لدى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي دجنبر 2021، ص. 102.